إنه ينادينا 27 - 30

إنه ينادينا

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

إنه ينادينا-27

" يا عبادِ ؛ لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ، ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تُحبرون ، يُطافُ عليهم بصحاف من ذهب وأكواب ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذُ الأعينُ وأنتم فيها خالدون ، وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ، لكم فيها فواكه كثيرة منها تأكلون " الزخرف 68-73

ما أروع موقف عباد الله المؤمنين في هذا اليوم – يوم القيامة الرهيب - وهم خائفون من عذاب الله يسمعون النداء " يا عبادِ لا خوفٌ عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون"  فيرفع الخلائق رؤوسهم ويقولون : نحن عبادُ الله ، فإذا قال: "الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين"نكَّس الكفارُ رؤوسهم ويبقى الموحدون رافعي رؤوسهم، فإذا قال الثالثة "الذين آمنوا وكانوا يتقون :نكّس أهل الكبائر رؤوسهم وبقي أهل التقوى رافعين رؤوسهم وقد زال عنهم الخوف والحزن ، فقد وعدهم الله تعالى بالنجاة والكرامة ولن يخذلهم الله أبداً ،فوعده الحق ،وقوله الحق سبحانه 

يدخلون الجنة مع أمثالهم ونظرائهم ممن كانوا مثلهم في التقوى يتنعمون ويسعدون فقد كانوا يؤمنون ويعملون ،قال صلى الله عليه وسلم قال " إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لَرجلٌ لا يدخل الجنة بعده أحدٌ، يفسح له في بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمورٌ يغدى عليه ويراح بسبعين ألف صحفة من ذهب ليس فيها صحفة إلا فيها لون ليس في الأخرى مثله ،شهوته في آخرها كشهوته في أولها لو نزل به جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطي لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا "

 ذكر القرطبي رحمه الله أن أبا أمامة رضي الله عنه ذكرأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفس محمد بيده ليأخذن أحدكم اللقمة فيجعلها في فيه ،ثم يخطر على باله طعامٌ آخر فيتحول الطعام الذي في فيه على الذي اشتهى " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون " وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أدنى أهل الجنة منزلة من له لسبع درجات وهو على السادسة وفوقه السابعة وإن له ثلاثمئة خادم، ويغدى عليه ويراح كل يوم بثلاث مئة صحفة - ولا أعلمه إلا قال من ذهب - في كل صحفة لونٌ ليس في الأخرى وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره ومن الأشربة ثلثمائة إناء في كل إناء لون ليس في الآخر وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، وإنه ليقول يا رب لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم لم ينقص مما عندي شيء وإن له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا وإن الواحدة منهن لتأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض " ومن دخل الجنة لم يخرج منها ، لايبغون عنها حولا .

عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لن يدخُلَ الجنَّةَ أحدٌ إلَّا برحمةِ اللهِ ، قالوا : ولا أنت يا رسولَ اللهِ ؟ قال : ولا أنا، إلَّا أن يتغمَّدنيَ اللهُ برحمتِه ، وقال بيدِه فوق رأسِه

رواه المنذري في الترغيب والترهيب ، لكنْ يقال لهم على وجه الفضل والمنّ " وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون " فأعمالهم الصالحة كانت سببا لشمول رحمة الله إياهم ودخولهم الجنة ولعل تفاوت الدرجات بحسب الأعمال الصالحات ، والله أعلم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافرُ يرث المؤمنُ منزله من النار والمؤمنُ يرث الكافرُ منزله من الجنة " وذلك قوله تعالى " وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون " .

هذه صورة مشرقة لحالة المؤمنين الأتقياء الذين رضي الله عنهم وأرضاهم فأكرمهم في الدنيا بقوة الإيمان ويرضيهم في الآخرة برضوانه وكركه وجنانه سبحانه

أما المجرمون فهم في عذاب مستمر لا يهدأ ولا يضعف " إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون ، لايُفتّر عنهم وهم فيه مبلسون " سورة الزخرف 74-75 والمبلس من طرد من رحمة الله وحق عليه العذاب الدائم جزاء كفره واجترائه على الله واستكباره عن الحق، وهم الذين ظلموا أنفسهم حين كفروا وسخروا من الدعاة وعذبوهم وقتّلوهم ، فحين يطول عليهم العذاب ويرون الموت غايتهم وفيه انتهاء عذابهم يطلبون من مالك خازن النار أن يسأل ربه سبحانه أن يميتهم ،فإذا بالجواب قاصمة الظهر ودائمة الأحزان " قال : إنكم ما كثون" . ويالشدة فزعهم وطول أحزانهم حين يُزجرون ، كل ذلك العذاب أنهم كرهوا الحقّ وحاربوه وناصبوه العداء، ومكروا بالمؤمنين ودمّروا عليهم وكذّبوا الرسل والدعاة وآذوهم ..

