صور من تأذّي النبي في القرآن 25

من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين وضعاف الإيمان

المقال : الخامس والعشرون

من عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء  على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..

سورة الضُّحى

قيلَ: الضحى أولُ النهار، وقيلَ وقت اشتداد الحرارة، وقيل النهار كله، فهو الوضوح، وكل شيء مع الشمس واضح،

 وقيل أقسم الله بالضحى الذي كلم الله فيه موسى، وحُشر فيه السحرة والناس  ) وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (1) .

وقيل في سجوِّ الليل، سكونُه وهدوءُه، وقيل الليل كله مغطى، وقيل الوقتُ الذي يقوم فيه المتعبدون. وقيل :الظلمة الواقعة.

ويًقسم الله تعالى- وهو غنيٌّ سبحانه عن القسم- بمخلوقاته، والنهارُ والليل منها..

وتظهر لنا عظمته من خلال عظمة مخلوقاته، وكأنه سبحانه ينبهنا إليه مراراً وتكراراً بتعاقب الليل والنهار ويريد أن يكون نصبَ أعيننا ومِلء أفئدتنا، فلا ننساه أبداً، ويقسم ليكون أثر القسَم وجوابُه في عقولنا وقلوبنا ماثلاً واضحاً

ولماذا أقسم الجليل سبحانه؟!!

روى الترمذي عن جندب البجلي قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار، فدمِيَتْ إصبعُه فقال صلى الله عليه وسلم وهل أنت إلَّا أصبع دميت.. وفي سبيل الله ما لقيت..

 وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون وُدّع محمد فقال تبارك وتعالى: " ما ودعك ربك وما قلى".

وروى الثعلبي بقية للحديث، فمكثتُ ليلتين أو ثلاثاً لا يقوم الليل. فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب: - ووكانت الدعوة في أولها ولم تكن عداوةُ أبي لهب وزوجِه قد اشتدّتْ  : ما أرى شيطانك إلَّا قد تركك.. ما رأيته قربك منذ ليلتين أو ثلاث.فنزلت الآية..

وهناك عديد من الأخبار في سبب نزول هذه السورة.

فلما نزل جبريل بهذه السورة، قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما جئتَ حتى اشتقت إليك ".

قال جبريل: " وأنا كنتُ أشدَّ شوقاً إليك، ولكني عبد مأمور".لا ينزل إلا بأمر الله.

"ما ودعك ربك وما قلى " ما أبغضك ربك مُذْ أحبك...

ما أشد شفافية هذه الجملة، إنها لتبني الصلة بين العبد وربِّه على أقوى ما تكون العبودية، ثم الحب، الحب العميق بين خالق الأكوان وبارئها ومسيّرها.. القوة العظمى الحنون الرؤوم وبين الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

القوة المطلقة والجمالُ المطلق، والعظمة المطلقة، تضفي على المخلوق الحبَّ والعطف والتأييد، وتقوّي الصلة، فيسمو هذا الإنسان إلى مقام العبودية فيكونُ أهلاً للكرم والتقريب، سبحان الله

)  وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) (1) أعطاه الله تعالى ألف قصر في الجنة، وفي كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم، ورضي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحدٌ من أهل بيته النار، ورضي أن تكون له الشفاعة في جميع المؤمنين.

عن عليٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

يُشفّعني الله في أمتي حتى يقول الله سبحانه لي: رضيتَ يا محمد؟ فأقول: يا رب رضيت.

وروى مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم( فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (2)    ، وقول عيسى (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ) (1)  ، فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى،

فقال الله تعالى لجبريل إذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسله ما يبكيك؟ فأتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فسأله فاخبره.

فقال الله تعالى لجبريل: إذهب إلى محمد فقل له: "إن الله يقول لك إنا سنرضيك في أمتك. ولا نسوءك.

وإن الله ليدَّخِر للرسول صلى الله عليه وسلم: ما يرضيه من التوفيق في الدعوة، وإزاحة العقبات، وغلَبة منهج الإِسلام على منهج الكفر، وظهور الحق الذي يدعو إليه.

 ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى(8)(2)

هذا رفعٌ من شان النبي صلى الله عليه وسلم، واستحضارُ جميلِ صنعِ الله، ومودتُه لرسوله الكريم، وفيضُه عليه، والإِيناسُ الإِلهي له.

انظر يا محمد صلَّى الله عليك وعلى آلك وأصحابك.. هل ودعك ربك وقلاك، حتى قبل أن

يبعثك؟ ألم يُحِط يُتْمك برعايته؟ ألم تُدرك حَيرتك هدايتُه؟

ألم يغمر فقرَك عطاؤه؟ لقد ولدت يتيماً فآواك إليه، وعطف القلوب عليك، وأعفاك بكسبك وكسب أهل بيتك عن أن تحس الفقر.

ونشأت في جاهلية جهلاء، وعقائد مضطربة فحماك من هذا المستنقع الآسن، وهداك بالأمر الذي أوحى به إليك. لقد أحسن الله إليك فجعلك نبيه ورسوله إلى الناس أجمعين، فعليك أن يكون الله قدوتك، فتساعدَ السائلين، وتتحدثَ بنعمة الله الكبرى عليك. وأولها الهداية.

( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) (1)  .

وهذه التوجيهات الإِلهية تعليمٌ للمسلمين، ودفع لهم إلى العمل الصالح فيكفلون الأيتام ويساعدون الفقراء، ويصرفون أموالهم في سبيل الله، فيكونون في هذا المجتمع الجاهلي نوراً ساطعاً ينير الطريق للبشرية جمعاء.

(1) سورة طه: الآية 59.

(1)  سورة الضحى: الآية 5.

(2)  سورة إبراهيم: الآية 36.

(1)  سورة المائدة: الآية 118.

(2)  سورة الضحى: الآيات 6- 8.

(1)  سورة الضحى: الآيات 9- 11.

وسوم: 642