آداب في قصة نوح عليه السلام

في سورة هود

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

1- أوحي إلى نوح أن المؤمنين به بعد مكوثه بينهم تسع مئة وخمسين سنة لن يزدادوا ، فلا داعي لتضييع الوقت دون فائدة ، فالعمل يستمر إن كان مفيداً

2- على الإنسان أن يبذل ما استطاع في سبيل دعوته وأن لا يدّخر وسعاً في ذلك، وأن لا ييئس، فما ينبغي لمؤمن أن ييئس.

3- يبدأ الداعية بدعوة الناس عبر دوائر تتسع شيئاً فشيئاً ( الأسرة ، الأرحام ، الأقارب ، الحي والأصدقاء .....ثم القوم جميعاً ) قال تعالى " وأنذر عشيرتك الأقربين" .

4- يُفهم من قوله تعالى: (.. لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) أن الله تعالى وهو العالم بالغيب لم يقضِ عليهم أن يكفروا وإلا لم يحاسبهم ، إنما علِمَ أنهم لن يؤمنوا فكتب ذلك كتابة علم لا جبر.

5- يحزن المرء حين يرى الناس صادّين عن الحق بعيدين عنه ،ويكون ألمه أشدَّ حين يكون ذا إحساس شفاف وقلب حيٍّ ( ولا يحزنْك الذين يسارعون في الكفر) ( قد نعلم إنه ليَحزُنك الذي يقولون ) فحين قضى المولى أن يغرق الكافرين جزاء وفاقاً نبّه نبيّه نوحاً بلطف أن لا يحزن عليهم ( فلا تبتئس بما كانوا يفعلون).

6- وحزنُ الداعيةِ الكبير سيدِنا نوح – ويعلم الله تعالى أن نوحاً سيحزن - يدلُّ على حبه لقومه ورغبته في إيمانهم،ألم يقل له سبحانه ( ولا تُخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون)فلا يُحاججْ عن أحد منهم.

7- رحمة الله وعنايته تتابع الداعية في كل أحواله ( واصنع الفلك بأعيننا ووحينا) فنوحٌ عليه السلام ليس نجاراً ولا صانعَ سفن ، بيد أن الداعية يشرف على كل ما يفيد الدعوة ،ومَن أخلص لله اصطفاه مولاه.

8- يصيب قلبَ النبي نوحٍ الالمُ المتواصل من سخرية قومه منه وهو يصنع السفينة ويصوّر ذلك الالمَ الشرطُ (كلّما)إذ تُسمعنا قهقهاتِهم وكلماتهم الجارحة في غدوّهم عليه ورواحهم،ولو علم قومُه ما يُعدُّ لهم من العذاب الدنيوي والأُخرويِّ ما سخروا من نوح حين بدأ بصنع السفينة ، إنما بكوا وتضرّعوا وسارعوا إلى الإيمان ، ولكنْ ما تقول في قوم صدّوا عن سبيل الله وران على قلوبهم ما كسبوا فلم ينتبهوا إلى شدة العقاب.

9- إن من يضحكْ أخيراً يضحكْ كثيراً ، (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يُخزيه ويحِلُّ عليه عذابٌ مُقيم) إنه تهديد صريح لمن كان يعي ويعقل.

10- التنور بيت النار . أمّا أنْ يخرجَ الماء منه – على غير العادة- فإيذان بتغيّر الناموس الكوني وبدءِ العقاب الموعود، فليسارع المؤمنون إلى السفينة التي تحملهم إلى برّ الأمان. إنها الشارة المتفقُ عليها ونقطة الصِّفْر لبَدءِ العقوبة المُغرقة.

11- لن ينجوَ سوى المؤمنين الذي يركبون السفينة وحدهم مع الحيوانات أزواجاً لاستمرار الحياة بعد الطوفان، لن يكون معهم أحد غير المؤمنين ولو كانوا ذوي قربى فالرحم رَحِم الإيمان ليس غير ( قلنا احمل فيها من كلٍّ زوجين اثنين وأهلك – إلا من سبق عليه القولُ – ومن آمن).

12- (وما أكثرُ الناس ولو حرصتَ بمؤمنين) هذه سنّة الحياة فأصحاب القلوب الواعية نادرة ، إن الذين يعلمون الحياة ويفهمونها قلائل( وما آمن معه إلا قليل)

13- السفينة كبيرة لكنها سارت أياماً وليالي في المحيط الغامر برحمة الله تعالى وحفظه ( بسم الله مجراها ومَرساها) فهو سبحانه لطيف بعباده يحفظهم من الغرق في هذا المحيط اللجّ من الجبال المائية العاتية وأمواجها المتلاطمة ، "وكل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه باسم الله فهو أقطع" وعلى المسلم أن يكون ذكرُ الله في قلبه وعلى لسانه،"إن الله يُسَيِّرها"، وهو يضعها في المكان الآمن.

