تفسير سورة البلد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ لا أقسم بهذا البلد وأنت حلٌ بهذا البلد}

يقسم الله جل جلاله بالبلد الذي حل فيه سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم و هو دلالة علي الطمأنينة التي بثها الله في قلبه فهو يحميه في مكة ؛ بلدٍ عربيٍ حيث ولد يتيماً في دارِهِ والقي الروح عليه في غارِه ونشر دعوته في داخل وخارج  أسوارِه وجاب الكون يوزع الضوء نجوما في سماء حواضِرهِ  وقوافرِهِ  ويهدي البشرية إلي نور الإسلام وينقذها من ظلمات الجاهلية وبراثن الشرك.

وبدأ القسم بحرف لا الزائد للتنبيه اي قسم بهذا البلد الذي حللت فيه اي نزلت فيه يا محمد رسولا من الله بالدين القيم للناس لتدعوهم الي صراطه المستقيم.{ووالد وما ولد }اي كل ولد ووالده من إنسان وحيوان وطير فكل من يلدُ ولدا فهو والد سواء كان عن طريق رحم او بيضة المهم انه اتي من والد مكلف برعايته وهذا من إبداع الله في خلقه ان لم يخلق الكائنات التي تلد فرادي فجعلهم أسراً تتراحم بينها وتتواد وتتكافل

وتتناصح و تسبح بحمد ربها وتعبده حق عبادته .

و هذا القسم يبين طبيعة العلاقة بين الله ورسوله فهو من ارسله برسالة الإسلام وهو من خلق الخلق كله وهو من سيهدي المؤمنين من بني البشر الي الصراط المستقيم في مكة وغيرها من البلدان التي سيدخلها الإسلام عاجلا وآجلا.

والمقسم عليه هو ان الانسان خلق في تعب :"لقد خلقنا الإنسان في كبد"  يكابد الاقدار والحياة ويكدح فيها كدحا، استقبلها يجأر بالصراخ وخاض فيها الدروب المليئة بالفخاخ فاما تجاوزها وصولا لصراط مستقيم لا يحيد او علق بها من رحمة الله طريد.

فالانسان ليعجز ان يعلم ما في داخل حقيبة يحملها انسان غيره ويريد ان يتحكم في مصائر الكون ! وانه ليعجز علي ان يتحكم في ذبابة تحوم حوله بطيئة وهو نائم علي فراشه يفكر كيف يغير مصائر الناس ! وانه ليخاف من رعد وبرق في سماء يوم غائم ويظن نفسه قادرا علي اذي عباد الله !وفي الحياة الدنيا الانسان ما هو الا حبة رمل تضربها عواصف الاقدار وزوابع الايام فتتحرك الي حيث كتب الله لها ان تتحرك لا تتقدم خطوة ولا تتأخر ويحسب الن يقدر عليه احد!:"ان الانسان لظلوم كفار" ولكن ليس وحده الظالم من يتعب في الحياة فهذا التعب ايضا خلق فيه الانسان الصالح الذي أحياه الله حياة  طيبة ،ومنحه العقل الذكي بالتجارب والقلب السليم اللذين يجعلانه يحرك مشاعره وجوارحه بأمر الله وتسييره الي عبادته وتعمير الكون ونشر دعوته وخدمة دينه وحمده وشكره وهو يلاقي في هذا تعبا نفسيا وبدنيا في مقاساة البلاء وعلي قدر الايمان يأتي البلاء وعلي قدر البلاء يأتي الفرج يستعين بربه علي الصبر عليه وازالته بالتوبةالنصوح والعمل الصالح والانقياد التام والتوكل المطلق "واستعينوا بالصبر والصلاة وانها ل كبيرة الا علي الخاشعين"" ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين"

والراحة لا تأتي الا بعد التعب  وكذا الجنة لن تأتي الا بعد البلاء المبين في الدنيا.

وكأن الله عز وجل في هذه السورة ومطلعها يبين طبيعة البشر ليطبب قلب نبيه وحبيبه محمد -صاحب الكمال الانساني المنشود و المثالية المنتقاة -في بدء دعوته التي انتشرت في شتي بقاع الارض ان الذين يؤذونه في مكة- التي حرم الله فيها قتل الحيوان والنبات- يظنون انفسهم القوي العليا في هذا الكون وما هم الا ركوب علي سفينة تحركها امواج الاقدار المتلاطمة وتتقاذفها من نقطة الي نقطة مسيرة تماما والعواصف والريح تعطيها جهتها واحيانا يرتعد الغيم فيرسل عليهم الصواعق والسيول فتغرق السفينة ويتشبث الركاب فمنهم من يغرق ومنهم من يظل معلقا علي قطعة خشب في عرض البحر الواسع الذي خلقه الله ويحرك كل قطرة ماء فيه بأمره فهو في الرخاء كان محركهاومنعمهم علي سطحها وفي الشدة كان مغرقها ومعلقهم علي قطعة خشب  لكنهم لا يعون هذه الحقيقة فعقولهم اعماها الهوس بالدنيا ومتاعها الزائف حتي كفرت بربها الذي خلقها، فبعث الله محمد صلي الله عليه وسلم برسالة تكمل ما انتهت به رسالات الانبياء السابقين له وهو خاتمهم لينقذ البشرية من ظلمات الجهل وبراثن الشرك وفخاخ المدنية و النعرات القومية لكي لا يكون للناس حجة امام الله يوم القيامة ان الحق لم يصلهم بل جاءتهم رسالة الإسلام لتوضح طريق الخير والشر "وهديناه النجدين " فكانت الرسالة التي جاء بها محمد صلي الله عليه وسلم  شافية واضحة تماما مبينة كالشمس في الفجر الجميل المندي بالنسيم العليل و النور السليل ولا يسمع احد كلام الله الذي جاء به محمد صلي الله  عليه وسلم الا واعجز من حلاوته وطلاوته .

