لا إكراه في الدّين.. ولكن!

كثيراً ما نقتطع نصاً مقدساً ونسوقه في غير سياقه، ونحمّله مشاعر الهزيمة النفسية التي امتلكتْنا. (لا إكراه في الدين) نعم. ليس من سنّة الله التشريعية، ولا من سنّته القدرية، أن يُكرِه أحداً على اعتناق الإسلام، فالإيمان قناعة فكرية، ورضاً قلبيّ، وتجاوب سلوكي. إنه التزام طوعي وليس إلزاماً سلطوياً.

ولكن المسلم، بعد رضاه بهذا الدين، ليس مخيّراً بأن ينتقي من أحكامه ما يروقه، ويَدَعَ منها ما لا يروقه. إنه لا يُقبَل منه أن يتنصّل من النتائج التي ترتّبت على التزامه الأول. فمن شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، فقد ألزم نفسه بعبادة الله وطاعته والتزام أوامره واجتناب نواهيه... من هنا نفهم قوله تعالى: (فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً). {سورة النساء: 65}. وقوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم). {سورة الأحزاب: 36}.

ولقد نعى القرآن الكريم على يهود حين التزموا بعض أحكام دينهم دون بعضها فقال: (أفَتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يُردّون إلى أشدّ العذاب. وما الله بغافل عما تعملون). {سورة البقرة: 85}.

وهنا لا بد أن نميّز بين درجتين من درجات الالتزام ببعض الأحكام الإلهية، وعدم الالتزام ببعضها:

- فالدرجة التي تُخرج الإنسان من الإسلام هي أن يرفض أيَّ حكم من أحكام الشرع وهو يعلم أنه حكم الله، وهو ما يعبَّرُ عنه بأنه "معلوم من الدين بالضرورة"، سواء كان هذا الرفض بمعنى إنكار أنه حكم الله، أو بمعنى الزعم بأنه لم يَعُدْ يصلح لهذا العصر، أو الزعم بأن ما وصل إليه العقل البشري من أحكام هو أجدر وأحسن من حكم الله!.

- أما الدرجة التي تجعل الإنسان عاصياً أو فاسقاً، يمكن أن يعذَّب على قدر معصيته، أو أن يغفر الله له وفق حكمته ورحمته، أو أن تكون له حسنات ترجُحُ سيئاته... فهي أن يُقرّ بأن حكم الله هو الأحكم والأسلم والأحسن... لكنّ قصور همّته، أو خضوعه لشهواته، أو ميله إلى مصلحة دنيوية... هي التي قعدت به عن تطبيق حكم الله.

إن فسح المجال، لمن ينتمي للإسلام، أن يملك الاختيار من شرع الله، فيحكّم هواه بقبول ما شاء، ورفض ما شاء، بحجة أن لا إكراه في الدين، هو بدعة خطيرة، تنافي الدين، بل تنقُضه.

وغني عن البيان أنّ هناك أحكاماً فقهية فرعية كانت محل اختلاف بين الأئمة المجتهدين، ولا حرج على المسلم أن يختار من هذه الأحكام ما يراه الأقوى حجة، أو ما يراه الأيسر له في حياته. ومهما يكن في هذا من اختلافات أو ضوابط فإنه لا يدخل في التحذير من أخذ بعض أحكام الدين دون بعضها.

(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهّاب). {سورة آل عمران: 8}.

وسوم: العدد 731