أَقِطُ أم سُلَيْم

أَقِطُ أم سُلَيْم

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

أنس بن مالك كان فتىً أنصارياً، لم يبلغ العاشرة من عمره حين قدم رسول الله r  المدينة، فأخذت أمه "أم سليم" بيده وذهبت به إلى رسول الله r  فقالت: يا رسول الله هذا أنسٌ يخدمك.

فلازم رسولَ الله r  إلى أن لحق بالرفيق الأعلى ودعا له رسول الله r  بثلاث دعوات: ((اللهم بارك له في عمره وبارك له في رزقه، وبارك له في ذريته)). فعاش قرابة مئة العام، وكان له حائط نخيل يثمر في السنة مرتين، ورأى ثمانين من ذريته.

وقال أنس: خدمت رسول الله عشر سنين فما رأيته قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء تركته، لم تركته.

أخلاق نبوية عالية، ربّاه ربه فأحسن تربيته وجعله قدوة للبشرية ومعلماً لها، فلا غرو أن يكون هذا المعلم كاملاً في صفاته، عظيماً في معاملته r  وبارك، اللهم اجعلنا تحت لوائه وارزقنا شفاعته واجعلنا من أهل خاصته.

قال أنس: جئت رسول الله r  يوماً، فوجدته جالساً مع أصحابه، وقد عصب بطنه بعصابة، فقلت لبعض أصحابه، لم عصب رسول الله r  بطنه؟

فقالوا: ما يفعل ذلك إلا من الجوع، وانظر إلى أصحابه ترَ الجميع في فاقة وعوز، والأيام دول، يوم لك ويوم عليك، فمن شبع شكر الله، ومن جاع حمد الله، فهو في اتصال دائم مع ربه.

قال أنس: فذهبت إلى زوج أمي ((أبي طلحة)) فقلت له: يا أبتاه – ومن رعى ربيبه فأكرمه واعتنى به فهو خير من أبيه حين يتركه – قد رأيت رسول الله rr  قد عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه فقالوا: من الجوع، وإني لأتألم حين أراه هكذا، فماذا نفعل يا أبتِ؟ فذهب أبو طلحة إلى مجلس الرسول الكريم r ، ثم عادَ فدخل على أمّي مسرعاً، وهو يحمل مثل همّي فنادها: يا أمَّ سُلَيم؟!

قالت: نعم يا أبا طلحة، هل تريد شيئاً؟

قال: قد رأيتُ رسول الله r  ضعيفاً، أعرف فيه الجوع وهذا ابنك أنس نبهني إلى ذلك.

قالت: نعم، عندي كِسَرٌ من خبز، وتمراتٌ، فإن جاءنا رسول الله r  وحده أشبعناه، وإن جاء آخر معه قلَّ عنهما.

قال: فماذا نفعل يا أمَّ سُليم؟

قالت – وقد التفتت إليَّ -: قم يا أنس إلى رسول الله r  فادعُه ولا يشعرَنَّ بك أحد- يا بني- فإن عرف أحدهم ما أنت قائله لرسول الله r  أوقعتنا في حرج...

قال أنس: فذهبت إلى رسول الله r  فوجدته ما يزال جالساً في المسجد بين أصحابه، فبدأت أتخطاهم لأصل إليه، فرآني رسول الله r ، فعرف أنني أحمل إليه كلاماً.

فقال: ((يا أنس، لعلَّ أبا طلحة أرسلك إليَّ)).

قلت: نعم يا رسول الله.

قال: ((ألطعامٍ يدعوننا؟)).

قلت: نعم يا رسول الله .. وقلت في نفسي: لا أكذب على رسول الله، كما أن المسلم لا يكذب.

وسمع القوم ما قاله لي رسول الله r  وإجابتي.

قال رسول الله r : ((قوموا معي يا معشر المسلمين إلى دار أبي طلحة)) فقاموا يتقدمهم الرسول الكريم r ، وانطلقت مسرعاً بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته بما كان وأن رسول الله r  لا يلبث أن يصل إلينا، فدهش، وعنّفني أول الأمر، فلما استجلاه قال مستنجداً بوالدتي: يا أم سُليم، هذا رسول الله r  قد جاء بالناس، وليس لدينا ما يطعمهم.

قالت مستسلمة: الله ورسوله أعلم، وما دام رسول الله r  دعاهم، فهو يتكفّل بهم.

فانطلق أبو طلحة يتلقى رسول الله r ، فلما لقيه أظهر السرور والترحيب، وعاد به وبأصحابه إلى البيت حتى وصلوا، فدخل رسول الله r  وأبو طلحة إلى الدار، والناس خارجها.

فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: ((أحضري ما عندكِ يا أم سليم)).

قالت: سمعاً وطاعةَ يا رسول الله.

فجاءت بالخبز ففتَّته وبالتمر ففلقته، وأخرجت النوى ثم عصرت عليه عُكّة السمن فكان إداماً طيباً، ومزجت الخبز والتمر والسمن جميعاً، فلما انتهت تقدّم رسول الله r  فقرأ عليه ما شاء الله أن يقرأ، ودعا بالبركة، وسأل الله من فضله وخيره.

ثم قال لأبي طلحة: ((ائذن لعشرة منهم بالدخول))، فأذن لهم، فاستداروا حول القصعة وقالوا: بسم الله الرحمن الرحيم، ... وأكَلوا حتى شبعوا، وخرجوا.

ثم قال: ((ائذن لعشرة آخرين))، فدخل هؤلاء.. حتى دخل القوم كلهم جميعاً وأكلوا وشبعوا وحمدوا الله تعالى، ثم انصرفوا والقوم سبعون رجلاً أو يزيدون، وكان رسول الله r  ينظر إليهم ويباسطهم ويدعو لهم بالخير واليمن وطيب المأكل.

قال رسول الله r : ((الآن يا آل أبي طلحة، هلموا إلى طعامكم يرحمكم الله))، ومد يده الشريفة،فأكل وأكلنا معه حتى شبعنا، ثم جمع ما بقي في الصحفة (القصعة) ودعا بالبركة، فإذا بها تعود ممتلئة كما كانت قبل أن تمتد إليها يد أحد.

وأمر رسول الله r  أن توزع أم سليم على جيرانها، ففعلت، ونال مَنْ حولنا من هذه الصحفة.

قلت لأبي طلحة: فلماذا دعا رسول الله r  المسلمين عشرة عشرة ولم يدعهم جميعاً، والبيت يتسع لهم.

قال: الله ورسوله أعلم، ولعله فعل ذلك:

لأنها كانت قصعة واحدة لا قصعتين، فلا يتصور تحلق ذلك العدد الكبير.

ولعل الحكمة في ذلك العدد أن لا يقع نظر الكل على الصحفة بطعامها القليل فيزداد حرصهم، ويظنون أنه لا يشبعهم فتذهب بركته.

ولعلهم إن كانوا كثيرين اكتفوا بسد الرمق، والرسول الكريم r  يريد أن يأكلوا فيشبعوا.

والذي أريده يا بني أن رسول الله r  رجل مبارك، أرسله الله لهدايتنا إلى الطريق المستقيم، وأجرى على يديه آيات عظاماً، فكن دائماً على قدميه تنل الخير العميم والفضل المقيم، قلت من قلبي: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

يا رب  أرسلت  النبي محمداً             بالدين والشرع القويم  مؤيَّدا

فله من الأعماق حب خالص             ينمو ويربو صافياً متجددا 1

رياض الصالحين: باب فضل الجوع وخشونة العيش

-- ---------

1- البيتان للمؤلف