من وحي الهجرة

الأستاذ: عصام ضاهر

من وحي الهجرة

الأستاذ: عصام ضاهر

[email protected]

تمر الأعوام وراء الأعوام الأيام تلو الأيام 00 ويأتي علينا شهر المحرم من كل عام ؛ ليذكرنا بأعظم حدث في تاريخ البشرية جميعا 0

إنه الحدث الذي قلب موازين الدنيا بأسرها ‘ بل إن شئت فقل : إنه الحدث الذي أعاد موازين الدنيا إلى مكانها الصحيح ، واخذ بيد البشرية من الظلمات إلى النور ، وأنار لها الدرب ، ومهد لها الطريق ؛ لتسير إلى الله - تعالى - ، فهل عرفت ما هذا الحدث ؟ إنه حدث "الهجرة المباركة" نعم .. فإن الهجرة النبوية كانت ولا تزال  وستبقى حدثا عظيم الشأن ، عميق الأثر ‘ في مجرى الدعوة الإسلامية ، فيها وبعدها انتصر الحق ، وقامت دولة الإسلام ، وفيها تجلت آيات الله الباهرات ، ومعجزات خالدات ، ولاحت فيها دروس وعبر كثيرة ستظل معينا لا ينضب نتذكرها في كل عام ، إذا مرت بنا هذه الذكرى المباركة

نعم .. فلم تكن الهجرة مجرد انتقال من مكان إلى مكان ... أو من مدينة إلى أخرى ... ولم تكن فرارا من الموت وشدة التعذيب ... كذلك لم تكن هروبا من الواقع وكثرة التضييق ، ولكنها كانت فاتحة خير على الأمة الإسلامية إلى يوم الدين ، وبداية لعمل متواصل دؤوب لا ينتهي إلى قيام الساعة ‘ فإذا بها تضع أول لبنة من لبنات بناء الدولة الإسلامية ، والخطوة الأولى في الطريق الطويل ، والضربة الأولى في هدم معاقل الجاهلية ، وصدق الله العظيم إذ يقول " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ " سورة التوبة : 33

تحمل لنا هذه الأيام الكثير من ذكريات الهجرة المباركة ، والعديد من الدروس والعبر ، فهيا بنا أخي الحبيب – سويا – نقلب صفحات من السيرة النبوية المباركة ؛ والتي تتحدث عن الهجرة المباركة ، لنستخلص بعضا من العبر والعظات ، لعلها تنير لنا دربنا ... وتعيننا في هذه الأيام على السير بدعوتنا ... والنهوض بها من كبوتها ... كما يقول المثل الصيني : " بدلا من أن تلعن الظلام أضئ شمعة "! ومن هذه الدروس :-

1.  تضحية عزيزة : يقول الله تعالى " لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " سورة التوبة : 88.. قال رسول الله e  " لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، وأخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة ، وما ليَّ ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال " رواه الترمذي .. وانظر أخي الحبيب إلى حال الرسول e وهو يودع مكة بلده الذي نشأ فيه قائلا : " والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " رواه الترمذي  .. أرأيت أخي الحبيب مقدار التضحية التي قدمها الرسول e من أجل أن تصل الدعوة إلينا ، ناهيك عن الكثير من التضحيات التي  قدمها الصحابة رضوان الله عليهم من أمثال علي بن أبي طالب من نومه في فراش النبي - e - ومضحيا بحياته في سبيل الإبقاء على حياة الرسول e ‘ فالجندي الصادق المخلص لدعوة الإصلاح ، يفدي قائده بحياته ، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة ، وفي هلاكه خذلانها ووهنها ... وهناك الكثير من تضحيات أبي بكر ، وصهيب الرومي و ... إلخ .. ولقد صدق الإمام البنا – رحمه الله – حينما قال : " إن تكوين الأمم وتربية الشعوب ، وتحقيق الآمال ، ومناصرة المبادئ ، تحتاج من الأمة التي تحاول ذلك أو من الفئة التي تدعو إليه إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في أربعة أمور : إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ولا وهن ، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر ، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا شح ، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به يمنع من الانحراف عنه أوالخديعة بغيره أو المساومة عليه ".

نعم .. إنها الإرادة القوية ، والوفاء الثابت ، والتضحية العزيزة ، والمعرفة بالغاية العظيمة ، التي جعلتنا نرى هذه النماذج العظيمة من التضحية .

