تفسير سورة الفجر

{والفجر *وليال عشر * والشفع والوتر *والليل إذا يسر* هل في ذلك قسم لذي حجر * ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد*وثمود الذين جابوا الصخر بالواد* وفرعون ذي الأوتاد *الذين طغوا في البلاد* فأكثروا فيها الفساد* فصب عليهم ربك سوط عذاب *إن ربك لبالمرصاد * فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه  فأكرمه ونعمه فيقول ربِ أكرمن *وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهاننِ* كلا، بلا تكرمون اليتيم ولا تحاضون علي طعام المسكين *وتأكلون التراث أكلا لما *وتحبون المال حبا جما* كلا، إذا دكت الأرض دكا دكا *وجاء ربك والملك صفا صفا * وجئ يوم إذ بجهنم* يومئذ يذكر الإنسان وأني له الذكري * يقول يا ليتني قدمت لحياتي *فيومئذ لا يعذب عذابه أحد *ولا يوثق وثاقه أحد * يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية

مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}

يقسمُ الله جل جلاله بصلاة الفجر التي تسبق طلوع الشمس، و وقت الليل

 حين يرخي الظلام علي الكون سدوله، و وقت الفجر و شروق الشمس يخترق الظلام فيبدده

 ثم يخص بالقسم  ليالياً عشرا معلومة الفضل والمنزلة هي العشر الأول من ذي الحجة وما فيهم من صلاة وذكر و فرار من الدنيا الي الآخرة بالصلاة في الليلِ والغطشِ والفجر  والغبشِ في عطشِ الي رؤي الجناتِ والعُرُشِ؛ الفُرّشِ بالحريرِ والفوّحِ بالعبيرِ.

(والقسم هو ذاته المقسوم عليه ) كما قال العلامة السعدي "رحمه الله"

وذلك تعظيم لشأن الحديث القادم بعده ؛أي قسم بهذه الليالي والصلوات والذكر إنها لاعمال شريفة عالية الفضل والمنزلة ، وقد يكون القسم محذوف كما قال الكثير من المفسرين دالا عليه لما بعده وتقديره

أن الله هو من اهلك هذه الأمم التي طغت وتجبرت وهو من سينهي هذا الطغيان القابع علي أمتك يا محمد إنما هو بلاء الله للمؤمنين ليجزيهم الجنة علي صبرهم

 ثم ينسبُ القسمَ الشريفَ الي الأذكياء ذوي العقول :" هل في ذلك قسم لذي حِجْرٍ"  هنا يتضح بلاغة القرآن في الاستفهام الندائي التقريري ب(هل) اي هلموا يا أصحاب العقول الذكية للتفكر ويدعوهم الي التفكير في أحوال من كفروا بالله  ونسوا من خلقهم ورزقهم الملك الدنيوي والمتاع الزائل فطغوا وتجبروا :"وأمم سنمتعهم ثم سيمسهم منا عذاب أليم""ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرمَ ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد " ثم اهلكهم الله في طرفة عين وانتباهها :"فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد " "فإذا جاء وعد ربك جعله دكاء وكان وعد ربي حقا"   .

{فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه  فأكرمه ونعمه فيقول ربِ أكرمن *وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن}

،ثم يستعرض الله في السورة الكريمة صورة لخصال بعض البشر فهم يحسبون النعيم متاع ولا يعلمون أنه بلاء :"ولتسئلن يومئذ عن النعيم" فلا يحسنون استخدامه ويعيثون في الأرض فسادا إرضاء لشهواتهم واتباعا لاهوائهم ثم إذا جُنّت عليهم الليالي واطبقت و

عليهم الحادثات وأرسلت عليهم الأقدار عواصفها يسخطون ويقطبون جبينهم ويخمشون الهواء ويلعنون الايام فتلك الطبيعة غالبة في نفوس من نسوا ربهم وغفلوا عنه وأحبوا العاجلة أما المؤمنون فإنهم يسلمون أمرهم إلي بارئهم فيرضون بكل قسمة الله لهم تصديقا لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :"إرض بما قسم الله تكن أغني الناس" فلا يعتريهم قلق او خوف فهم في رحمة الله  وجنبه ، ثم يتبع ذلك الردع الإلهي لهؤلاء بحرف (كلا) أي أن هذا لحكم خاطئ من هؤلاء علي الأحداث فالله لم يظلمكم بقدر الرزق عليكم إنما ينبهكم لتفيقوا من غفلتكم زيادة علي ذلك هذه بعض أعمالكم التي تدل علي غفلة مستحكمة في القلوب ،من أكل حقوق اليتامي وتجاهل حاجياتهم للرعاية و للنفقة في الدنيا وللاهل، والغلظة في التعامل مع ذوي الحاجة من المساكين فلا يتذكر الجار جاره الجائع ولا يعطف المرء علي المسكين الضائع خلف لقمة الخبز ولا يحنو النوّمُ في المضاجعِ علي الشريدين في الشوارع، وتستعجلون موت أهليكم لتحصلوا علي ارثكم وتتقاتلون علي أكل ميراث بعضكم   ،وتتزايدون من الأموال لاشباع شهوة جمع المال والأغراض دنيوية  لا لانفاق علي العيال والفقراء والمساكين ثم يعقب ذلكم وصف مشاهد يوم القيامة  _ التي اتبعها الله وصفا بديعا في السورة الكريمة _ فحين تدك الأرض وتزلزل فتنشق وتتفتت وتصعد الأرواح إلي خالقها لتجد أعمالها معروضة أمامها في الآخرة كتابا مفصلا تفصيلا والملائكة صفوف امام الرحمن في خشوع ينفذون أوامره في المحاكمة الإلهية فيسوقون أهل النار لجهنم والمؤمنون يدخلون الجنة مع من سبقوهم بالإيمان :" يومَ يقومُ الروحُ والملائكة صفا لا يتكلمون الا من اذن له الرحمن وقالَ صوابا"

