إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيم استعملك و فيم أقامك؟؟..

قال ابن عطاء الله السكندري: قوم اختصهم الله بمحبته، وقوم أقامهم الله في خدمته... كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا...

ليس هناك مقام- بعد النبوة -أعلى وأحلى من مقام الدعوة إلى الله  .. فهي غاية الشرف وذروة العز وقمة الشموخ.... بل اللذة الصافية التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات:" ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين"

فالكون كله من الذرة إلى المجرة يحتفي وينحني للداعية والمربي والمصلح تقديرا وتكريما: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ"

المكانة الحقيقية والمقام الرفيع:

إذا أردت أن تعرف قيمتك ومقامك ومكانتك ومنزلتك عند الله فانظر فيم استعملك؟....و فيم اقامك؟....

فقيمتك تساوي همتك ودعوتك وإيجابيتك  ..

فإذا كنت داعية إلى الله أو مربي أو مصلح... فقد اختارك الله واصطفاك:"اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ.

كسبيكة الذهب الأصلية بين الزيف، وحبة اللؤلؤ الطبيعي في كومة الخرز الرخيص...

قال ابن القيم: (ولا يكون من أتباع الرسول على الحقيقة إلا من دعا إلى الله على بصيرة. قال الله تعالى: ﴿ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ).

( وهؤلاء هم خواص خلق الله، وأفضلهم عند الله منزلة وأعلاهم قدرا ).  .

قد اختارنا الله في دعوته .... وإنا سنمضي على سنته

فمنا الذين قضوا نحبهــم .... ومنا الحفيظ على ذمتــــه.

الاستعمال أو الاستبدال:

فإذا تقاعسنا وتكاسلنا وفترنا وتلكأنا ونفضنا أيدينا من هذه الدعوة الرائعة الساحرة الجميلة فقد فقدنا مبرر وجودنا واستنفدنا أغراضنا وآن لنا الأوان أن نسلم الراية لغيرنا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ... وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ..."

ذلك أن سنن الله لا تحابي أحدا...إما أن نسلك طريق الدعوة: محبة وحرصا وهمة وحرقة ولوعة وتضحية ووفاء وثباتا وإخلاصا فنتدرج في مدارج السالكين ومعارجهم و نكتب في سجل الخالدين مع صفوة الصفوة وأعلام سير النبلاء وحلية الأولياء...

قال ابن القيم: إن الله سبحانه إذا أقبل على عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاته وتنورت ظلماته وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال.. وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنهم تبع لمولاهم فإذا أحب عبدا أحبوه وإذا والى واليا والوه..

"إذا أحب الله العبد نادى يا جبرائيل إني أحب فلانا فأحبه فينادي جبرائيل في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض فيوضع له القبول بينهم "

ويجعل الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته ويقبل عليه بأنواع كرامته و يلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم..

عطايانا سحائب مرسلات    ولكن ما وجدنا السائلينا

وكل طريقنا نار ونور        ولكن ما رأينا السالكينا

ولو صدقوا وما في الأرض ماء       لأجرينا السماء لهم عيونا

وأخضعنا لملكهم الثريا                وشيدنا النجوم لهم حصونا

ذلك أن الدعوة لواء شرف لمن يحمله حق الحمل من غير احتراس ولا احتراز بشموله وتكامله وتوازنه وتناغمه...

... أما إذا وضعنا الدعوة في المراتب الهامشية الأخيرة من سلم أولوياتنا واهتماماتنا: فتزل أقدام وتضل أفهام : وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا...

فأصبح كالبازي المنتف ريشه ... يرى حسرات كلما طار طائر

وقد كان دهرا في الرياض منعما ... على كل ما يهوى من الصيد قادر

إلى أن أصابته من الدهر نكبة ... إذا هو مقصوص الجناحين حاسر

قال ابن القيم: إنما هي لذة فانية وشهوة منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها.. فرح ساعة لا شهر .. وغم سنة بل دهر.. طعام لذيذ مسموم أوله لذة وآخره هلاك .. فالعامل عليها والساعي في تحصيلها كدودة القز يسد على نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة..

والمقياس الدقيق لمدى تفاعلنا مع رسالتنا ومنهجنا هو مقدار حرقتنا ولوعتنا ونحن نسير معا في طريق الدعوة... و لله در الداعية المودودي حين قال في تذكرته القديمة المتجددة:

إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نار مُتَّقدة تكون في ضرامها على الأقل!!! مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابنا له مريضا ولا تدعه حتى تجره إلى الطبيب، أو عندما لا يجد في بيته شيئا يسد به رمق حياة أولاده فتقلقه وتضطره إلى بذل الجهد والسعي.. وهذه العاطفة ما لم تكن راسخة في أذهانكم ملتحمة مع أرواحكم ودمائكم آخذة عليكم ألبابكم وأفكاركم، فإنكم لا تقدرون أن تحرِّكوا ساكنا بمجرد أقوالكم .

.. فهل نحن كذلك...؟؟اااا

هذه مقدمة لنفضات ونبضات وومضات على طريق الدعوة... وسلسلة دعوية تربوية فكرية روحية متناسقة متناغمة نقدمها لابناء الدعوة: تحليلا وفهما و تفاعلا وذوقا...

نتناول فيها الداعية والمربي: عقلا وروحا وعاطفة...لا أحد يعلو فوق مجالس الذكر والتذكير....الحركة بدون دعوة ربانية هيكل بلا روح وخط بلا وضوح...

الإبداع الدعوي .. ذاتية الهدهد... المربي أستاذ الحب والحنان... المحاضن التربوية بين الإقبال والإدبار...

ثلاثية النجاح: العلم والربانية والدعوة.... الدعوة بين الجوارح والجوانح... فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا....

تلكم عشر حلقات كاملة متكاملة نعالج من خلالها الكثير من المشاكل الدعوية الواقعية مع التمثيل والتعليل والتحليل... من خلال تجربة دعوية تربوية بين المساجد والمحاضن دامت أكثر من ثلاثين سنة.... نسأل الله الإخلاص والقبول... وأن يستعملنا ولا يستبدلنا...

ولنترنم مع ابن الجوزي في مناجاته:

إلهي لا تعذب لساناً يخبر عنك، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا يداً تكتب حديث رسولك، ولا قدما تمشي في خدمتك.. فبعزتك لا تدخلني النار فقد علم أهلها أننا كنا نذب عن دينك...

والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل

والله أكبر ولله الحمد

وسوم: العدد 665