مع التابعي عمرو بن عتبة رحمه الله

الدكتور محمد أديب الصالح

مع التابعي عمرو بن عتبة رحمه الله (1)

الدكتور محمد أديب الصالح

ـ 1 ـ

هو واحد من تابعي أهل الكوفة جمع بين العلم والإكثار من العبادة والجهاد في سبيل الله .. إلى زهادة في الدنيا وإعراض عن كل المعوقات التي تعوق السالكين . ولقد شغله استغراقه في العبادة والجهاد عن  الإكثار من الرواية ، فكأنه مع قدرته على الرواية وإفادة الناس بمروياته لكونه من الثقات نذر نفسه للعمل في سبيل الله على ساحة أخرى ما دام غيره يقوم بتلك المهمة وهم بحمد الله كثير .

وهكذا نرى ابن سعد يذكره في الطبقة الأولى من أهل الكوفة ويقول : كان قليل الحديث ثقة .

إن الزهادة في الدنيا مع توافرها بين يدي المرء ـ على ما يبدو ـ هي وما من ريب من عمل أهل العزائم ، وذلك امتحان أي امتحان ، وكان هذا التابعي رحمه الله أنموذجاً مباركاً لهذه الزهادة .. ولم يكن زاهداً في المال فحسب ولكن بكل ماله علاقة بالمنصب والجاه من مطامع هذه الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة .

كان أبوه عتبة بن فرقد والياً على ما سبذان وكان حريصاً على أن يعاونه ولده في شأن هذه الولاية فكان مما قاله عمرو لأبيه : يا أبت إنما أنا عبد أعمل في فكاك رقبتي ـ يعني عبوديته لله عز وجل ـ قال راوي الخبر عبد الله بن ربيعة : فبكى عتبة فقال : يا بني إني لأحبك حبين ، حب لله وحب الوالد لولده ، فقال عمرو : يا أبت إنك كنت قد أتيتني بمال قد بلغ سبعين ألفاً فإن كنت سائلي عنه فهو ذا خذه وإلا فدعني فأمضيه . قال له عتبة : فامضه . قال : فأمضاها فما أبقى منها درهماً .

وقد روي : أنه كان له كل يوم رغيفان يتسحر بأحدهما ويفطر بالآخر .

وبذل المال على طريق الجهاد أمنية غالية عند عمرو رضي الله عنه ، ولذته في هذه السبيل تعلو كل ما يجده أهل الدنيا في حيازة المال وجمع المتاع .

حدث عيسى بن عمرو عن السدي قال : (خرج عمرو بن عتبة بن فرقد فاشترى فرساً بأربعة آلاف درهم فعنفوه يستغلونه) . ولكل ما كان يتطلع إليه عمرو هو أعلى وأعلى من تلك الآلاف من الدراهم ، قال ـ أجزل الله مثوبته ـ لأولئك الذين عنفوه وقد هالهم ثمن الفرس : ما من خطوة يخطوها يتقدمها إلى عدو إلا وهي أحب إلي من أربعة آلاف . أرأيت إلى هذا الإيمان العميق بما عند الله وما أعده الله لعباده المجاهدين بالمال أو بالنفس .. فأين المال ـ وهو من حطام الدنيا ـ مما للمؤمن المجاهد عند مولاه عز وجل .. إنه التذوق الإيماني لوعد الله تبارك وتعالى وهو أمر وراء المعرفة .. وهنيئاً ثم هنيئاً لمن يكرمه الله بذلك .

وأحسب أن ما كان عليه هذا التابعي العظيم هو ثمرة من ثمار خشية الله تبارك وتعالى ولذة الخشوع بين يديه .. حيث القلب المتطلع إلى لقاء الله الموقن بما يكون يوم الحساب ؛ فعن سعيد بن عامر عن هشام الدستوائي قال : لما توفي عمرو بن عتبة بن فرقد ، دخل بعض أصحابه على أخته فقال : أخبرينا عنه ، فقالت : قام ذات ليلة فاستفتح سورة حم ، فلما أتى على هذه الآية : [وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين..] فما جاوزها حتى أصبح .

ومن جهة أخرى حدث عيسى بن عمرو قال : كان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه ليلاً فيقف على القبور فيقول : يا أهل القبور قد طويت الصحف ، وقد رفعت الأعمال ، ثم يبكي ويصف بين قدميه حتى يصبح فيرجع فيشهد صلاة الصبح . ولنا وقفة أخرى عند هذا العالم الرباني في العدد القادم إن شاء الله ولله الأمر من قبل ومن بعد والحمد لله رب العالمين .

ـ 2 ـ

يا لله كم يفعل تذكر الآخرة في النفوس ... وكم يحرك عند أهل القرب من عزائم .. وكم يرقى بعباد الرحمن إلى مراتب يغبطون عليها ثم يغبطون ...

لقد أصبح هذا التابعي بما عرف من حقيقة هذه الدنيا ، وبما صدق في العمل للآخرة أقوى من كل مغريات الحياة الدنيا التي وصفها رب العزة جل جلاله بأنها متاع الغرور، وبأنها لهو ولعب وزينة وتفاخر بالأموال والأولاد ...

وإذا كان تذوق المعاني الآخروية وما أعد الله لأولئك الذين يحبهم ويحبونه قد جعل من عمرو بن عتبة إنساناً أقوى من كل ما في الدنيا من متاع فاستعلى على الفانية وعمل للباقية .. إن خشيته لله تبارك تعالى قد جعلته على حال لا يخاف معها إلا الله ، فلا يرهبه العدو ، ولا تزلزل قلبه الأسود ، حتى كان يستحيي رحمه الله من أن يخشى غير مولاه .

