إشراقات باهرة من سورة الأنعام 26

إشراقات باهرة من سورة الأنعام

( ولتستبينَ سبيلُ المجرمين )

د. فوّاز القاسم / سوريا

إن منهج القرآن لا يُعنى ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب . إنما يُعنى كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضاً . .

إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين ، فالأبيض لا يأخذ لونه إلا من الأسود ، وإشراقة النهار لا تُعرف إلا من ظلمة الليل .

إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية . ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر ; والتأكيد من أن هذا باطل محض وشر خالص ; وأن ذلك حق محض وخير خالص . . كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق ; ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل . . وأنه يسلك سبيل المجرمين ; الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوا منهم (( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين )).

ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين , أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون ; عن ثقة , وفي وضوح , وعن يقين .

إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح . واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات .

ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم . فهما صفحتان متقابلتان , وطريقان مفترقتان . .

ولا بد من وضوح الألوان والخطوط . .

ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية وكل ثورة إسلامية وكل جبهة إسلامية بتحديد سبيلها ، وتمييز رايتها ، وتوضيح منهجها ، وتطهير سلوكها ، ليتمايز سبيل المؤمنين عن سبيل المجرمين ، وإذا لم يشعر الناس بهذا الفرق الواضح فيكون المجاهدون قد خسروا أهم سند لانتصارهم بعد الله ، وهي حاضنتهم الشعبية. كذلك يجب تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين ; ووضع العنوان المميز للمؤمنين . والعنوان المميز للمجرمين , في عالم الواقع والسلوك والممارسة والتطبيق ، لا في عالم النظريات فقط . فيعرف الناس من هم المؤمنون  ومن هم المجرمون . بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم , وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم . بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان , ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين . .

وهذا التحديد كان قائما , وهذا الوضوح كان كاملا , يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية . فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول [ ص ] ومن معه . وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل أبي جهل وأبي لهب ومن لفّ لفّهم من المجرمين . . ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله - سبحانه - يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين !

وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة ...

حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة , وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك . . لا يجدي معها التلبيس !

ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ، ليست في شيء من هذا . . إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين , في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام . .

ثم اذا هذه الارض , وإذا هؤلاء الأقوام , يهجرون الاسلام حقيقة , ويعلنونه اسما .

وإذا هم يتنكرون لمقومات الإسلام اعتقادا وواقعا وسلوكاً وتطبيقاً ، وهم يحسبون أنهم يدينون بدين الإسلام  !

فالإسلام الحقيقي الذي لا يقبل الله من البشريّة ديناً سواه ، هو ليس مجرّد انتماء أو هويّة أو حتى شهادة أن لا إله إلا الله . . بل هو اليقين الجازم بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون والمتصرف فيه . وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاطات الحياة كلها . وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في كل شأن من شؤون حياتهم  . .

وأيما فرد ينكر هذه الحقائق ، ويرفض أن يتحاكم إلى الإسلام والقرآن ، فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد . كائنا ما كان اسمه ولقبه ونسبه . وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - - فهي أرض لم تدن بدين الله الحقّ , ولم تدخل في الإسلام الحقّ بعد . .

وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين ; وهم من سلالات المسلمين .، ويعلنون في دستورهم المزوّر أنّ الإسلام هو ( المصدر الرئيس للتشريع ) ضحكاً على ذقون المسلمين ... وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام . . ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول . .

وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام !

أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله , ومدلول الإسلام في جانب ; وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر . .

أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين , وطريق المشركين المجرمين ; واختلاط الشارات والعناوين ; والتباس الأسماء والصفات ; والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق !

ويعرف أعداء الإسلام هذه الثغرة . فيعكفون عليها توسيعا وتمييعا وتلبيسا وتخليطا  حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ...!!!

  تهمة ( التطرّف ) و ( الإرهاب ) و ( تكفير المسلمين) !!!

ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة يُرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم  لا إلى قول الله ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم !

هذه هي المشقة الكبرى . . وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في هذا الجيل  !

وهنا يجب أن نفرّق بين منهجين في سلوك وتصرّف العصبة المؤمنة : فبعد أن توضّح سبيلها ، وتعلن رايتها ، وتستعلن بدينها وعقيدتها ودعوتها ،  بدون أن تأخذها في كلمة الحق هوادة ولا مداهنة ، وبدون أن تأخذها فيها خشية ولا خوف ; وألا تقعدها عن الجهاد في سبيل الله لومة لائم , ولا صيحة صائح تافه مائع ، أو خبيث مغرض : ( انظروا ! إنهم يكفرون المسلمين ) ...!

بعد ذلك يجب أن تعلم بأن استبانة سبيل المؤمنين ، وتميز رايتهم ، ووضوح منهجهم ... لا يعني بالضرورة الصدام مع المسلمين البسطاء وتكفيرهم ، الذين هم السواد الأعظم للأمة ، والحاضنة الشعبية للمجاهدين ، بل يجب بذل كل جهد ممكن لدعوتهم ، وهدايتهم ، ونصحهم ، وخفض الجناح لهم ، والصبر على أخطائهم ، وعدم استحلال دمائهم ...

أما عتاولة المجرمين ، من الحاقدين على الإسلام ، والمعادين لأهل الدين ، فلهم منهج آخر ، وطريقة أخرى للتعامل ( أذلةٍ على المؤمنين ، أعزّةٍ على الكافرين ) ...