قدم المسلمون هذه التضحيات العظيمة ، ولسان حالهم كما يقول عنترة بن شداد :

حـكم  سيوفك في رقاب iiالعزل
وإذا الـجـبان نهاك يوم iiكريهة
فـاعـص مقالته ولا تحفل iiبها
واخـتـر لنفسك منزلا تعلو iiبه
فـالـموت  لا ينجيك من iiآفاته
مـوت الـفتى في عزة خير iiله
لا  تـسـقـني ماء الحياة iiبذلة
مـاء الـحـيـاة بـذلة iiكجهنم







وإذا  نـزلـت بدار ذل iiفارحل
خوفا  عليك من ازدحام iiالجحفل
واقـدم إذا الـلقا حق في iiالأول
أو مت كريما تحت ظل القسطل
حـصـن ولـو شيدته iiبالجندل
من أن يبيت أسير طرف iiأكحل
بل فاسقني بالعزة كأس iiالحنظل
وجـهـنـم بالعز أطيب iiمنزل

2.  لا نجاة بدون معية الله :لقد من أن الرسول e قد أخذ بجميع الأسباب المتاحة لديه أثناء التخطيط لعملية الهجرة ، ولم يترك شيئا للصدفة ، ولم يتوان e في التخطيط لها جيدا ، وتوظيف الطاقات المتاحة حوله ، سواء من الرجال أو النساء ، أو الشباب ، أو المؤمن والكافر ؛ فقد وظف الرسول e الطاقات الآتية :-

§                     إعداد الراحلتين المستخدمتين في الهجرة قبلها بفترة غير قصيرة .

§       الذهاب إلى سيدنا أبي بكر في فترة الظهيرة ، ومخفيا شخصيته فقد ذهب e متلثما ، وكان الخروج من عند أبي بكر ليلا ، ومن الباب الخلفي .

§                     علي بن أبي طالب ينام في فراشه .

§                     عبد الله بن أريقط الدليل للرسول e وأبي بكر أثناء الهجرة .

§                     عامر بن فهيرة ليغطي آثار الأقدام بالغنم .

§       وحتى لا ينقطع النبي e عن العالم الخارجي ، فقد جعل "عبد الله بن أبي بكر" وزير الإعلام ؛ كي ينقل الأخبار إليه e في الغار .

§                     السير بطريق غير معهودة ، وغير ممهدة .

§                     السيدة أسماء بنت أبي بكر تأتي بالطعام .

§                     النزول والاختفاء بغار ثور ، حتى يهدأ الطلب .

وبالرغم و مع كل هذه الاحتياطات ، والأخذ بالأسباب المتاحة ، إلا أن المشركين قد وصلوا إلى غار ثور ، الذي يختبئ فيه الرسول e وأبو بكر ، مما جعل أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – يقول بعاطفة البشر " والله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا " وهنا تتدخل عناية الله – تعالى – لتصرف كيد الكائدين والمشركين عن رسول الله e وصاحبه ، تتدخل العناية الربانية لتعلمنا – نحن المسلمين – أنه لا نجاة بدون معية الله تعالى ، والتي عبر عنها الرسول e بقوله : "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟!" .. ولقد عبر القرآن الكريم عن هذه العناية الربانية ، حيث قال تعالى : " إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "سورة التوبة : 40

وكما قال الشاعر أحمد فارس الشدياق :

إذا لم يكن للمرء من ربه هدى       فلا شيء يهديه من القيل والقال

وكما قال الأخرس :

إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى       فكلُّ معينٍ ما عدا الله خاذل

وكما قال علي بن أبي طالب :

إِذا لَم يَكُن عَونٌ مِنَ اللَهِ للِفَتى       فَأَكثَرُ ما يَجني عَلَيهِ اِجتِهادُهُ

وليست هذه دعوة للتخلي عن الأخذ بالأسباب في كل الأمور ، ولكنها دعوة لاستشعار معية الله ، والتوكل على الله أثناء التخطيط لحياتنا وأعمالنا ، بعد استفراغ الطاقة والجهد في عملية التخطيط .

ولنا في سؤال الصحابي لرسول الله e الذي يرويه البيهقي وأبو نعيم وابن الدنيا عن أنس أنه قال : قال رجل " يا رسول الله ، أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل ؟ " قال : " اعقلها وتوكل " يعني الناقة ؛ العبرة والعظة والقدوة الحسنة.