آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ

رضوان سلمان حمدان

26

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾النساء136

في ظلال النداء (1)

إنه النداء الثاني للذين آمنوا . بصفتهم هذه التي تفردهم من الجاهلية حولهم . وتحدد وظيفتهم وتكاليفهم . وتصلهم بالمصدر الذي يستمدون منه القوة والعون على هذه التكاليف!

فهو بيان لعناصر الإيمان التي يجب أن يؤمن بها الذين آمنوا . بيان للتصور الإسلامي الاعتقادي:

فهو إيمان بالله ورسوله . يصل قلوب المؤمنين بربهم الذي خلقهم ، وأرسل إليهم من يهديهم إليه ، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإيمان برسالة الرسول وتصديقه في كل ما ينقله لهم عن ربهم الذي أرسله .

وهو إيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله . يربطهم بالمنهج الذي اختاره الله لحياتهم وبينه لهم في هذا الكتاب؛ والأخذ بكل ما فيه ، بما أن مصدره واحد ، وطريقه واحد؛ وليس بعضه بأحق من بعضه بالتلقي والقبول والطاعة والتنفيذ .

وهو إيمان بالكتاب الذي أنزل من قبل . بما أن مصدر الكتب كلها واحد هو الله؛ وأساسها كذلك واحد هو إسلام الوجه لله؛ وإفراد الله سبحانه بالألوهية - بكل خصائصها - والإقرار بأن منهج الله وحده هو الذي تجب طاعته وتنفيذه في الحياة . . وهذه الوحدة هي المقتضى الطبيعي البديهي لكون هذه الكتب - قبل تحريفها - صادرة كلها عن الله . ومنهج الله واحد ، وإرادته بالبشر واحدة

، وسبيله واحد ، تتفرق السبل من حولها وهي مستقيمة إليه واصلة .

والإيمان بالكتاب كله - بوصف أن الكتب كلها كتاب واحد في الحقيقة - هو السمة التي تنفرد بها هذه الأمة المسلمة . لأن تصورها لربها الواحد ، ومنهجه الواحد ، وطريقه الواحد ، هو التصور الذي يستقيم مع حقيقة الألوهية . ويستقيم مع وحدة البشرية . ويستقيم مع وحدة الحق الذي لا يتعدد . . والذي ليس وراءه إلاَّ الضلال { فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ } وبعد الأمر بالإيمان ، يجيء التهديد على الكفر بعناصر الإيمان ، مع التفصيل فيها في موضع البيان قبل العقاب: ﴿ومن يكفر بالله ، وملائكته وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، فقد ضل ضلالاً بعيداً﴾. .

وقد ذكر في الأمر الأول الإيمان بالله وكتبه ورسله . ولم يذكر الملائكة . وكتب الله تتضمن ذكر الملائكة وذكر اليوم الآخر ، ومن مقتضى الإيمان بهذه الكتب الإيمان بالملائكة وباليوم الآخر . ولكنه يبرزها هنا ، لأنه موطن الوعيد والتهديد ، الذي يبين فيه كل عنصر على التحديد .

والتعبير بالضلال البعيد غالباً يحمل معنى الإبعاد في الضلال ، الذي لا يرجى معه هدى؛ ولا يرتقب بعده مآب!

والذي يكفر بالله الذي تؤمن به الفطرة في أعماقها كحركة ذاتية منها واتجاه طبيعي فيها ، ويكفر بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، استمداداً من كفره بالحقيقة الأولى . . الذي يكفر هذا الكفر تكون فطرته قد بلغت من الفساد والتعطل والخراب ، الحد الذي لا يرجى معه هدى؛ ولا يرتقب بعده مآب!

هداية وتدبر(2)

1. المشار إليهم بقوله يا أيها الذين آمنوا ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهم المسلمون.. قاله الحسن فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا بمحمد والقرآن اثبتوا على إيمانكم.

والثاني: اليهود والنصارى.. قاله الضحاك فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن.

والثالث: المنافقون.. قاله مجاهد فيكون المعنى يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بألسنتهم آمنوا بقلوبكم.

2. هذه الآية تدل على وحدة الرسالة النبوية إلى الخليقة، إذ إن لبها هو الإيمان بالله ورسله وملائكته والكتب التى أنزلت على رسله، وأن المتأخرين يجب عليهم أن يؤمنوا بما جاء به السابقون لهم؟ لأن الرسالة الإلهية سلسلة متصلة الحلقات، كل حلقة منها تالية لسابقتها، وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إن صرح النبوة واحد" (3) تمامه وكماله.

3. النص الكريم فيه أجزاء الإيمان التى يلازم بعضها بعضًا، ولا ينفصل واحد منها عن باقيها،

فهى كل لا يقبل التجزئة، ولا يمكن أن يتحقق معناه إلا باتصاله بعضه ببعض.

وأول عناصر الإيمان هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى. وذلك باعتقاد أنه واحد أحد فرد صمد، فوق كل شىء وليس فوقه شىء، ليس كمثله شىء، منفرد وحده بالألوهية، فهو الواحد فى ذاته وصفاته، وهو الواحد فى خلقه وتدبيره، فهو نجالق كل شىء؟ وهو القادر على كل شىء، وهو القاهر فوق عباده، وهو الواحد فى استحقاقه للعبادة، فلا يعبد بحق سواه.

