الخاطرة ١٦٨: فنون خبيثة

خواطر من الكون المجاور

قبل أيام قليلة كنت أبحث في الإنترنت للتأكد من صحة بعض المعلومات وقعت عيني على موضوع جذب إنتباهي ، يحمل عنوان ( مجرمون في "عمر الزهور " ..تزايد معدلات ارتكاب الأطفال للجرائم ...وتعديلات " العدل " تسعى لتوفير الحماية القضائية لصغار السن ) . في هذا المقال قرأت رأي أستاذ علم نفس بجامعة القاهرة حيث يقول " إن معاناة المجتمع ترجع لتدهور أخلاقه ، والأسرة هي السبب في ضياع أبنائها لعدم توفير جو ملائم لهم للتأقلم مع ظروف الحياة وغياب الوالدين عن متابعة الأطفال لانشغالهم بالحياة وتوفير قوت يومهم لمواجهة الظروف الاجتماعية والاقتصادية مما يترتب عليه ظهور تلك الكوارث التي نشهدها في ايامنا لعدم مراقبة الطفل وعقابه على الأفعال الخاطئة....."

هذه المقالة ورأي استاذ علم النفس في جامعة القاهرة الذي قرأته ، دفعني إلى تغيير موضوع مقالة اليوم لأتكلم عن ظاهرة الطفل المجرم والتي كتبت عنها مرات عديدة في كتبي ومقالاتي ، لأن هذه المشكلة تعتبر صميم ابحاثي ، فكل أبحاثي من بدايتها وحتى الآن هدفها الأول هو فهم الأسباب الحقيقية التي سمحت لولادة ظاهرة ( الطفل المجرم ).

نعيش في عصر كتبت عنه صفحات التاريخ بأن الإنسانية لم تعرف وحشية مثل وحشية عصرنا الحديث ، وللمؤسف حقا أنه رغم ان جميع مفكري العالم والتي تُنشر آرائهم في وسائل الإعلام والكتب المدرسية وغير المدرسية يعلمون ذلك ولكن الكثير منهم آرائهم و كذلك أعمالهم نرى أنها تزيد هذه الوحشية بدلاً من أن تساهم في حل هذه المشكلة ، والغريب والمؤسف أكثر أن الكثير من هؤلاء الذين يساهمون في تقوية حب العنف والوحشية في نفوس الناس يظنون ان أعمالهم تقوم بدور إيجابي في التقدم الحضاري للمجتمع.

لعل أقوى اسباب نمو حب العنف والوحشية في نفوس الناس هو عشوائية القاعدة الثقافية التي يعتمد عليها فكر الإنسان الحديث ، فعصرنا بفضل التقدم التكنولوجي حصل على معلومات غزيرة عن كل شيء يحيط بنا ، ولكن للأسف جميع هذه المعلومات توجد في حالة منفصلة عن بعضها البعض لأنها معلومات لا تتعدى سطحية الأشياء والأحداث ، لذلك خسرت قيمتها في تهذيب نفوس الناس ،فكانت النتيجة ولادة ظاهرة لم تعرفها الإنسانية من قبل وهي ظاهرة ( الطفل المجرم ) .

إن ظاهرة الطفل المجرم هي رمز روحي له معنى انه تم تشويه البيئة الروحية لعالم الطفل وهذا التشويه أدى بدوره في تشويه التكوين الروحي للطفل، فالله عز وجل خلق الطفل بروح مسالمة خالية من غريزة القتل ، فالحصان مثلا سيموت جوعا ولن يجد نفسه على الإطلاق بأنه بحاجة لقتل حيوان آخر ليأكله ليعيش هو ، هكذا أيضا الطفل عندما يولد في بيئة روحية طبيعية ، فهو لن يفكر في القتل لأي سبب من الأسباب لأنه خالي من غريزة القتل، ولكن اليوم نجد أن الطفل يفعل ما يفعله الكبار تماما لأن أطفال اليوم يخسرون طفولتهم في وقت مبكر جدا من حياتهم ، والسبب هو ان البيئة الروحية للمجتمع قد هبطت إلى مستواها الأخير. فما هو المستوى الأخير؟ سنشرحه في الأسطر التالية .

