دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 35

دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

فتح حمص (35)

د. فوّاز القاسم / سوريا

قال الأصطخري : حمص من أصحّ بلدان الشام تربة ، في أهلها جمال مفرط ، ولها مياه وأشجار وزروع كثيرة .

وقال القزويني : حمص مدينة حصينة بأرض الشام ، أصحّ بلاد الشام هواءً وتربة ، وهي كثيرة المياه والأشجار ، ويُوصف أهلها بالبلاهة والجمال المفرط .

وحمص مدينة قديمة جداً ، دعاها الرومان إيميزيا ، وبالقرب منها هزم الإمبراطور أورليانس جيوش الملكة العربية زنوبيا / عام 272 ميلادي .

وبالقرب منها وقعت معركة قادش بين رمسيس الثاني والحيثيين .

بعد أن انقضى برد الشتاء القارس في بلاد الشام ، أراد أبو عبيدة أن يفتح حمص ، فاستخلف على دمشق يزيد بن أبي سفيان ، وعلى  فلسطين عمرو بن العاص ، وعلى الأردن شرحبيل بن حسنة ، وسرّح في مقدّمته خالد بن الوليد ، وسلكوا لأول مرّة طريق الداخل الذي يمر بسهل البقاع وبعلبك ، وتركوا الطريق الشرقيّة الصحراوية الخارجية التي كانوا يسلكونها من قبل ، وذلك لتطهير أي جيب روماني  بين سلاسل الجبال الغربية قد يهدد مؤخرتهم عندما يتقدّمون إلى حمص .

كان ذلك في أواخر ربيع الأول / 15 هجري

تقدّم خالد باتجاه حمص يسحق أية قوّة رومانية تعترضه ، ويفتتح أية بلدة يمرّ عليها ، حتى بلغ حمص ، فتحصّن أهلها وراء الأسوار ، فحاصرها المسلمون من كل جانب ، وخاصة من الشمال باتجاه الرستن ، لمنع أي دعم روماني يأتيها من تلك الجهة .

ولما وجد أهل حمص أنفسهم محصورين داخل أسوار مدينتهم ، وقد تخلى عنهم هرقل وجنوده ، وخافوا على نسائهم السبي إن فُتحت المدينة عنوة ، لذلك أرسلوا إلى المسلمين يطلبون الصلح ، فقبل منهم أبو عبيدة ذلك ، وكتب لهم كتاباً بالأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم .

ثم بعث طلائعه تطارد فلول الروم نحو حلب والجزيرة ...

وكتب أبو عبيدة إلى عمر مخبراً ومهنّئاً وشاكراً لله ...

( بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله أمير المؤمنين من أبي عبيدة بن الجراح ، سلام عليك ، فإنني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ،

أما بعد ... فالحمد لله الذي أفاء علينا وعليك يا أمير المؤمنين أفضل كورة في الشام أهلاً وقلاعاً ، وأكثرهم عدداً وجمعاً وخراجاً ، وأكبتهم للمشركين كبتاً ، وأيسرهم على المسلمين فتحاً ..

أخبرك يا أمير المؤمنين أصلحك الله ، أنّا قدمنا بلاد حمص وبها من المشركين عدد كثير ، والمسلمون يزفّونهم ببأس شديد ، فلما دخلنا بلادهم ، ألقى الله الرعب في قلوبهم ، ووهّن كيدهم ، وقلّم أظفارهم ، فسألونا الصلح ، وأذعنوا بأداء الجزية ، فقبلنا منهم ، وكففنا عنهم ، وفتحوا لنا الحصون ، واكتتبوا منّا الأمان ، وقد وجّهنا الخيول إلى الناحية التي فيها ملكهم وجنوده ، فنسأل الله ، ملك الملوك ، وناصر الجنود أن يعزّ المسلمين بنصره ، والسلام عليك ) .

ولكن عمر رضي الله عنه ، القائد الستراتيجي المبدع كان له رأي آخر، فلقد كان سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه يزحف في الميدان الشرقي للأمة باتجاه القادسية ، ليخوض واحدةً من أعظم معارك التاريخ ، فوجب تهدئة الميدان الغربي ، فأرسل إلى أبي عبيدة يقول :

( أما بعد ، فقد بلغني كتابك تأمرني فيه بحمد الله على ما أفاء الله علينا من الأرض ، وفتح علينا من البلاد ، ومكّن لنا في القتال ، وصنع لنا ولكم ، وأبلانا وإياكم من حسن البلاء ، فالحمد لله حمداً كثيراً ليس له نفاد ، ولا يُحصى له تعداد ..

وذكرت أنك وجّهت الخيول نحو البلاد التي فيها ملك الروم وجموعهم فلا تفعل ، وابعث إلى خيلك فاضممها إليك ، وأقم حتى يمضي هذا الحول ، ونرى من رأينا ، ونستعين بالله ذي الجلال والإكرام على جميع أمورنا ، والسلام )

يا للعظمة ... ويا للروعة ... ويا للعبرة ... ويا لألق التاريخ ...

تعلموا أيها القادة والعسكريون فنون الستراتيجية والحرب ...

ألا ما أجدرنا ، وأجدر قادتنا أن ينهلوا من هذا المعين الطاهر ...!؟