قال بعض من كان يصحبه : كنا نخرج إلى العدو فلا نتحارس لكثرة صلاته ـ أي فهو يقظ أكثر الليل فلا داعي للتناوب على الحراسة ـ ورأيته ليلة يصلي فسمعنا زئير الأسد فهربنا وهو قائم يصلي لم ينصرف ، فقلنا له : أما خفت الأسد ؟ فقال : إنني لأستحي من الله أن أخاف شيئاً سواه .

يا خيل الله اركبي .

ويبدو أن الرجل ـ تقبل الله جهاده وعمله ـ كان مستجاب الدعوة لا يخيب الله له رجاء ولا يرد له سؤالاً قال عبد الله بن المبارك : عن فضل بن عياض عن الأعمش قال : قال عمرو بن عتبة بن فرقد : سألت الله ثلاثاً : فأعطاني اثنتين ، وأنا أنتظر الثالثة : سألته أن يزهدني في الدنيا ، فما أبالي ما أقبل منها وما أدبر، وسألته أن يقويني على الصلاة فرزقني منها ، وسألته الشهادة فأنا أرجوها (1) .

وحاشا لكرم الله أن يضن على هذا الرباني في الثالثة ، لقد حملت إلينا كتب التراجم أن السدي قال : حدثني ابن عم لعمرو بن عتبة قال : نزلنا في مرج حسن فقال عمرو بن عتبة : ما أحسن هذا المرج !! ما أحس الآن لو أن منادياً ينادي يا خيل الله اركبي ، فخرج رجل فكان أول من لقي فأصيب ثم جيء به فدفن في هذا المرج . قال : فما كان بأسرع من أن نادى مناد : يا خيل الله اركبي ، فخرج عمرو في سرعان الناس في أول من خرج فأتى عتبة فأخبر بذلك ، فقال : علي عمراً علي عمراً ، فأرسل في طلبه فما أدرك حتى أصيب ، قال : فما أراه دفن إلا في مركز رمحه . وعتبة يومئذ على الناس . وقال غير السدي : أصابه جرح فقال : والله إنك لصغير! وإن الله تعالى يبارك في الصغير، دعوني في مكاني هذا حتى أمسي فإن أنا عشت فارفعوني ، قال : فمات في مكانه ذلك.

وفي قضاء نحبه على أرض المعركة جاءت رؤية أخرى تكاد تكون جماع طريقته في الحياة ، ومنهج سلوكه الإيماني القديم .

يقول إبراهيم بن علقمة : خرجنا ومعنا مسروق وعمرو بن عتبة ومعضد غازين ، فلما بلغنا (ماسبذان) وأميرها عتبة بن فرقد ، قال لنا ابنه عمرو بن عتبة : إنكم إن نزلتم عليه ـ يعني أباه ـ صنع لكم نزلاً ، ولعله أن تظلموا فيه أحداً ، ولكن إن شئتم قلنا في ظل هذه الشجرة وأكلنا من كسرنا ثم رجعنا ، ففعلنا ، فلما قدمنا الأرض قطع عمرو بن عتبة جبة بيضاء فلبسها ، فقال : إن تحدر الدم على هذه لحسن ، فرمى ، فرأيت الدم يتحدر على المكان الذي وضع يده عليه فمات .

سبحان الكريم المتفضل كيف يعطي عباده الصالحين بلا حساب ، لقد تحدر الدم على المكان الذي وضع عمرو يده عليه ، إن الله لم يحب سؤله في أن يموت في سبيل الله وحسب ، بل أن تكون الموتة على النحو الذي تمناه ، وعن مقام المقاتل في سبيل الله حدث ولا حرج .. إنه الصدق في الأولى .. وإنه الصدق في الثانية ، وخزائن ربنا تبارك وتعالى لا تنفد وعطاؤه لا يجده حساب [كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا] .

ألا يا رحم الله التابعي عمرو بن عتبة ، وأعلى مقامه في الآخرين فلقد كان هو وأمثاله الجسر المبارك الذي وصلنا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عمرو صورة مثلى لأولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فأنت ترى الإيمان والعلم مع الزهادة في الدنيا والجهاد الدائم في سبيل الله إنها شخصية المسلم المتكامل ، إيماناً وتقوى بكل ما للتقوى من أبعاد في العلم والعمل وخشية الله وإزهاده في الدنيا ، وصدق العبودية له سبحانه ،  والجهاد في سبيله ، فليس الصلاح عند هؤلاء صناعة ، ولا طريقاً لأغراض قريبة هابطة ، وإنما هو التزام الطريق التي كان عليها أولئك الذين تربوا في مدرسة النبوة ، وكان الواحد منهم صورة صادقة لدين الإسلام في تكامله وشموله ، همهم حسن التأسي بالمصطفى عليه الصلاة والسلام الذي كانت حياته في جميع وجوهها صياغة عملية للوجود الإسلامي كما أراده الله تبارك وتعالى . اللهم ألحقنا بعبادك الصالحين الذين أدركوا علماً وعملاً وتذوقاً معنى قول الله جل وعز :[ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم] .

وصلى الله وبارك على الأسوة الحسنة سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

              

العدد الخامس من السنة الثامنة عشر من حضارة الإسلام شعبان 1397 هـ .

(1)                       روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن يزيد قال : خرجنا في جيش فيهم علقمة ومعضد العجلي وعمرو بن عتبة بن فرقد ويزيد بن معاذ النخعي قال : فخرج عمرو وعليه جبة بيضاء فقال : ما أحسن الدم ينحدر على هذه . قال : فأصابه حجر فشجه قال : فانحدر الدم عليها فمات فدفناه . وذكر ابن حبان أنه قتل بتستر في خلافة عثمان رضي الله عنه . فذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة وانظر التهذيب للحافظ ابن حجر (8) 76 ـ 77 .