البيئة الروحية للمجتمع لها ثلاث مستويات ، وهذه المستويات تحدد طبيعة سلوك الإنسان ، وهذه المستويات بالتسلسل هي كما يلي :

١- المستوى الإنساني: في هذا المستوى تكون البيئة الروحية للمجتمع تحت سيطرة الكائن العلوي للإنسان ونقصد الرأس والذراعين، فيكون سلوك أفراد هذا المجتمع قائمة على الأخلاق الحميدة والصفات السامية لتأمين السعادة الروحية لأفراد المجتمع. الإنسان هنا يتبع قوانين الجنة بحذافيرها والتي عبر عنها الله في الآية القرآنية ٢٨ من سورة المائدة على لسان هابيل ابن آدم (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ). تكوين الطفل يحمل هذه الصفة ، لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منع منعاً باتا الأطفال والمراهقين من المشاركة في الحروب.

٢- المجتمع المادي : في هذا المستوى تكون البيئة الروحية تحت سيطرة الكائن السفلي ، لذلك يكون سلوك أفراد المجتمع قائمة على تحقيق المصالح الشخصية التي تتعلق بسعادة جسد الإنسان، لذلك تعتبر صفة حب المال او بشكل عام حب الثروة هي من أهم الأهداف في حياة افراد هذا المجتمع لأنه يحقق لهم السعادة الجسدية في افضل اشكالها ، حب الطعام ، حب اللباس الفاخر ، وحب المساكن الكبيرة المزودة بجميع أنواع الراحة والترفيه ، ..،الخ . في هذا المستوى يكتسب الإنسان غريزة القتل، فهو حين يقتل يفعل ذلك بهدف تأمين مصالحه الشخصية أو للحصول على المزيد من الثروة . في هذا المستوى يأخذ القلب رمز هذا المستوى الروحي

٣- المستوى الحيواني (الشيطاني) : في هذا المستوى تكون البيئة الروحية أيضا تحت سيطرة الكائن السفلي ولكن هنا تكون الأعضاء التناسلية هي رمز هذا المستوى ، في هذا المستوى تهبط العلاقات الإنسانية الى أقل مستوى يمكن ان تصل إليها حيث يتحول الانسان إلى كائن حيواني أو بمعنى آخر يفقد الإحساس بذلك الجزء من روح الله في داخله ، هنا سلوك الإنسان يجتاز مستوى تحقيق السعادة الجسدية والمصالح الشخصية وينحدر إلى تحقيق كل ما هو شاذ ، فالإنسان في هذا المستوى يسمح لنفسه أن يفعل كل شيء من أجل الوصول إلى الثروة والمجد والشهرة ، ليستطيع أن يفعل كل ما تشتهي نفسه الدنيئة ، فهو يقتل ليس فقط من أجل الدفاع عن النفس او لتأمين مصالحه الشخصية ،ولكن ليتمتع بعملية القتل ويشعر بلذة آلام الأخرين ، وكذلك يحاول أن يصل في متعته الجنسية إلى أقصى الحدود فيبحث في ممارسة الجنس في جميع أشكاله حتى يصل في الأخير إلى الشذوذ الجنسي .

