أصول مثبطات العزم

جمال زواري أحمد ـ الجزائر

[email protected]

العزم من الشروط الأساسية للنجاح والتوفيق وتحقيق الأهداف على المستوى الفردي والجماعي، وهو المفتاح الأول من مفاتيح التمكين للأفكار والمشاريع والدعوات، والسلاح الفعال للقضاء على التردد في تنفيذ القرارات في الميدان، وجعلها واقعا عمليا ملموسا.

وقد خاطب الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى للعزم بقوله:((فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ))(آل عمران159).

فالتردد هو ثمرة فساد الرأي الناتج عن خور العزيمة وضعف الإرادة وترهل الحزم كما قال الشاعر العربي:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فأن فساد الرأي أن تتردد

ولعل من أخطر ما قد يصاب به العزم الصانع للإنجاز لدى العاملين هو الإحباط والتثبيط الذي يصيبه في مقتل، ومن ثم يغرق صاحبه في بحور السلبية والإنسحابية والكلالة والإفلاس العملي والإنجازي.

ومثبطات العزم كثيرة لكن أصولها ثلاثة هي:

1 ــ الصغر في الهمم:

الهمة على علاقة وثيقة بالعزم صعودا ونزولا، فكلما كانت همة المرء أكبر وأعلى وأسمى وأنبل كلما كان عزمه اكبر وأشد وأجل وأكثر حضورا، وكلما كانت همته أصغر وأحط وأسفل كلما كان عزمه أوهن وأضعف وأقل، لذلك ربط ابن القيم بينهما في تحقيق إشراق القلب بنور الله عز وجل حيث قال:((إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة، وردفه قمر العزيمة، أشرقت أرض القلب بنور ربها)).

فصغر الهمة من مثبطات العزم الكبيرة التي تقعد المتلبس بها عن نيل المكرمات واقتحام العقبات وصعود القمم، وتبقيه يترنح في المراتب الدنية لا يبرحها كما قال عمر رضي الله عنه:((لا تصغرن هممكم فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم)).

فالهمة الصغيرة المتواضعة بقدر ما تثبط عزم صاحبها وتحبطه، بقدر ما تطفئ شعلة الحماس لديه، وتقيّد انطلاقته، وتكبّل حركته، وتدفن طموحه، وتخفض سقف أهدافه إلى الحضيض.

2 ــ اليأس في النفوس:

ومما يثبط العزم كذلك غلبة اليأس على النفوس الذي يؤدي بها إلى الزهد في الإقدام، وانسداد شهية الإقبال، وعدم المبادرة وتكرار المحاولة مهما توفرت من فرض وظروف وقدرات وإمكانيات، بحيث يتسبب اليأس لدى أصحاب النفوس المصابة به والغارقة في ظلماته إلى التفريط حتى فيما يملكونه من مواهب يمكن أن يفيدوا بها أنفسهم والآخرين، لما يوحيه هذا اليأس إلى نفوسهم من عدم جدوى ذلك، فيدفعهم دفعا إلى التخلي عنها ودفنها وعدم تنميتها وصقلها وتوظيفها لتكون أحد أهم وسائلهم للتميّز والتفوق والنجاح، بحجة أن لا أمل في التوفيق والتغيير نحو الأفضل فالدنيا ظلمات بعضها فوق بعض، لا تنفع معها مواهب ولا قدرات مهما كان حجمها، وكلما غشيتهم نفحة من عزيمة وهموا بالانطلاق والمبادرة طاف عليها يأسهم المدمر فأفسدها وثبطها وهد أركانها وأعادهم إلى مربع الإحباط والتشاؤم والسلبية والقعود من جديد، فيبقى المتشبع باليأس الفاقد للأمل دوما في مرتبة العادية ـ إن لم يكن تحتها ـ لا يغادرها إلى غيرها لافتقاده للعزم الصانع للقلق الإيجابي الذي يعتبر خميرة الارتقاء في مدارج النجاح وعدم الرضا بالدونية وملازمة القاع.

فاليأس من أشد نواسف العزم وقواتل الطموح وفواسد الهمة وهوادم الموهبة ودوافن الطاقة، مما يجعل المبتلى به من سقط المتاع الذي إذا غاب لم يفتقد وإذا حضر لم يؤبه به ولا يلقى له بال بمعناها السلبي، كما قال الشاعر:

وما للمرء خير في حياة إذا ما عدّ من سقط المتاع

ومع تثبيط العزم وإحباط الإرادة فإن خيارات اليائس إما الاندحار أو الانحدار أو الانكسار أو الاندثار أو الانفجار أو الانتحار وكلها خيارات أحلاها مرّ كما يقال.

3 ــ الوهن في القلوب:

 ومن أصول مثبطات العزم أيضا الوهن الذي يصيب القلوب ويستولي عليها فيمنعها من التطلع العملي نحو المعالي من الأمور، ويبقيها أسيرة السفاسف منها، ويجعلها تافهة في اهتماماتها، حيث أن مرض الوهن بركنيه البخل والجبن أو حب الدنيا وكراهية الموت من أكثر الأمراض التي تفتك بالعزائم فتكا فتتركها قاعا صفصفا، إذ لا عزم لبخيل الذي كلما فكر في اقتحام الخطوب، وعزم على ارتياد المراتب العالية، وعلم أن لذلك ضريبة وثمنا ومهرا لابد أن يدفعه من ماله وجهده ووقته وراحته، فيمنعه بخله من ذلك فيتقاعس ويتراجع ويصرف التفكير ويثبط عزمه، فالبخل يتنافى والسيادة والريادة والقيادة وحتى الصلاح في عرف الصالحين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لبني سلمة: من سيدكم؟ قالوا: الجدُّ بن قيس على بخل فيه. قال: وأيُّ داء أدوأ من البخل؟! بل سيدكم عمرو بن الجموح))(البخاري في الدب المفرد).

وقال حبيش بن مبشر الثقفي الفقيه:((قعدت مع أحمد بن حنبل ويحي بن معين والناس متوافرون فأجمعوا أنهم لا يعرفون رجلا صالحا بخيلا)).

وكما أنه لا عزم لبخيل فإنه لا عزم كذلك لجبان أو هيّاب أو متردد، لا يملك الجرأة والشجاعة ليقدم على أي عمل فيه بعض المخاطرة أو المغامرة أو التضحية أو التعب، لأن الجبان المتردد الهيّاب بالضرورة يكون متواضع الأحلام، محدود الطموح، مستكين النفس، منعدم الإرادة والمبادرة، خامل العقل والفكر، بطيء الحركة، كما قال الشابي:

ومن يتهيّب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر

ونظرا لخطورة الوهن بركنيه الجبن والبخل وأثرهما السلبي والسيئ على حياة المرء وعزمه وإرادته وهمته، كان النبي صلى الله عله وسلم يتعوذ منهما ويعلمنا ذلك في أذكار الصباح والمساء في قوله:((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)).

وكما قال أبو الطيب:    لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتـّال

فهذه ثلاثية أصول مثبطات للعزم ما إن تتسلط عليه حتى تقتلعه من جذوره من نفس المرء وقلبه وعقله، فإذا أردت أن يكون عزمك متوقدا فاعلا يقودك إلى المعالي، ويرقى بك إلى قمة التوفيق والتميّز، ويفتح لك أبواب النجاح على مصراعيها، فأحرص أن تتخلص عمليا وبحزم لا تساهل معه من أصول مثبطاته هذه، فطلّق يأسك، وتحرر من قيود وهنك، وكبّر همتك، تدخل نادي أهل العزائم الصانعين للحياة والتاريخ بكل جدارة واستحقاق.