فهل من مُدّكر ؟

إن الله تعالى ينادينا لنكون من عباده الصالحين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، فهل نحن فاعلون؟

إنه ينادينا-28

لكل شيء ثمنٌ ،غالياً كان أم رخيصاً ، وكلما غلا الشيء ونفُس ارتفع ثمنُه. ونصرُ الله غالٍ لا يدفع ثمنه إلا المجاهدون العاملون الذين يبذلون الروح والنفس والمال والوقت في سبيل الله .ومن نصرَ الله َ في العمل الصالح والبعد عن الزلل أعزّه الله ورفع قدره وجعل الدنيا لخدمته والآخرة مأواه ، والمؤمن يعلم علم اليقين أن الناصر هو الله ( وما النصر إلا من عند الله ،إن الله عزيز حكيم ) الأنفال 10، وما نحن في جهادنا إلا ستارٌ لقدرة الله ( فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم ، وما رميتَ إذ رميتَ ولكنّ الله رمى ، وليُبليَ المؤمنين منه بلاءً حسَناً ..) الأنفال 17. فأنا أرمي والله تعالى يأذن بإصابة الهدف ، وأنت أطلقتَ القذيفة نحو العدو، فجعلها الله جلت قدرته في مركز الإصابة ومنتصف الهدف ، فنلنا – إذ ذاك - بفضل الله أجر المجاهدين الذين أثبتوا عبوديتهم لله وإيمانهم به ،فقوّى عزيمتهم وثبّت قلوبهم ، وجعل نصره على أيديهم.وما أروع القاضي الفاضل – وزير الناصر صلاح الدين يزف إلى الأمة الإسلامية نصر الله على أيديهم فيحمده أن جعلهم أهلاً لذلك النصر وأجراه على أيديهم..

"يا أيها الذين آمنوا ؛ إن تنصروا الله ينصرْكم ويُثَبِّت أقدامكم، والذين كفروا فتَعساً لهم وأضلَّ أعمالَهم" سورة محمد صلى الله عليه وسلم 7-8.

ونرى الكفار الذين يحاربون الله تعالى ويمكرون بعباده ويعملون ليل نهار للقضاء على الإسلام وأهله ولإطفاء نور الحق يبذلون ما يستطيعون للوصول إلى هدفهم ، فيخزيهم الله ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله ، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ، ثم يُغلبون ، والذين كفروا إلى جهنّم يُحشرون ) الانفال36، فهم يخططون ويصرفون الأموال في خدمة مآربهم فلا يصلون إليها،حين يكون المسلمون واعين متحدين متمسكين بشرع الله وحبله المتين، فيصيب الكافرين اليأسُ والقنوط ، وتدور الدائرة عليهم، هذا في الدنيا ، ومن حلّت عليه التعاسة لم يُفلح  وخاب تخطيطه وضل مسعاه ، ثم مأواهم النار خالدين فيها جزاءً وفاقاً.

وقد نرى في عالمنا نصراً للعدو علينا ، فنعلم أننا خرجنا من دائرة الإيمان الكامل ووقعنا في المحظور الذي يؤخر النصر، وما علينا إلا أن نؤوب سريعاً إلى الطريق المستقيم.

فالمولى تعالى - في هذه الآية - يأخذنا إلى طريق الصلاح ويهدينا إليه ويعرّفنا كيفية الوصول إلى الهدف المنشود في هذه الحياة.

