بين هارون .. وسفيان الثوري

الدكتور محمد أديب الصالح

بين هارون .. وسفيان الثوري

ـ 2 ـ

الدكتور محمد أديب الصالح

تحكي المصادر أنه كانت بين هارون الرشيد ـ قبل أن يلي الخلافة ـ وبين سفيان الثوري ـ وهو من هو في علمه وورعه ـ مودة ومؤاخاة ، ولما ولي هارون الحكم انقطع عن لقائه سفيان ـ على ما بينهما من الصلة ـ في الوقت الذي زاره الكثير من المهنئين وفيهم بعض العلماء ، واشتاق هارون إلى صديقه وخدنه القديم ، ورغب في لقائه لأكثر من غرض ، فكتب إليه كتاباً جاء فيه :

" بسم الله الرحمن الرحيم : من عبد الله هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه سفيان بن سعيد بن المنذر. أما بعد : يا أخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى واخى بين المؤمنين ، وجعل ذلك فيه وله ، وأعلم أني قد واخيتك مواخاة لم أصرم بها حبلك ، ولم أقطع منها ودك ، وإني منطو لك على أفضل المحبة والإرادة ؛ ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله لأتيتك ولو حبواً ، لما أجد لك في قلبي من المحبة ... إلى أن قال : وقد كتبت إليك كتاباً شوقاً مني إليك شديداً ، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل المؤمن وزيارته ومواصلته ، فإذا ورد عليك كتابي فالعجل العجل ".

وتهيب رجال هارون الذي كان ـ رحمه الله ـ يحج عاماً ويغزو عاماً حمل الكتاب إلى سفيان ، ثم حمله عباد الطالقاني ، ودل على سفيان في المسجد ... وكان أن أمر رضي الله عنه أن يكتب لهارون جواب على ظهر كتابه ومما جاء في هذا الكتاب : " ... فكيف بك يا هارون غداً إذا نادى المنادي من قبل الله تعالى : " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم .." أين الظلمة وأعوان الظلمة ، فقدمت بين يدي الله تعالى ويداك مغلولتان إلى عنقك ، لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك ، والظالمون حولك ، وأنت سابق وإمام إلى النار، كأني بك يا هارون وقد أخذت بضيق الخناق ، ووردت المساق ، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك ، وسيئات غيرك في ميزانك زيادة على سيئاتك ، بلاء على بلاء ، وظلمة فوق ظلمة . فاحتفظ بوصيتي ، واتعظ بموعظتي التي وعظتك بها واعلم أني قد نصحتك ، وما أبقيت لك في النصح غاية ؛ فاتق الله يا هارون رعيتك ، واحفظ محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته ، وأحسن الخلافة عليهم .

واعلم أن هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك وهو صائر إلى غيرك وكذا الدنيا تنتقل بأهلها واحداً بعد واحد ، فمنهم من تزود زاد نفعه ، ومنهم من خسر دنياه وآخرته ، وإني أحسبك يا هارون ممن خسر دنياه وآخرته فإياك إياك أن تكتب لي كتاباً بعد هذا فلا أجيبك عنه والسلام ". وهنا تغمر العناية هذا الرسول :

قال عباد : فألقى إليّ الكتاب منشوراً غير مطوي ولا مختوم ، فأخذته وأقبلت إلى سوق الكوفة ، وقد وقعت الموعظة من قلبي ، فناديت يا أهل الكوفة فأجابوني ، فقلت لهم : يا قوم من يشتري رجلاً هرب من الله إلى الله فأقبلوا إليّ بالدنانير والدراهم ، فقلت : لا حاجة لي في المال ، ولكن جبة صوف خشنة وعباءة قطوانية ، قال : فأتيت بذلك ، ونزعت ما كان علي من اللباس الذي كنت ألبسه مع أمير المؤمنين ، وأقبلت أقود البرذون وعليه السلاح الذي كنت أحمله ، حتى أتيت باب أمير المؤمنين حافياً راجلاً ، فهزئ بي من كان على باب الخليفة . ثم أستؤذن لي ، فلما دخلت عليه وبصر بي على تلك الحالة ، قام وقعد ، ثم قام قائماً وجعل يلطم رأسه ووجهه ، ويدعو ـ رحمه الله ـ بالويل والحزن ، ويقول : (انتفع الرسول وخاب المرسل ما لي وللدنيا ، مالي والملك يزول عني سريعاً) قال عباد : ثم ألقيت الكتاب إليه منشوراً كما دفع إلي ، فأقبل هارون يقرؤه ودموعه تنحدر من عينيه ، ويقرأ ويشهق ، فقال بعض جلسائه ـ وما أشأم هؤلاء ـ يا أمير المؤمنين لقد اجترء عليك سفيان ، فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد ... وضيقت عليه السجن . كنت تجعله عبرة لغيره !! ولكن ما الذي قاله هارون ؟ لقد قال أمير المؤمنين (أتركونا عبيد الدنيا . المغرور من غررتموه ، والشقي من أهلكتموه وإن سفيان أمة وحده فاتركوا سفيان وشأنه).

وأكثر من هذا ... يقول الرواة : ثم لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هارون يقرؤه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله ... ألا ليت لهذه الأمة مثل المرسل وإليه . قال الإمام الغزالي : فرحم الله عبداً نظر لنفسه واتقى الله فيما يقدم عليه غداً من عمله فإنه عليه يحاسب وبه يجازى والله ولي التوفيق .