14- ولشدّ ما تصيبني النشوة وأنا أتمعّن في فواصل الآيات المناسبة للمعنى ، مثالها هنا ( إن ربي لغفور رحيم) فمَنِ اعتمد على الله وآمن به غفر له ذنوبه رحمه . ولعلنا نلاحظ انتماء نوح إلى ربه إذ قال ( إنَّ ربي) فكان التلازم بين المضاف والمضاف إليه دليلَ اللجوء إلى الله واللياذِ به.إن الملجأ في السفينة التي أحاطها الله سبحانه بعنايته ( اركبوا فيها).

15- إنه إبحار مخيف يدل عليه ( وهي تجري بهم في موج كالجبال ) تجري بقوة يُحركها من أسفلُ – ارتفاعُ بحار الأرض – ومن أعلى – تدفقُ محيطات السماء – فوقها ماء وتحتها ماء، غارقة هي إذاً بالماء الذي يَعلوها ويُعليها ،وتراهم يذكرون الله ويرجون السلامة – وهم فيها- والإنسان ضعيف فقير إلا من رحمة الله وحفظه.

16- الأبوّة – وما أدراك ما الأبوّة؟ نبع الحنان ودفء الحياة تتجلّى في نداء الأب يرى فلذة كبده يغوص في الماء ويغرق فيه فيناديه : أيْ بنيّ ،هلمّ إليّ ، فالنجاء هنا. (اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ). إنه يدعوه إلى الإسلام حتى اللحظة الأخيرة يريده معه مؤمناً بالله ، فالإيمانُ زادُ المرء وكنزُه.

17- ومن الوردة تولد الشوكة ، ومن الشوكة تتجلى الوردة ، "أب نبيٌّ وولدٌ كافر" .ولن تنفع النصيحةُ من اربَدَّ قلبه واسودّتْ نفسه، ألم ينصح إبراهيم عليه السلام أباه فأبى؟ هنا ينادي نوح : (يا بُنيّ )، وفي سورة مريم يخاطب إبراهيم أباه أربع مرات :( يا أبَتِ). ولا يجيب إلا من كان فيه خيرٌ أو ألقى السمع وهو نبيهٌ أريبٌ.لكنّ الكافر لا يرى النهاية مهما وضُحتْ ، فرمى الموجُ ولدَ نوح، وهو يراه يتقطع قلبُه عليه. واخذ الغضبُ أبا إبراهيم كلَّ مأخذٍ.

18-  إنها سَورةُ الغضب الإلهي الذي جيّش جنديّ الغرقِ فلم يذر منهم ديّاراً. ألم يتحرك هذا الجنديّ الغاضب تأييداً لموسى وقومه حين أخذ فرعونَ وجنده؟!( وما يعلم جنود ربك إلا هو).

19- فإذا ما انتهى الأمر وسكنت السماء فلم ترسل سحائبها ،وتوقف خروج الماء كانت الدنيا بحراً هادئاً لا تدري أين ترسو السفينة فليس من يابسة ، وكل ما حولك أو فوقك لونٌ أزرق . ولعل الشمس عادت بعد غياب ترسل أشعتها على الماء ، والناس في سفينتهم يسألون الله تعالى أن يتم عليهم فضله ، فما يعيش البشر إلا على الأرض ( منها خلقناكم ، وفيها نعيدكم ، ومنها نخرجكم تارة أخرى).

20- وترى الماء يتناقص ، فقد جاء الأمر الرباني للسماء والأرض كليهما أن المَهمّة قد انتهت فلْتستعِدْ كل منهما ماءها ( وقيل يا أرضُ ابلعي ماءك ) فبدأت الأرض تعيد نصيبها من الماء إلى جوفها ( ويا سماءُ اقلعي) وطار ماء السماء إليها حيثُ كان ، ألا نقول : أقلعت الطائرة إذا ارتفعت في الجوّ؟ وتصورِ الماءَ ينقسم قسمين على الرغم من اختلاطه وهو يؤدي مهمته، فهذا يغوص في الارض عائداً إلى مستقرّه وذاك يرتفع في سحائبَ إلى حيث كان في علم الله.

21- وترسو السفينة على غير ما اعتدنا أن نراها ترسو ، إنها في أعلى جبل الجودي، وتبدو الجبال أول الأمر أرضاً منبسطة فإذا ما غاض الماء رويداً رويداً بدأتْ تعلو شامخة وظهر ما دونها ثم انتهى الماء في الوديان العميقة ، وعادت البحار إلى سابق عهدها وكأن شيئاً لم يكن، بيْدَ أن الأرض طَهُرتْ من المستكبرين والكفرَة المارقين، وتسمع صوت الحقيقة ( بُعداً للقوم الظالمين) وليت الناس يعتبرون بما جرى للظالمين فيرعوون.