ثم ينادينا مولانا قائلاً :

"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسولَ ، ولا تُبطلوا أعمالَكُم"سورة محمد صلى الله عليه وسلم 33

إنّ دربَ الهداية الإيمانُ بالله تعالى وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، وفي طاعتهما ، فمن آمن أحبَّ ، ومن أحبّ أطاع، وما أحكم قول الشاعر :

              تعصي الإله وأنت تزعم حبَّه !     هذا لَعمري في القياس بديعٌ

              لو كان حبُّك صادقاً لأطعتَه         إنّ المحبَّ لمن يُحبُّ مطيعٌ

وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:  كلُّ أمتي يدخلون الجنةَ إلا من أبى . قالوا : يا رسولَ اللهِ ، ومن يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنةَ ، ومن عصاني فقد أبى، رواه البخاري رحمه الله في صحيحه.

ولن يُقبل العمل إلا بطاعتهما فمن حاد عن شرع الله لم يُقبل منه عمله ولا إيمانه ( إن الدين عند الله الإسلام ) آل عمران 19.(ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران 85، قواعد ربّانية تاخذ بيد المؤمن الواعي إلى حيث النجاحُ والفلاحُ بأقصر الطرق وأحكَمِها.

وغير ذلك الخسارة والبُطلانُ ، وما أسوأ موقف من ظنَّ أنه ينجح في مسعاه بعيداً عن أمر الله وشرعته ، وسنة رسول الله وإرشاده. ولْنتمعّنْ في قوله سبحانه ( ولا تُبطلوا أعمالكم ) فكل منّا يعمل،  والعاقل يبني عمله على أساس متين فيرتفع بناؤه عالياً مكيناً ، والجاهل المكابر يبنيه على شفا جُرُف هار، فينهار به – باطلاً- في قعر جهنّم حيث يسترحم فلا يُرحم ، ويستجدي فلا يُؤبه له،

إنه سبحانه ينادينا ، فهل سمعنا النداء يقلوبنا ووعيناه بأفئدتنا ، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدور.

إنه ينادينا -29

قال تعالى:

" ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ،وكثير منهم فاسقون ، اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بيّنّا لكم الآيات لعلكم تعقلون،" سورة الحديد 16-18

يربي أحدنا ولده على الأدب والتحلّي بالشمائل الحميدة ، فإن أخطأ مرة وحاد عمّا رُبّي عليه نظر الأب إليه نظرة عتاب دون أن يكلمه ، فلعلَّ النظرة – في هذه الحالة – خير مُربٍّ. فإن عاد فأذنب واستمرأ الخطأ قال له والده مؤنباً مستأخراً توبته :أهكذا ربّيتك ياولدي، أما آن لك أن تقلع عن خطئك وتتوب عن زلاّتك،وقد ربيتك على فضيلة وغذَوتك العملَ الصالح ومكارم الأخلاق؟!

ومن ربّى تابع مهمّته وقوّم الاعوجاج بالنصح والإرشاد ثم بالعتاب واللوم ، ثم بالتوبيخ والتقريع، ثم بالعقوبة المناسبة تعليماً وزجراً.

وفي معنى قوله تعالى ( ألم يأنِ للذين آمنوا ) خطاب غير مباشر للذين آمنوا حين تحدث عن الغائبين لفظاً، الحاضرين حالاً ،وكان أول ما أمروا به أن تخشع القلوب للخالق جل وعلا ، والقلبُ لب الجسم بخشوعه تخشع الجوارح ، وكلما كان القلب خاشعاً لله خائفاً منه محباً لذاته أكثرَ من ذكره ،وارتبطت حياته بطاعته سبحانه . إنَّ ذِكرَ الله علامة الإيمان وسبيلُ العفو والمغفرة ، (وأفضل الذكر لا إله إلا الله). ومن وهب لله حياته عمل بمقتضى إيمانه ونال رضا مليكه ،ففاز بثوابه ونجا من عقابه.

والغفلة تورث البعد ، والبعد يورث الضلال، والضلال سمة الضالين من أهل الكتاب الذين قست قلوبهم حين فرغت من ذكر الله وعبادته، وضعف اتصالها به..

وكما يحيي الله الأرض بماء المطر يحيي القلوب بفيض عطائه ونور شريعته ،وكما يحيي الأرض بماء السماء يعيد إحياء المخلوقات يوم الدين. إنها معادلة واضحة لكل ذي عينين.

يذكر القرطبي رحمه الله في شرح هذه الاية أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترَفَّهوا بالمدينة , فنزلت هذه الآية , فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يستبطئكم بالخشوع ) فقالوا عند ذلك : خشعنا.

