إشراقات باهرة من سورة الأنعام 34

إشراقات باهرة من سورة الأنعام

( تسبيحة التوحيد الخاشعة )

د. فوّاز القاسم / سوريا

((قل:إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ،  لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165)))

وفي ختام السورة - وختام الحديث الطويل عن قضية التشريع والحاكمية - تجيء التسبيحة الندية الرخية , في إيقاع حبيب إلى النفس قريب ; وفي تقرير كذلك حاسم فاصل . . ويتكرر الإيقاع الموحي في كل آية : (قل). .(قل). .(قل). .

ويلمس في كل آية أعماق القلب البشري لمسات دقيقة عميقة في مكان التوحيد . . توحيد الصراط والملة . توحيد المتجه والحركة . توحيد الإله والرب . توحيد العبودية والعبادة . . مع نظرة شاملة إلى الوجود كله وسنته ومقوماته .

لا شريك له , وبذلك أمرت , وأنا أول المسلمين . قل:أغير الله أبغي ربا , وهو رب كل شيء , ولا تكسب كل نفس إلا عليها , ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم , فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . وهو الذي جعلكم خلائف الأرض , ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم . إن ربك سريع العقاب , وإنه لغفور رحيم . .

هذا التعقيب كله , الذي يؤلف مع مطلع السورة لحناً رائعاً باهراً متناسقاً , هو تعقيب ينتهي به الحديث عن قضية الذبائح والنذور والثمار , وما تزعمه الجاهلية بشأنها من شرائع , تزعم أنها من شرع الله افتراء على الله . . فأية دلالة يعطيها هذا التعقيب ? إنها دلالة لا تحتاج بعد ما سبق من البيان إلى مزيد . .

إنه الإعلان الذي يوحي بالشكر , ويشي بالثقة , ويفيض باليقين . . اليقين في بناء العبادة اللفظي ودلالتها المعنوية , والثقة بالصلة الهادية . . صلة الربوبية الموجهة المهيمنة الراعية . . والشكر على الهداية إلى الصراط المستقيم , الذي لا التواء فيه ولا عوج: (دينا قيماً). . وهو دين الله القديم منذ إبراهيم . أبي هذه الأمة المسلمة المبارك المخلص المنيب: (ملة إبراهيم حنيفا , وما كان من المشركين).

إنه التجرد الكامل لله , بكل خالجة في القلب وبكل حركة في الحياة . بالصلاة والاعتكاف . وبالمحيا والممات . وبالشعائر التعبدية , وبالحياة الواقعية , وبالممات وما وراءه .

إنها تسبيحة "التوحيد" المطلق , والعبودية الكاملة , تجمع الصلاة والاعتكاف والمحيا والممات , وتخلصها لله وحده . لله (رب العالمين). . القوام المهيمن المتصرف المربي الموجه الحاكم للعالمين . . في "إسلام" كامل لا يستبقي في النفس ولا في الحياة بقية لا يعبدها لله , ولا يحتجز دونه شيئاً في الضمير ولا في الواقع . . (وبذلك أمرت). . فسمعت وأطعت: (وأنا أول المسلمين).

 (( قل : أغير الله أبغي ربا , وهو رب كل شيء , ولا تكسب كل نفس إلا عليها , ولا تزر وازرة وزر أخرى , ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ?). .

كلمة تتقصى السماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن ; وتشتمل كل مخلوق مما يعلم الإنسان ومما يجهل ; وتجمع كل حادث وكل كائن في السر والعلانية . . ثم تظللها كلها بربوبية الله الشاملة لكل كائن في هذا الكون الهائل ; وتعبدها كلها لحاكمية الله المطلقة عقيدة وعبادة وشريعة .

ثم تعجب في استنكار: (( أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء)?

أغير الله أبغي ربا يحكمني ويصرف أمري ويهيمن علي ويقومني ويوجهني ? وأنا مأخوذ بنيتي وعملي , محاسب على ما أكسبه من طاعة ومعصية ?

أغير الله أبغي ربا . وهذا الكون كله في قبضته ; وأنا وأنتم في ربوبيته ?

أغير الله أبغي ربا وكل فرد مجزي بذنبه لا يحمله عنه غيره ? (ولا تكسب كل نفس إلا عليها , ولا تزر وازرة وزر أخرى ?). .

أغير الله أبغي ربا وإليه مرجعكم جميعاً فيحاسبكم على ما كنتم تختلفون فيه ?

أغير الله أبغي ربا , وهو الذي استخلف الناس في الأرض , ورفع بعضهم فوق بعض درجات في العقل والجسم والرزق ; ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون ?

أغير الله أبغي ربا , وهو سريع العقاب , غفور رحيم لمن تاب ?

أغير الله أبغي ربا , فأجعل شرعه شرعاً , وأمره أمراً , وحكمه حكماً . وهذه الدلائل والموحيات كلها حاضرة ; وكلها شاهدة ; وكلها هادية إلى أن الله وحده هو الرب الواحد المتفرد ? ? ?

إنها تسبيحة التوحيد الرخية الندية ; يتجلى من خلالها ذلك المشهد الباهر الرائع . مشهد الحقيقة الإيمانية , كما هي في قلب رسول الله [ ص ] وهو مشهد لا يعبر عن روعته وبهائه إلا التعبير القرآني الفريد . .

إنه الإيقاع الأخير في السياق الذي استهدف قضية الحاكمية والشريعة ; يجيء متناسقاً مع الإيقاعات الأولى في السورة , تلك التي استهدفت قضية العقيدة والإيمان ; من ذلك قوله تعالى:(قل:أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض , وهو يطعم ولا يطعم ? قل:إني أمرت أن أكون أول من أسلم , ولا تكونن من المشركين . قل:إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه , وذلك الفوز المبين). . . وغيرها في السورة كثير..