قدوة القيادة في الإسلام 39

قدوة القيادة في الإسلام

الحلقة التاسعة والثلاثون :

احترام القائد لعهود جنوده، وعدم إخفار ذمَّتهم

د. فوّاز القاسم / سوريا

لقد كان من شيمته صلى الله عليه وسلم ، أن يفي لأصحابه بوعودهم ،  ويحترم عهودهم ، ولا يخفر ذِمَّة أحد منهم ، رجلاً كان ، أو امرأة .!

وكان كثيراً ما يقول : (( المسلمون يدٌ على من سواهم ، تتَكَافَؤ دماؤهم ، ويجير عليهم أدناهم ، ويَرُدُّ عليهم أقصاهم )). رواه أحمد

قال ابن إسحاق يحدث عن خبر نقض بني قُرَيْظة لعهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  يوم الأحزاب ، وتأديبه لهم بتنفيذ حكم الله فيهم ، وذلك بقتل رجالهم ، وسبي نسائهم وذراريهم  :

وقد كان ثابت بن قيس بن الشّمّاس ، أتى الزبير بن باطا القُرَظي

( وهو ينتظر دوره في القتل ) ، وكان الزّبير قد منَّ على ثابت بن قيس في الجاهلية ، فجاءه وهو شيخ كبير ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، هل تعرفني ؟ قال : وهل يجهل مثلي مثلَك .!

قال : إني قد أردت أن أجزيك بيدك عندي ؛ قال : إن الكريم يجزي الكريم ؛ ثمّ أتى ثابت بن قيس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إنه قد كانت للزبير عليَّ منَّة ، وقد أحببت أن أجزيه بها ، فهب لي دمه ؛

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو لك ؛ فأتاه فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك ، فهو لك ؛ قال : شيخ كبير لا أهل له ولا ولد ، فما يصنع بالحياة ؟ قال : فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، هب لي امرأته وولده ؛ قال : هم لك .

قال : فأتاه فقال : قد وهب لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أهلك وولدك ، فهم لك ؛ قال : أهل بيت بالحجاز لا مال لهم ، فما بقاؤهم على ذلك ؟ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، هب لي مالَه ؛ فقال : هو لك .

فأتاه ثابت فقال : قد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك ، فهو لك .  هشام 2 ( 243 )

ولقد كان يقبل شفاعة أصحابه ، ويفي بذمتهم ، حتى مع مهدوري الدماء من أعدائه المشركين ، الذين ناصبوه وناصبوا دعوته أشد أنواع العداء ، وكالوا له ولإخوانه أبشع صنوف الإيذاء .

قال ابن إسحاق يحدِّث عن بعض لقطات يوم الفتح العظيم : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد عهِد إلى أُمرائه من المسلمين ، حين أمرهم أن يدخلوا مكة ، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم ، إلا أنه قد عهِد في نفر سمَّاهم أمر بقتلهم وإن وُجِدوا تحت أستار الكعبة ، منهم عبد الله بن سعد ، أخو بني عامر بن لؤي.

وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقتله لأنه قد كان أسلم ، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي ، فارتدَّ مشركاً راجعاً إلى قريش ، ففرَّ إلى عثمان بن عفَّان ، وكان أخاه للرضاعة ، فغيَّبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأنَّ الناس وأهل مكة ، فاستأمن له ، فأمَّنه .  هشام 2 ( 408 )

ومن الذين أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دماءهم يوم الفتح كذلك ، عِكْرِمةَ بن أبي جهل ، وذلك لشدّة عدائه للإسلام والمسلمين ، ولكنه سرعان ما هرب إلى اليمن بعد دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرّمة ؛ إلا أن امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ، واستأمنت له منه فأمّنه ، فخرجت في طلبه إلى اليمن ، حتى أتت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم .  هشام 2 ( 410 )

وكذلك فعل مع صفوان بن أمية ؛ قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر ، عن عروة بن الزبير ، قال : خرج صفوان بن أمية يريد جُدَّة ليركب منها إلى اليمن ، فقال : عُمَيْر بن وهب :

يا نبيّ الله ، إنَّ صفوان بن أمية سيّد قومه ، وقد خرج هارباً منك ، ليقذف نفسه في البحر ، فأمِّنْه صلى الله عليك ؛ قال : هو آمن ؛

قال : يا رسول الله ، فأعطني آية يعرف بها أمانك ؛ فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة ، فخرج بها عُمَيْر حتى أدركه ، وهو يريد أن يركب في البحر ، فقال : يا صفوان ، فداك أبي وأمي ، اللهَ اللهَ في نفسك أن تهلكها ، فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد جئتك به ؛ ولم يزل به حتى أعاده إلى مكة ، فأسلم بعد ذلك ، وحسن إسلامه . هشام 2 ( 417 )