قُلْ : إنَّ هُدَى اللهِ هو الهدى

الدين الإسلامي الحنيف هو الدين الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده وهم يعيشون على الأرض مدة الحياة الدنيا : ( إن الدين عند الله الإسلام ) ، ومَن بلغه هذا الدين الذي جاء به خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ، فآمن به وعمل بمقتضاه ، فقد فاز برضوان الله ، وبما أعده لأهل طاعته يوم القيامة . ومن كفر به فقد باء بغضب الله وعذابه الأليم ، ولا طاعة أبدا لمَن لم يؤمن بهذا الدين ، ويحرم على الناس اتباعه : ( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) . وقد ورد هذا النهي في آيات كثيرة تحذيرا للمسلمين من أن يطيعوا أهل الضلالات ، الذين غضب الله عليهم ، والذين ضلُّوا الطريق .

فالدين الإسلامي هو رسالة التوحيد الربانية التي نادى بها جميع الأنبياء عليهم صلاة الله وسلامه ، لأنه حبل النجاة في الدنيا وفي الآخرة ،  ففيه قيم إنسانية سامية ، وفيه تشريعات اجتماعية لها منزلتها في المجتمع الراقي ، فأخلاق فاضلة ومزايا كريمة : ( إنما بُعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق ) ومعاملات لايشوبها الريب ولا الخداع ، وسنن قويمة تتماهى مع روح هذا الدين القويم ، وعلى مافيه من سجايا حِسان ، حيث تقوى شوكة الإيمان في القلوب ، فتتلاشى حدة الشهوات ، وتنكسر ضراوة المنكرات ،  ويغادر الشَّرُّ بكل أنواعه رحاب المجتمع الإسلامي ، فالدين القويم والأخلاق العالية والمعاملات النقيَّة من كل ريب ... هي في الحقيقة إرث النبوة الطاهر  . وهيهات أن تطمئن نفوس أعداء الإسلام لمجتمع يحكم ويعمل بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم . فهذا هو هدى الله : (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120آل عمران  .

إنَّ الحال المزرية للأمة الإسلامية اليوم من ضعف مهين  وتفكك محزن  ووهن مقيت ، وما في مجتمعات هذه الأمة من تخاذل وانكسار ، ومن ابتعاد عن منهج الله ، لدليلٌ صريحٌ وجوابٌ شافٍ لكل مَن يسأل عن أسباب النكبات العظيمة ، والنوازل المؤلمة التي حلَّت بالمسلمين في هذا الزمان . وهيهات أن تعودَ للأمةِ مكانتُها وعزتُها وقوتُها بغير أوبةٍ صادقة إلى ربِّها سبحانه وتعالى . حيث حبُّها لله وموالاتها لدين الله ، وحيث يترجم هذا الحبُّ معاني الولاء والوفاء لهذا الإسلام العظيم ، فتقشعر الأبدان حين تلاوة قرآنه خوفا من الله وطمعا بما عنده ، وتذرف العيون من دمعها الفيَّاض مترجمةً عن أشواق القلوب التي تصغي إلى نداء الله لها ، وتستجيب لأوامر الوحي المبارك الذي نزل على خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم . فيتمكن الإيمان من تلك القلوب ، فينأى بها عن الضلالات والشهوات ، ويصدها عن الموبقات والمهلكات ، ولا يتلاشى إيمانُها أمام زيف المغريات والمنافع الدنيوية الرخيصة ، ولا يكون أصحابُ تلك القلوب ممَّن قال فيهم ربُّهم جلَّ وعلا : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) 11 / الحج . فالخسران المبين هو حليف ضعيف الإيمان ، الذي غابت عنه قيمُ الصبر الجميل ، فوقع أسرَ المنافع الشخصية ، واسترخى في دفء الشهوات ولحظاتها الممتعات ، ونسي عاقبة أمره ونتائج انحرافِه حين يقع في دوَّامة الحسرات ،  فقد حبس نفسَه وأسلَمَهَا للشيطان الرجيم ، حيث شعر بالعجز وفقدان إرادة الإيمان ، وأشعره شيطان الإنس والجن بأنه يعيش أحلى أيام العمر ، فلبس الثوب الجميل ، وأكل الطعام اللذيذ ، فأعمى بصيرته التي ماعادت تعلم عن المصير المحتوم . فلم يعش صاحب هذه البصيرة العمياء حالات الإلهام العذبة ، ولا أفراح الروح التي هبَّت عليها رياح السكينة ، لقد آمن عرب الجاهلية بالإسلام وكانوا على ماهم عليه من جهل وضلال وفساد وضعف ، فانقلبت أحوالهم إلى ماحباهم الله به من خير وعز وفتح ، اجتمعوا على راية الإخاء في الله وكانوا من  قبائل شتَّى متناحرة متنافرة  ، ومعهم الرومي والحبشي والفارسي ، ففي مجتمعهم كان ميزان الأفضلية التقوى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) . أجل اجتمعت تلك الأجناس على كلمة الله العليا : ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) 63 / الأنفال . وقد عاشوا هذا الدين وهو يملأ عليهم حياتهم ، يأتمرون بأمره  في السَّرَّاء والضَّرَّاء وفي المنشط والمكره ، بل ضربوا أروع الأمثلة في كل مجال . فهذا أبي بن أبي كعب رئيس المنافقين في المدينة يقول : إذا رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذل ، ويريد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويسمع كلامه ابنه عبدالله رضي الله عنه ، فأسرع إلى مدخل المدينة المنورة وأشهر سيفه وأقسم ألا يدخلها أحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم . ودخل رسول الله ومعه الأعزاء الأبرار أصحابُه ، ثم أقبل أبوه ومعه نفر من المنافقين ، فاستوقفهم عبدالله قائلا لأبيه : من هو العزيز ومن هو الذليل ، فما كان من أبيه رئيس المنافقين إلا أن يقول : إن العزيز رسول الله ، وإن الذليل أنا ... ذاك هو الإيمان ، الذي يجعل المسلم يعيش لله لا لنفسه وأهوائه ، فذاك هو الفائز وهو الخالد الذكر في الدنيا حتى بعد وفاته ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لايؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعيــــــــــن ) ، وفي روايــــــــــــة لمســــلم : ( حتى أكـــــون أحبَّ إليه من أهلــه ومالــه والنـــاس أجمعين ) ، وهكذا يصوغ الإسلامُ أبناءَه على القيم الربانية ، وعلى مقومات الانعتاق مما في الدنيا من نعيم زائل ، فكان التفاني في سبيل الله ديدنهم ، وكانت التضحيات لرفعة شأن دينهم العظيم هي دأبهم ، وأيُّ قيمة للكلمات والمواعظ التي تُتلى آناء الليل وأطراف النهار في مجتمعاتنا ثم تكون كالرماد الذي تسفيه الرياح في الأيام العاصفات ؟  إن هذا الدين إذا لم يتغلغل في أحناء النفس البشرية ، ويُنقل حضورا فاعلا في المجتمع الإسلامي فيتملاه القريب المحب فيألفه  ، والبعيد المبغض فيعجب مما ترى عيناه ، فيدفعه عجبه إلى نظرة فاحصة واعية ، وإلى دهشة عارمة تجتاح نفسَه التي لم تأنس لمثل هذه القيم وتلك السجايا الحِسان ، فلا يجد حينها غضاضة في أن يعلن إسلامه أمام الملأ من قومه ، ولن يستنكف عن هذا السبيل حتى وإن وجد الملامة من قومه الذين غضب الله عليهم ، أو لعنهم في محكم التنزيل . إن أمتنا اليوم بحاجة إلى أن تعيد لأهل الأرض أنوار السماء ، وحيا إلهيا أخَّاذًا ملهما للقلوب ، فلا أوهام ولا ضلالات ولا أحقاد تحملها نفوس المغضوب عليهم ، ولا ضغائن مقيتة تتغنى بها ألسنة الضَّالين ، ولا جاهلية علت أصواتها في ميادين البوار والخسران . بل هي ...  هذا الانبعاث المبارك في حياة شباب الأمة الذين يسترضون ربَّهم لاسواه ، ويتوجهون إليه في مغداهم ورواحهم مؤثِّرين بما يحملون من الهدى ، غير متأثرين بباطل زائل ، وزخرف تذروه الرياح . فهم يقفون اليوم في مواجهة هذا العُتوِّ والضلال ، ولن يبرحوا موقفهم حتى تضمحل هذه الحقبة المريرة ، ويتنفس المسلمون المستضعفون الصعداء ، ويعيدون لأنفسهم وللإنسانية  الطمأنينة والبركة التي كانت لأمتهم في سالف الزمن ، بإيمانهم الوريف ، وعلومهم الفياضة ، وأخلاقهم الحسنة ، وسيرتهم المحمودة . مسددين بتوفيق الله ، مشمولين بعنايته سبحانه وتعالى . لقد غيَّر الإسلام من خلال التربية القرآنية  ومن خلال إرشادات السُّنة النبوية المطهرة حياة عرب الجاهلية ، فجمعهم بعد تناحر ، وهداهم بعد ضلال ، وقوَّاهم بعد ضعف ، وأرشدهم بعد حيرة وعمى ، وقوَّم مسبرة حياتهم على نور وبصيرة من كتاب الله تبارك وتعالى وهَدْيِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم  ، ووجَّه قواهم الروحية والمادية إلى مافيه خيرهم وخير البشرية جمعاء ، فكانوا بإيمانهم وأخلاقهم ومعاملاتهم وتوادهم وتراحمهم خير أمة أُخرجت للناس . هذا هو الإسلام الذي غيَّر النفوس ، وصدر عن ميادينه الظليلة العلماءُ الأبرارُ والفرسانُ الصِّيدُ الأشاوس ، والمجتمعُ الصالحُ في رحاب فاضلة، وفي قصة جابر بن سليم رضي الله عنه مصداق ذلك . حيث قال : رأيتُ رجلا يصدر الناسُ عن رأيه ، لايقول شيئا إلا صدروا عنه . قلتُ : مَن هذا ؟ قالوا : رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلتُ : عليك السلامُ يارسول الله ــ مرتين ــ قال : ( لاتقل عليك السلام ، عليك السلام تحية الموتى . قل : السلام عليك ) قال : قلتُ : أنت رسول الله ؟ قال : ( أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضرٌّ فدعوته كشفه عنك ، وإذا أصابك عام سنة ( أي عام قحط و شدة ومجاعة) فدعوته أنبتها لك ،وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلَّت راحلتك فدعوتَه ردَّها عليك ) قال : قلتُ : اعهَدْ إليَّ ( أي أوصِ لي ) قال : لاتسبنَّ أحدا ) قال : فما سببتُ بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة . قال : ( ولا تحقرَنَّ من المعروف شيئا ،وأن تكلِّمَ أخاك وأنت منبسط إليه وجهُك ، إن ذلك من المعروف ، وارفع إزارك إلى نصف الساق ، فإن أبيتَ فإلى الكعبين ، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة ، وإنَّ الله لايحب المخيلة ، وإن امرؤ شتمك أو عيَّرك بما يعلم فيك فلا تعيِّرْه بما تعلم فيه ، فإنما وبال ذلك عليه) رواه أبو داود والترمذي . هذا وجه إسلامي اجتماعي مشرق بالمآثر والآداب والباقيات الصالحات ،أهله مَن برعوا في وسائل التقرب إلى الله ، أعني الغنى بما جاء عنه سبحانه والاستغناء عن فلسفة أهل الضلال في عالم المآثم ومستنقعات الأوزار وهراء الأفكار . فشرح الله الصدور لنداءات الحق ، وطمأن القلوب بما عند الله من بشريات ، وأغنى النفوس بالقناعة عن طريق الاستعلاء على أي مطمع إذ كان تعلقها بالله وكفى ، تلك رسالة المجتمع الإسلامي ، مجتمع هُدَى الله الذي أنزله على نبيِّنا صلى الله عليه وسلم . رسالة لاتسمح بالأنانية أن تستحوذ على نفوس أبنائها ، ودعوتها العالمية ذات الطموحات النفيسة مطلب فطري لكل أبناء البرية ، ربيعها ظليل بالخير زاخر بالطيبات ، وقوتها موئل لإحقاق الحق وليست للظلم ولا للاستكبار والسيطرة،إنها رسالة القيم الغالية التي تخلو من العسر والأذى ، وتنأى بالبرية عن أسباب الشَّر ، إنها رسالة الله إلى عباده ، فيها أسباب يقظة النفس ، وصحوة الضمير ، وتألق العقل ، والانقياد لأوامر الخالق العظيم . في تغيير السلوك وإتاحة النشاط الإنساني المثمر لدى أبناء الإسلام ،إن أنصتوا وتدبروا وعملوا ، وصلاح الفرد إنما هو صلاح للأمة ، وهل الأمة إلا مجموعة من الأفراد والأسر ، فإذا ماكان للمجتمع صلة وثيقة بهذه الرسالة الغراء إيمانا وتدبرا وعملا ، فلا بدَّ من تغيير إيجابي في سلوك المجتمع ، لتسود المودة والتراحم والإخاء ، وتزول الأحقاد والأضغان ، وترحل أسباب الفساد ،ويسعد المجتمع بالطمأنينة في حياته ، ولقد ضرب المجتمع الإسلامي الفاضل أروع وأسمى الأمثلة في السجايا وفي السلوك وفي التطبيق .رأى الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه شيخا ضريرا يسأل على باب ( يطلب المعونة لفقره ) فسأل ، فعلم أنه يهودي ، فقال له : ما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال : الجزية والحاجة والسن . فأخذه عمر بيده ، وذهب به إلى منزله ، فأعطاه مايكفيه ساعتها ، وأرسل إلى خازن بيت مال  المسلمين ، فقال له : انظر هذا وضرباءَه ، فوالله ما أنصفناه ... أن أكلنا شبيبته ، ثم أخزيناه عند الهرم ، إنما الصدقات للفقراء والمساكين ، وهذا من مساكين أهل الكتاب ) . هذا هُدى الله الذي يدمغ الباطل ، وتميد تحت جلجلته ضلالات المفترين ، وقد حاق بهم بغيُهم وعُتُوُّهُم ، وذهل العدو لِمـا يرى من جمال هذا الهدى ، وجلال هذه الرسالة .

وسوم: العدد 731