المولد النبوي عند الحافظ المجتهد المحدث جلال الدين السيوطي

جاء في " حسن المقصد في عمل المولد"، لسيّدنا جلال الدّين عبد الرحمن السيوطي 849-911هـ ، صفحات 199-207، ضمن كتابه الكبير " الحاوي للفتاوي"، تحقيق الأستاذ خالد طرطوسي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1425هـ - 2005، من 764..

أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك: هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها، لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف.

وقد استخرج للمولد النبوي الشريف إمام الحفاظ أبو الفضل أحمد بن حجر أصلا من السنة، واستخرجت له أنا أيضا أصلا.

وحضر العلماء والصلحاء من غير نكير، رفقة الملك العادل للاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وارتضاه ابن دحية وصنف له من أجله كتابا، فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه.

وروى سيّدنا البيهقي في "مناقب الشافعي"، قوله.. المحدثات من الأمور ضربان: ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة، والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عن قيام شهر رمضان: نعمت البدعة هي. يعني أنها محدثة لم تكن، وإذ كانت فليس فيها رد لما مضى. والمولد النبوي من الإحسان الذي لم يعهد في العصر الأول، فإن إطعام الطعام الخالي عن اقتراف الآثام إحسان، فهو من البدع المندوبة كما في عبارة سيّدنا ابن عبد السلام.

أصل الاجتماع لاظهار شعار المولد مندوب وقربة، وما ضم إليه من خمر، ومجون، وفسوق فهو مذموم ممنوع، شأنه في ذلك شأن التراويح، والجمعة، والصلاة لو شابها منكر لكانت قبيحة شنيعة. وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة وهي إظهار شكر وفرح بالمولود، ولم يأمر عند الموت بذبح ولا غيره، بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع، فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم.

فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن نحترمه حق الاحترام، ونفضله بما فضل الله به الأشهر الفاضلة. وينبغي إذا دخل شهر ربيع الأول الكريم أن يكرم ويعظم ويحترم الاحترام اللائق به اتباعا له صلى الله عليه وسلم في كونه كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات، فتتمثل تعظيم الأوقات الفاضلة بما امتثله على قدر استطاعتنا. فتعظيم هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات، والصدقات إلى غير ذلك من القربات، فمن عجز عن ذلك فأقل أحواله أن يجتنب ما يحرم عليه ويكره له تعظيما لهذا الشهر الشريف، وإن كان ذلك مطلوبا في غيره، إلا أنه في هذا الشهر أكثر احتراما.

ولا عمل إلا بنية، ولا نية هنا إلا الشكر لله تعالى على ولادة النبي الكريم في هذا الشهر الشريف، وهذا معنى نية المولد، فهي نية مستحسنة. والذم إنما حصل من عدم النية الصالحة لا من أصل عمل المولد. وأخرج سيّدنا البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم عقّ عن نفسه بعد النبوة، مع أنه ورد أن جده عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه، لذلك يستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات.

وسوم: العدد 697