وسمي الفاسق فاسقاً لخروجه عن الفطرة واتباعه الهوى والشيطان ،وركونه إلى الدنيا ورغبته فيها ونسيانه الآخرة والعملَ لها.

" يا أيها الذين آمنوا ؛ اتقوا الله وآمنوا برسوله يُؤتكم كِفلين من رحمته،ويجعل لكم نوراً تمشون به ، ويغفر لكم، والله غفور رحيم" سورة الحديد الآية 28.

من النصارى قومٌ ظلوا على دين التوحيد يؤمنون بعيسى عليه السلام نبياً، وهؤلاء صبروا على التوحيد حتى بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا من التقوى بمكان مكين ،فلهم حين يؤمنون برسالة الإسلام ويعملون لها :

1- أجرٌ مضاعفٌ،يُؤتَون أجرهم مرتين بما صبروا وآمنوا .والكِفل : الحظ والنصيب الوافي من الأجر والثواب فينجّيهم الله تعالى ، في دنياهم من الضلال وفي الآخرة يدخلهم الجنة .

2- ويغدق المولى سبحانه عليهم من رحمته وينير قلوبهم وحياتهم في دنياهم ويضيء لهم آخرتهم حين لا شمس إذ ذاك ولا نجوم ولا قمر.

3- تُغفر ذنوبُهم ، ومن غُفر ذنبُه كان من أهل الرضوان والسعادة الأبدية.

كثير ممن كانت لهم رياسة النصرانية أو اليهودية وخدموها بما أوتوا ثم تبيّن لهم الهدى من الضلال ، فأسلموا قيادهم لله تعالى رفعَ الله سبحانه  أقدارهم في الدنيا بإيمانهم ودعوة الناس إلى الإسلام والتفاني بهذه الدعوة ،وبشّرهم بنعيم الآخرة وخلود الحياة فيها في جواره – سبحانه- وكرمه.

ولا تسل عن عقاب أهل الكتاب الذين حرّفوا وبدّلوا فقست قلوبهم وزاغوا عن درب الهداية وباعوا نفوسهم للشيطان فكانوا ادوات في الإفساد والصد عن سبيل الله ، هؤلاء ظلموا أنفسهم ورموا بها في مهاوي الدركات السفلى من النار .

إن لكلٍّ من عمله واجتهاده نصيباً، فأنعم بمن باع حياته لله ، وأبئِس بمن باع نفسه للشيطان وغوايته،

إنه سبحانه يدعونا إلى خشيته والخشوع في عبادته والتقرّب إليه لنيل مرضاته ..

هل نعد بذلك ونسعى إليه ؟!

اللهم اهدنا لأحسن الأحوال ، لا يهدينا لأحسنها إلا أنت ،

إنه ينادينا -30

ألم ترّ أن الله يعلم ما في السموات، وما في الأرض، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، ولاخمسة إلا هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ،ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم" سورة المجادلة 7

ذكرت أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها أنها كانت قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرأة التي ظاهرها زوجها تشتكي إليه فلم تسمع ما قالت ، وسمع الله –سبحانه- شكواها " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ، وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما إن الله سميعٌ بصير" المجادلة 1

فسبحانك يارب من إله عظيم تسمع كل شيء وترى كل شيء ، فسبحانك ، سبحانك( إن الله يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء).

فهو محيط بخلقه ،مطّلع عليهم يسمع كلامهم ويرى مكانهم حيثما كانوا وأينما حلّوا ، يعلم السرَّ وأخفى ،ومع ذلك تكتب رسُلُه من الملائكة ما يتناجى به عباده لتوثيقه ،فيُعرض عليهم يوم القيامة بتفاصيله كاملة وقد نبهنا الله تعالى محذراً  "أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون " فلا يغيب عنه من أمورهم شيء " ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم " قال الإمام أحمد رحمه الله : افتتح الآيةَ بالعلم واختتمها بالعلم .

