ابن الحنظلية

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

مجالس الصالحين رياض مليئة بالأخلاق، ذات الأنسام العطرة، تفوح على قاصدها بخير الدنيا والآخرة، يؤمها الناس، يغترفون من نميرها عذب الأخبار، وطيّب الأفكار، وأرواح الحب وعبق الإيمان.

وأجمل المجالس وأنفعها بيوت الرحمن، يتحلّق فيها المسلمون حول عالم فقيه، أو محدث صدوق، يملأون قلوبهم بحب الله وابتغاء مرضاته، وعقولَهم بالشرع الحنيف، يمحصونه تعلّماً وتعليماً وفهماً وتطبيقاً، فهُم في رَوح وريحان، وضياء وأنوار تحفّهم الملائكة بأجنحتها، وتدعو لهم، وتشهد لهم عند الله بما يرفع مقامهم، ويا حبذا من شهادة يرفعها الأطهار إلى المليك الغفار، فيزيدهم من فضله، ويغدق عليهم من عطائه العميم وكرمه الدائم الفياض.

هذا الصحابي الجليل أبو الدرداء في مجلسه بين المسلمين يعلمهم، ويرشدهم، ويمر عليهم في مسجد بدمشق الشام صحابيٍّ آخر مثله، نجماً ساطعاً وقمرا منيراً قلما يجالس الناس، فهو بعيدٌ عنهم، ولكلٍّ طريقُه في حياته، يكثر من الصلاة والتسبيح. حياته بين عبادة وذكر وقراءة ودعاء، فإذا انطلق إلى بيته كان لسانه لاهجاً بتوحيد الله واستغفاره حتى يأتي أهله فيشغله ما يحتاج إليه من أمرهم عن ذلك.. ورآه أبو الدرداء فناداه: يا بشرُ ؛ اقبل ،رحمك الله ورعاك، وأسمعنا كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم  تنفعنها بها، ولا تكتم العلم هدانا الله وإياك.

أرأيتم كيف يسأل العالِم أخاه العالِمَ أن ينفعه بكلمة؟! فمهما كان ذا علم فهو يحتاج إلى المزيد، ولا يعتبر نفسه إلا في أول طريق العلم، ولا يتكبر عنه وإلا عُدَّ جاهلاً، إنه يضع نصب عينيه: ((كن عالماً أو متعلماً، ولا تكن الثالثة فتهلك)) ويطلب العلم من المهد إلى اللحد. إنه يريد أن ينتفع المسلمون بعلمه وعلم غيره، فرضي الله عن الصحابي الجليل أبي الدرداء ورفع مقامه في عليين.

أما بشر التغلبي فسرعان ما بذل علمه لأنه – رضي الله عنه – يعلم أنه من كتم علماً لجمه الله بلجام من نار، وأن العالِم يستغفر له من في السماوات والأرض.

فقال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم  بسرية إلى الأعداء فقامت بواجبها وحاربت العدوّ فنكلت برجاله، ثم قفلت راجعة، وجاء أحد رجالها وهو من غفار، قبيلة الصحابي الجليل أبي ذرٍّ، فجلس مكان النبي صلى الله عليه وسلم  إذْ كان عليه الصلاة والسلام غائباً، وحدَّث من كان في المسجد من المسلمين عن القتل والقتال، فاستنكر أحد الجالسين ذلك الفخر وقال: بطل عمله إذاً، فالفخر رياء، والرياء مذموم يُحبط الأجر، فردّ أحدهم: لا لم يبطل عمله، فالفخر في المعركة غيره في السلم، وهو يخيف الأعداء، ويلقي في قلوبهم الرعب، بل يؤجر الغفاري ويحمَدُ، وتنازعنا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم  ليقول: ((سبحان الله، لا بأس أن يؤجر ويحمد)).

فسرَّ أبو الدرداء بذلك، وجعل يرفع رأسه ويقول لبشر: أنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقول بشر: نعم سمعته منه صلى الله عليه وسلم ، فيتواضع أبو الدرداء رضي الله عنه لبشر اعترافاً بعلمه وفضله.

فما أعظم أن يكون علماؤنا هكذا يقدرون العلم وأهله ويتواضعون لهم.

ويمر بشرٌ على هذا المجلس يوماً آخر فيستهديه أبو الدرداء عظة أخرى قائلا له: هات يا بشرُ كلمة تنفعنا ولا تضرنا رحمك الله.

فيقول بشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((المنفق على الخيل كالباسط يده بالصدقة، لا يقبضها، وأرواثها لأهلها يوم القيامة من مسك الجنة)).

فيسألونه: ولم هذا الاهتمام كله بالخيل؟ ولماذا يعتبر الإنفاق عليها صدقةً دائمةً؟

فيقول ألم تسمعوا قَسَم الله بها: ) وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) ( ؟

قالوا: بلى يا صاحب رسول الله، إن الله تعالى يقسم بها لفائدتها في الجهاد وأثرها الواضح في مقارعة الأعداء.

فيقول: فالاعتناء بها واجب والحفاظ عليها مندوب، وكلُّ من يُعِدّ للعدو عدّته ويبذل جُهده للظهور عليه، وتحقيق الانتصار، له الثواب العظيم والأجر الكبير.

ويمر بشر على مجلسهم يوماً ثالثاً يسلّم عليهم، فيستوقفونه، يسألونه كلمةً واحدة، واحدة فقط، لكنها وافرة المعنى، عظيمة الميزان.

فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((نعم الرجل خُرَيمٌ الأُسَيدي، لولا طولُ جَمَّته، وإسبالُ إزاره))، وخريم هذا صحابي شهد بدراً، ذو أخلاق عالية وحبٍّ لدينه شديد، إلا أن فيه عيباً ليس بالسهل، إنه يطيل شعره فيصل إلى ما تحت أذنيه، ويطيل إزاره، فيصل إلى الأرض، وهذا من الكبرياء، والكبرياء مذموم.

فيسمع خُريم هذا الحديث فيسرع إلى قص شعره ويرفع إزاره إلى نصف ساقيه، ابتعاداً عن هذه الشبهة، وطاعة لله ولرسوله.

إن مجتمعاً يسرع أفراده إلى امتثال أوامر الله ورسوله، ويسعى إلى رضاهما لجدير أن يسود العالم أجمع ويكون قدوةً للعالمين، أما المجتمع الفاسدُ المتفلِّت التابع لشهوته لقمينٌ أن يكون في ذيل الأمم وآخر القافلة، وهذا واقعنا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ويمر على مجلسهم مرة رابعة، فيستوقفه أبو الدرداء يستعطيه دفقة إيمانية، وعلماً نافعاً ونبضة حيةً تدفعهم إلى آفاق إنسانية خلّاقة فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: ((إنكم قادمون على إخوانكم في بيوتهم أو مضاربهم فاعتنوا بأمرين اثنين:

الأول: إصلاح أدوات الرحلة كي تصل بكم إلى غايتكم بسهولة ويسر.

والثاني: الاعتناء بهيئتكم ومظهركم ولباسكم لتكونوا في حالة تسرّهم وترفعكم في أعينهم وتستجلب قلوبهم))، وليس هذا من باب الكبر، بل لإظهار نعمة الله سبحانه والتحدث بفضله.

أما التكلف بالمظهر فهو الذي يأباه الله تعالى ويحذِّر منه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم .

رياض الصالحين: باب استحباب القميص.