ويشتعلُ حرارةُ الندمُ في قلوبِ من نسوا لقاء ربهم واحبوا العاجلة   وذروا وراءهم يوما ثقيلا عسيرا عليهم غير يسير

 ،ويتذكر

الإنسان كل شئ ارتكبه في حياته وبما ينفع التذكر وهو يذوق نار الندم علي ما فرط في جنب الله ولا ينفع الندمُ في هذا اليوم ولا تزلّ عن مصيرها القدمُ ويشتعلُ بلفحِ النارِ الدمُ  :"يومئذ يذكرُ الإنسانُ وأنّي له الذكرَي يقول يا ليتني قدمت لحياتيِ"  ,ثم يعقب الندم الحامي العذابُ المهولُ في نار جهنم  فعذاب الآخرة موقع علي الكافر بالله ولا مثيل لهُ ويرسف في قيود لا مثيل لها،  او يكون مصير الإنسان العطاء المجزي من رب الرحمة والغفران ويتلقي العبد كتابهُ بيمينِهِ  ليري صفحة بيضاء مضوّءة بنور الله وفيضِ رحمتهِ وجميلِ غفرانهِ  ويعلو النداءُ الإلهي أن ارجعي يا نفسُ  لمن خلقكِ راضيةً مطمئنةً  جزاءً لعبادتك واصطبارك علي البلاء المبين؛ الدنيا وما فيها من شرٍّ ابتلي الله به الخيرَ ليعلمَ الصابرينَ والمجاهدينَ وليحذرهم من عذاب يومٍ مبين فالمقدمات تسلم الي مصير محتوم يوم القيامة وكل من ينجرف في تيار الدنيا الجارفِ المرمل بالعواصفِ المحملِ بالقواصفِ لا ينجو ساريهِ أو حاديهِ ولا يحصلُ علي أي شئٍ من يشتهيهِ فليسَ فيه الا سرابٌ يحسبهُ الظمآن ماءً سيرويهِ لكن من يصبرُ علي بلاءِ الدنياَ طمعا فيما عند الله  من جنات الفردوس وتعلقا برحمه الله التي ستحملنا في الجارية ريثما نصلُ الي الجنة حينئذ سيترنم في حقول الفردوسِ شادِيهِ ويؤخذ كلٌ بنواصيهِ إلي نورِ الله كفراشةٍ تألقت باللون والضوء وتعطرت بالضوعِ وتضوعت بالعطرِ  واستمسكت بالعروة الوثقي حين بلغت المسك الفردوسيِّ  فحفتها الملائكة تتنزل من السماء تحمي العبد في الدنيا في البلاء وآيات من وحي الله تصبر العبد في البلاء وتحمّدهُ في النعيم  فتطيب نفسه ويستمسك بالعروة الوثقي التي لا انفصام لها ويسير علي صراط الله المستقيم مع العباد بمختلف درجاتهم فمنهم المؤمن ،منهم المحسن الصدّيق وفي كتاب الله صفات لهذا الصراط فهو العبودية والاستعانة والشكر والدعوة والقرآن والوحيُ والتوكلُ علي الله خيرِ وكيلِه وعليَ الله قصد سبيلِهِ ،فينادي الله علي النفس التي اطمئنت بالله وبعروته الوثقي وسارت علي الصراط المستقيم ويستشعر القارئ للآية الأخيرة في السورة دفء هذا النداء  الحنيّ بالرجوع لمن خلقها ورباها وجزاها جنة عرضها السموات والأرض .

وهنا مسك الختام وخير الكلام بهذه الآية الشريفة التي تشفي صدر كل مؤمن ومؤمنة.

"يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الي ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".

وسوم: العدد 719