 يقول ابن كثير رحمه الله: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة وكانوا إذا مر بهم الرجل، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم ،فترك طريقه عليهم ،فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى ،فلم ينتهوا وعادوا إليها ،فنزل قولُه تعالى:

" ألم ترَ إلى الذين نُهوا عن النجوى ثم يعودون لما نُهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وإذا جاءوك حيَّوك بما يحيِّك به الله ، ويقولون في أنفسهم لولا يعذِّبنا الله بما نقول ،حسبُهم جهنّم يصلونها ، فبئس المصير"المجادلة 8 .

والنجوى تَسارُّ اثنين بينهما ثالث لا يسمع ما يقولان ، فيُهيّأ إليه أنهم يقصدان به الشرَّ ، وقد نهى القرآن والسنّة عنه ، وما نُهي عنه عُدَّ في الإثم. وأما العدوان فتجاوز الحقوق مما يورث الخوف والكراهية .

أما معصية الرسول ومخالفته فقد اصر اليهود عليها فحين يرونه صلى الله عليه وسلم يحيونه بقول فيه ظاهره تحية وفي باطنه سبٌّ ودعاء عليه ، فقال تعالى فاضحاً سرّهم وموبخاً  " وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله " فعن عائشة قالت :دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا السام عليك يا أبا القاسم ( والسامُ: الموتُ) فقالت عائشة : وعليكم السام والذامّ واللعنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش " قلت ألا تسمعهم يقولون السام عليك" ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أوما سمعت أقول: وعليكم ) وقال ( إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا) .

وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي فسلم عليهم فردوا عليه ،فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم " هل تدرون ما قال ؟ " قالوا :سلَّمَ يا رسول الله .قال " بل قال سام عليكم " أي تسامون دينكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ردوه " فردوه عليه فقال نبي الله " أقلت سام عليكم " قال نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك : أي عليك ما قلت. والذي أتعجب منه أنه لم يُخف ما قاله ولا أنكره ، إنما قاله متحدياً ، وهذا دأبهم وسوء أدبهم يتكرر ويستمرّ.

 يفعل اليهود هذا ويظنون أن الله تعالى سيعاجلهم بعذاب الدنيا لو كان محمد نبياً ، وإذ لم يعاجلهم بالعقوبة الدنيوية السريعة فهو – سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم – ليس نبياً بزعمهم.وهذا تجرّؤٌ فاجر على الله تعالى  فقال الله تعالى " حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير " .

"يا أيها الذين آمنوا ؛ إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وتناجَوا بالبر والتقوى ، واتقوا الله الذي إليه تُحشرون" سورة المجادلة الآية 9

نُهي المسلمون عن التناجي المؤذي الذي اتصف به المنافقون وغيرهم من كفار أهل الكتاب وأمرهم أن يتناجّوا بفعل الخير وقوله، وأن تكون تقوى الله نصب أعينهم ومرضاتُه هدفَهم. فهو سبحانه مطّلع عليهم – ظاهرهم وسرائرهم-  ويوم القيامة يعرضها عليهم .

عرض رجل لعمر رضي الله عنه فقال كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنْ قد هلك قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته .وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد" هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين " أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة.

"إنما النجوى من الشيطان ليَحزُن الذين آمنوا ، وليس بضارّهم شيئاً إلا بإذن الله ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون " سورة المجادلة الآية 10

إنَّ المسارة حيث يتوهم مؤمن بها سوءا إنما تصدر من المتناجين بتسويل من الشيطان وتزيينه  ليسوء المسلمين، وبما أن النفع والضر بيد الله وحده فليستعذ المسلم بالله وليتوكل عليه ،ومن توكل على الله لم يضرَّه أحد. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه " أخرجه مسلم.

من الآداب الإسلامية العالية أن لا يحدث التناجي الذي يورث حزناً وألماً للمسلم، فإن كان الحضور في المكان نفسه كثيراً وتناجى كل اثنين أو ثلاثة بأمر خاص بهم وانشغلوا عن الآخرين فلا تناجيَ إذاً . وينبغي أن تسود في المجتمع المسلم سمات الود والمحبّة والأُلفة ، نمتنع عما يسيء إلى إخواننا ونفعل ما يسرهم ويقرّب بعضهم من بعض.ويزرع السعادة والأمان في ربوعهم .

إنه سبحانه ينادينا إلى آفاق حياة الطيبة ويدعونا إلى سلامة الصدر ، فهل نحن واعون منتبهون؟