"أيحسب ألن يقدر عليه أحد"

علي جمعه انسانا مرة اخري بعد ان يدفن في الترب ويأكله الدود ويتحلل في الرمل وتقبض روحه فمن قبضها ايها الإنسان؟! ،ومن قدرك تقديرا قبل ان تتكون جنينا في رحم أمك ثم أودعها في جسدك ؟! ، ويبين الله عز وجل مدي حمق هذا المريض الذي يظن انه يملك خزائن السماوات والارض ومعه مفاتيحها لما جمعه من مال كثير واستزاد في جمعه "يقول اهلكت مالا لبدا" وما اروع هذا التعبير القراني اللامثيل له فهو بديع  التناسق في الكلمات الثلاثة اهلكت مالا لبدا فمخارج حروف "اهلكت مالا " تنساب كموج صاعدا هابطا من الحلق الي اعلي الفم انتهاء بطرفه ثم يعلو الجرس القراني في كلمة مالا بعدها ليدل علي مدي الغرور والشره ان يظن نفسه جمع هذا المال بنفسه دون ان يكون الله رزقه له -ليمتعه ويعذبه به في الدنيا والآخرة - ويعدده تعديدا ويحسب ان ماله سيخلده في الدنيا :" ويل لكل همزة لمزة *الذي جمع مالا وعدده يحسب ان ماله أخلده" ،ولكن الله بالمرصاد فالله يراه وهو يجمع هذا المال وينفقه في عصيان الله ومعاداة المؤمنين "أيحسب ألم يره أحد" وكأنها إشارة للمؤمنين بالصبر علي أذي هؤلاء فالله يراهم ويسمعهم ويضع هذا البلاء للمؤمنين في الدنيا لئلا يتعلقوا بها وليجزيهم الجنة علي صبرهم .

"ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين" أليس الله من جعل له الله جوارحه التي يسيره بها في الدنيا الي اقداره الموضوعة تماما تفصيلا قبل بدء الحياة الدنيا وخص البصر واللسان بالذكر لما فيهما من سبيل لمواصلة سير الإنسان في سبيله الذي اختاره قبل الحياة الدنيا ثم جاء ليري عمله ويسير في هذا الطريق وهو يري الخير والشر فاما يسير في طريق الخير و يسلم امره الي ربه او يسحب علي وجهه اضل من البهائم في الدنيا و يسحب علي وجهه في النار في الآخرة :"ولعذاب الآخرة أشد وأبقي" وقال الله في آية اخري "هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة قليلا ما تشكرون "ففصّل الله غرض هذا الجعل العضويّ التكليفيّ لبني آدم دونا عن باقي الكائنات التي لها سمع وبصر ولسان وأضاف الأفئدة فجعل لابن آدم قلوبا تختلف عن قلوب الحيوانات فتيار الشعور المتولد عنها تحوّل هذا السمع والبصر واللسان الموجودين في الانسان الي مشاعر ؛تسمع بها  اذنه ما يتسق معها، وتري بها عينه ما يتسق معها ،ويتحدث بها لسانه بما يدل عليها ؛كأنه،تيار الشعور غيمة خفية تتحرك معه تمطر عليه مطر  الافكار تولد في وجدانه رعود المشاعر وبروقها  و لهذا التيار علاقة بالعقل والقلب البشري وليس علاقة عضوية انما علاقة غيبية علمها عند الله وحده.

اما القلب في حد ذاته هو مجموعة خلايا وصمامات تجمعت لتكون عضوا يضخ الدم في الجسد ليبقي حيا علي الارض حتي ينتهي عمره فتتحل جميع اعضاؤه في قاع الارض وتعود للتراب منشأها الرئيسي الذي كونها الله منه وهنا يعود اليها .