هذه إشارات إلى معنى الإيمان بالله الرحمن الرحيم ذى الجلال والإكرام.

4. إن الإيمان بالله تعالى على ذلك النحو يقتضى الإيمان بان رحمته توجب ألا يترك الناس هملاً يضلون، ولا يهتدون، ولا يقومون بحق الطاعة، بل لا بد من بشير ونذير، ومن يكون رحمة للعالمين، فلا بد من الرسل يرسلهم، وكان حقا على الذين يدركون رسولا أن يؤمنوا به، فكان حقا على الذين أدركوا محمدا أن يؤمنوا به.

5. المراد من رسوله هنا محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وذلك واضح من الإفراد ومن تكرار كلمة الرسول مقترنة بالكتاب الذى ينزل تنزيلا.

6. والكتاب الذى نزل على رسوله هو القرآن الكريم، وقد ذكر التعبير عن نزوله بـ(نَزَّلَ) للإشارة إلى نزوله منجمًا، وأنه لم ينزل جملة واحدة، وأنه كان لا يزال ينزل وقت هذا الخطاب القدسى.

7. ومعنى الإيمان بالكتاب الإيمان بأنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنه من عند الله العلى الحكيم ، وأنه كلامه سبحانه وتعالى. وأن كل ما فيه من أخبار صادق ، وما فيه من أحكام واجبة الطاعة . وأنه حجة الله الخالدة، وأنه حبل الله تعالى الممدود إلى يوم القيامة ، وأنه محفوظ بحفظه ، لا يعتريه تغيير ولا تبديل ، لأن الله تعالى قد وعد بحفظه ، وهو صادق ، وأنه ما حاربه جبار إلا قصم الله تعالى ظهره.

8. والكتاب الذى أنزل من قبل هو كتب النبيين السابقين التى أنزلها الله تعالى عليهم ، ومعنى

الإيمان بها التصديق برسالات الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى، وذكر فيها كتبهم، وذكر بجوارها أنها أنزلت ، لأنها قد مضت وانقطع نز ولها .. وعبر عنها بالفرد دون الجمع ، للإشارة إلى تصديق معناها الجامع لها ، وهو أنها رسالات الله تعالى إلى أهل الأرض ، وهو معنى لا يتغير.

9. وقد يقول قائل ما معنى أمر أهل الإيمان بالإيمان، ألا يمون فى هذا تحصيل حاصل، وأمر بما هو كائن؟ لقد أجاب المفسرون عن ذلك بأن المراد بالأمر فى قوله ﴿آمِنُواْ﴾ اثبتوا على إيمانكم واستمروا عليه، ولا تتحولوا عنه، فالأمر أمر بالثبات والدوام.

10. ويصح أن نقول مع ما قاله المفسرون إن الحال التى عليها المؤمنون حال إذعان وتسليم وتصديق، والأمر بالإيمان مع هذه الحال التى هم عليها واستنارت قلوبهم بها بيان لأجزاء الإيمان، وأركانه وأصوله ومعانيه المتلازمة، فلا يفرقون بين أجزائه، ولا يفرقون بين أحد من رسله سبحانه، وفى هذا الأمر بيان اتصال المسلمين بالديانات السابقة، وبيان أن الإسلام لا يهدم الأديان قبله. ولكنه يتممها. وأنه الخطوة الأخيرة فى الوحى الإلهى، وأن من يكفر به وقد أدركه يكفر بغيره، وإن ادعى اعتناقه، ومن يصدقه من غير إيمان بالكتب السابقة لا يكون صادقًا. وقد يقول إنسان ما: كيف يقول الحق في صدر هذه الآية منادياً المؤمنين بالإيمان فقال: ﴿آمَنُواْ﴾، وبعد ذلك يطالبهم بأن يؤمنوا؟ ونقول: نرى في بعض الأحيان رجلاً يجري كلمة الإيمان على لسانه ويعلم الله أن قلبه غير مصدق لما يقول، فتكون كلمة الإيمان هي حق صحيح، ولكن بالنسبة لمطابقتها لقلبه ليست حقاً. كما قال الحق:

﴿إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ[المنافقون: 1]

11. يذكر تعالى عن القران بقوله ﴿نَزَّلَ﴾ وعن غيره بـ"أنزل"، لأن القرآن قد نزل منجما (أى مفرقًا بحسب الحوادث)، وكان لا يزال ينزل، وغيره قد تم نزوله، وفى ذلك إشارة إلى طريقة نزول القرآن وأنه أمر أراده الله تعالى لمصلحة العباد، وتسهيل هدايتهم به، وتسهيل حفظ النبى ومن معه له، ولأنس النبي صلى الله عليه وسلم باستمرار الوحى ينزل عليه.

12. مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ كُتُبِ اللهِ وَرُسُلِهِ فَآمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِ; لأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى فِيهِ أَوْ لِلتَّقْلِيدِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْجَهْلِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ وَأُمَّتِهِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ بِقَوْلِهِ:

﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ (2: 285).

       

[1] . في ظلال القرآن.

[2] . زاد المسير في علم التفسير. زهرة التفاسير. شرح أصول التفسير. محاسن التأويل. تفسير المنار.

[3] . فى معناه ما رواه البخارى ومسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ مَثَلِى وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِى كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ ‹‹. حديث 3575 - المناقب - صحيح لبخارى.