22- ونجد العاطفة الأبوية مرة أخرى تظهر في مناجاة الأب ربَّه في ابنه الذي غرق ( ربّ إن ابني من أهلي ، وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) ويتجلى ضعف الإنسان في النبي نوح على علُوِّ قدر النبوّة متسائلاً : كيف لا يكون ابنه من أهله فيجيبه الرحمن : إنه ليس مسلماً ، فلا يربطنا بالكافر سوى النسب أما الحب والولاء فهو الرابط الصحيح ، ألم يقاتل الصديق ابنه في بدر فيأسِره ويتبرّأ مصعبٌ من أخيه الأسير ابن أمه وأبيه " أبي عزيز " فيقول لمن أسره " اشدد عليه يا اخي فإن له أماً غنية تفديه"؟فيقول أبو عزيز : أهذه وُصاتك بي يا أخي ، فيجيبه مصعب : صه، إنه أخي من دونك. ألم يقترح الفاروق على الحبيب المصطفى أن يقتل كلُّ مسلم قريبه الأسير كي يعلم الجميعُ أن الصلة المرضي عنها صلةُ العقيدة؟ فنزل القرآن يؤيده ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض).

23- أما ما يُقال : إنه ابن زنا فهذا قدح في شرف الأنبياء. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ( ما زنت امرأة نبي قطُّ، وهذا دليل على براءة نساء الرسل والأنبياء من كل فاحشة على ولو كان بعضُهنّ كافرات، فماذا تقول في الاتهام اللئيم للرافضة الفاسقين في أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها.

24- ما أروع العودة إلى الحق سريعاً حين يُنبَّه سيدُنا نوحٌ ، فنسمعه يعتذر منيباً إلى الله تعالى ويسأله الرحمة والغفران فالله تعالى يقول له: ( إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين) فيؤوب إليه مقراً بخطئه (ربِّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ) ويتوب إلى ربه من خطإٍ لا يقصده طالباً الرحمة والمغفرة ( وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) ولا يضَيّع الله تعالى عمله بل يضمه إلى كنفه ويعفو عن زلته فيخصه بالسلام ويبارك عليه وعلى من معه.

25- ونقف على قوله تعالى ( ..وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) فنصحِّحُ فهم بعض المفسرين الذين ظنوا معنى " نوحٌ أبو البشرية الثانية " أن من كان معه من المؤمنين عقيمون ، فقوله تعالى ( وعلى أمم ممن معك ) وقوله سبحانه ( ذرّية من حملنا مع نوح)أنَّ نسْل البشرية منهم جميعاً.

26- كما نجد الدقة في هبة البركة ، فهي لا توهب للجميع إنما تخص المؤمنين ، فجاءت (مِن) التبعيضيةُ ( وعلى أمم ممن معك) تؤكد أنّ الرحمة في الآخرة تصيب المؤمنين ليس غير ، أما الكافرون فليس لهم إلا النار والعذاب المقيم.

27- وأخيراً وليس آخراً نجد الموسيقا تقرع آذاننا في كثير من آيات هذه القصة ، منه التكرار الرائع للميم ثماني مرات في قوله ( وعلى أمم ممن معك) وانقلاب الباء ميماً في قوله ( اركب معنا )، فتقرؤها ( اركمّعنا).

28- وتأمل معي ذاك التناسقَ  الزمانيّ واللفظيّ بموسيقاه المنظّمة في قوله تعالى( وقيل يا أرضُ ابلعي ماءك ، ويا سماء أقلعي ، وغيض الماء ، وقُضي الأمر واستوت على الجوديّ ، وقيل بعداً للقوم الظالمين .)

29- وقد يسأل أحدنا هل غرقت الأرضُ كلها ، فإن كان كذلك قلنا : أكان قوم نوح يملأون الارض فكفروا جميعاً فأغرق الله تعالى الأرض كلها؟ أم كانوا في جزء من الأرض؟ فالإغراق لهؤلاء فقط ولم يَغرَقْ غيرُهم .فنوح عليه السلام أرسل إلى قومه فقط ، فإن انكر بعضنا إن ترتفع الماء في أرض دون أرض قلنا وأين قدرة الله تعالى ؟ ألم يوقف الله تعالى الماء في البحر فسلك موسى عليه السلام وقومه البحر يابساً وماؤه على الجانبين بارتفاع الجبال؟

30- لا بد من الصبر للوصول إلى الهدف .نجد هذه النصيحة تتكرر زهاء تسعين مرة في القرآن وفي قصة سيدنا نوح نجد نتائج الصبر في عاقبة الأمور ( إن العاقبة للمتقين).

نسأل الله تعالى أن يبلغنا مرتبة الصابرين ..

والحمد لله رب العالمين