"وهديناه النجدين"

فبعد أن خلقه الله مكلفا ببصر ولسان يتحدث به عن افكاره ويسير بهما في الحياة الي اقداره وهو في سيره هداه الله طريق الخير والشر يري بعينه ويستنكر بلسانه وهو في ذلك مسير تماما فإما يري الشر فيستنكره بلسانه وبيده وبقلبه ويشكو لله فيطببه الله وإما يري الخير فيستنكره بلسانه وبيده وبقلبه ويشكو للطاغوت فيذله الطاغوت!

هذه هي قصة الإنسان منذ الميلاد الي البعث !

"فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة، فكُّ رقبة أو إطعامٌ في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، أولئك أصحابُ الميمنة"

ثم يبدأ الله الحديث عن طريق الخير في الدنيا وهو طريق عظيم مصحوب بمشقة، في الصبر علي البلاء و الانفاق في سبيل الله وجمح الرغبات والشهوات . فبدأ بلا زائدة للتنبيه لحث الانسان علي السير في هذا الطريق الذي أوضح الله معالمه؛ فلم تك لا نافية ولا ناهية انما هي تقريرية مثبتة  بالمعطوف عليها المثبت "ثم كان من الذين آمنوا" واذا عطف مثبت علي (لا )ابتدائية كانت زائدة للتنبيه بمعني (افلا ) ثم جاء بمعني الاقتحام عن العبور ليدل علي مشقة هذا الطريق العظيم وانه يحتاج الي صبر وجلد يستعين المرء عليهما بالله ثم عظم الله شأن هذه العقبة بأسلوب التعجب علي نسق :"وما أدراك ما ليلة القدر" فقال تعالي :" وما أدراك ما العقبة" وفصل لصفات هذه العقبة الشاقة العظيمة بالتكافل الاجتماعي والتحاض علي اطعام المسكين وكفل اليتيم واحسان معاملته وتزويده بما يحتاج ليواجه صعوبات الحياة ومشاقها فمشقة هذه العقبة واقعة علي المتصدق والمتصدق عليه فكلاهما  يقاسي الحياة وكلاهما يصبر علي البلاء ويلاقي في ذلك نصبا مصحوبا براحة وطربا بالطاعة والعمل الصالح.

ونلاحظ في هذه الاية "وما ادراك ما العقبة" تعظيما لشأن  العقبة بتشويق الإنسان لمعرفة صفاتها كأن تقول لشخصٍ  :"وما أدراك ما الطعام الذي أعددت لك  اليوم"،فيذهب سامع القول الي ما حضه الضيف علي الحضور من أجله ليري مفاجأة هذا المُكْرمِ ، فالله -ولله المثل الاعلي وكلامه لا يعلي عليه- اراد تشويق الانسان لاقتحام هذه العقبة التي حضه علي اقتحامها وتجاوزها ليري ما فيها ؛اي اقتحامها، من عمل صالح و الايمان و و التواصي بالحق والصبر فعطف الإيمان والتواصي بالصبر والتراحم علي هذه العقبة :"ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة" فكأن هذه العقبة هي الطريق الممهد للايمان و ما فيه من التواصي بين المؤمنين بالصبر علي البلاء والاذي الواقع عليهم من اهل الشر، لعلمهم علم اليقين انهم , اي اهل الشر اضعف من ان يغلبوا بعوضة تتحرك انما الله يبتلي المؤمنين ليعلمهم ان هذه الدنيا ليست الدار الآخرة وأن الآخرة هي دار القرار فيحثون خطاهم اليها متواصين بالصبر علي البلاء، وكل شئ في حياة المؤمنين بلاء فهذه دار البلاء اذن كل ما فيها بلاء حتي يصل للجنة وهي دار الثواب اذن كل شئ فيها نعيم أبدي ،و متواصين التراحم بينهم ، وهؤلاء هم الذين يدخلون الجنة أصحاب الميمنة؛ من اليمن والبركة ورحمةً من الله فكما تراحموا في الدنيا برحمة الله رحمهم الله في الآخرة ، ومن ذلك اليُمْن تلقي كتابهم بأياديهم اليمني تصديقا لقول الله جل وعلا :"وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين "  .

ثم يذكر الله عز وجل مصير الكافرين به المستكبرين عن عبادته و من عادوا المؤمنين والمؤمنات وأذوهم بأمر الله ليجزي الله الذين آمنوا الجنة بما صبروا في الدنيا وبما استمسكوا بالعروة الوثقي التي لا انفصام لها في مواجهة قوي الظلام التي ابتدأ الشيطان شرها واستفحل كالورم الخبيث في نفوس الناس الذين اختاروا الدنيا وأحبوها فصاروا جند إبليس .

ووصفهم بأنهم أصحاب المشئمة أي الشؤم ومكانه فقد تكون مصدرا ميميًّا واسما للمكان؛ بمعني العذاب الأليم في دار الجحيم جهنم وبئس المهاد عليهم نار مؤصدة ؛اي لا يخرجون منها أبد الآبدين وهي في عمد ممدة.

وسوم: العدد 721