إرتكاب الإنسان الخطيئة في الجنة أدت إلى تشويه التكوين الإنساني ، وبسبب هذا التشويه تم طرد الإنسان من الجنة ، ومنذ ولادة الإنسانية على سطح الأرض كانت جميع محاولات التطور الروحي للإنسان تسير لمنع المجتمع الإنساني الوصول إلى المستوى الحيواني ، وكان في كل مرة يقترب مجتمع من هذا المستوى كان الله يرسل إليها الكوارث الطبيعية لتدمره لأنه خرج عن الطريق الذي رسمه الله له ، لذلك كانت المجتمعات الإنسانية بشكل عام تسير ضمن مزيج من المستوى الإنساني والمستوى المادي ، فعندما كانت قوى المستوى الإنساني تتفوق على المستوى الحيواني كانت تولد حضارة جديدة ، ولكن عندما كانت قوى المستوى المادي تعود وتتفوق على القوى المستوى الإنساني من جديد كان المجتمع يدخل في عصر الإنحطاط . وعندما كان إنحطاط المجتمع يستمر ليصل إلى المستوى الحيواني (الشيطاني ) كان الله عز وجل - كما ذكرنا - يوقفه ويمنعه من الإستمرار لكي لا ينتقل إلى المناطق الإنسانية الأخرى ، لذلك كانت هناك بشكل دائم منطقة في العالم مجتمعها تزدهر فيه حضارة إنسانية تسمع عنه جميع المناطق المجاورة لها لتأخذ منه ولتصحح نفسها. لذلك لم تظهر عبر تاريخ الإنسانية ظاهرة الطفل المجرم ، لأن الله كان يمنع وصول اي مجتمع إلى المستوى الشيطاني.

الإنسانية في مراحل تطورها السابقة كانت عبارة عن إنسان بعمر طفل لذلك كانت في حماية الله عز وجل ، فكان يرسل لها الأنبياء والمرشدين ليساعدوا أفراد المجتمع في السير في الطريق الصحيح ، ولكن اليوم الانسانية لم تعد طفل صغير فقد مر خمسة آلاف عام على ظهور اول حضارة في تاريخ البشرية، وكذلك مرت على نزول آخر ديانة سماوية أكثر من أربعة عشر قرناً، فالإنسانية اليوم قد وصلت إلى مرحلة الرشد وواجب عليها أن تختار بنفسها الطريق الصحيح ، ولكن للأسف الإنسانية بفضل آراء كبار علماء العصر الحديث بمختلف فروع علومهم ، خرجت من الطريق الذي رسمه الله لها وأتجهت إلى طريق آخر فهبطت مجتمعاتها إلى المستوى الحيواني. اليوم ولأول مرة في تاريخ الإنسانية نرى جميع شعوب العالم تعيش في إنحطاط روحي . الكرة الأرضية منذ ظهور الإنسانية على سطحها ولأول مرة في عصرنا الحاضر يسودها ظلام دامس بمعناه الروحي. ليس من الصدفة أن معظم العلماء المشهورين عالميا اليوم لا يؤمنون بوجود الله ، لذلك ولدت ظاهرة الطفل المجرم .

اﻷديب الروسي فيودور ديستوفسكي قبل أكثر من ١٥٠ عام شعر بذلك الإنحطاط الروحي الذي تسير نحوه الإنسانية ، فذهب وكرس كل ما يملك من معارف فلسفية ودينية ونفسية وبراعة في الصياغة اﻷدبية ليكتب روايته الخالدة " اﻷخوة كارامزوف " لتكون جرس إنذار يدق بأعلى صوته ليستيقظ المثقفون ليروا حقيقة ما يحدث ، حيث ذكر في هذه الرواية عبارته الفلسفية الشهيرة " إن لم يكن الله موجود فإن كل القيم واﻷخلاقيات تسقط عن نفسها ويصبح كل شيء مباح من أصغر الذنوب إلى أبشع الجرائم ". ورغم أن الكثير من المثقفين فهموا قصده في ذلك الوقت ولكن للأسف قوى المستوى المادي إستطاعت أن تسيطر على فكر علماء العصر لتجعل طريق الإنسانية ينحدر أكثر فأكثر ليصل إلى المستوى الحيواني اليوم ، فتحول اﻹنسان المعاصر إلى إنسان متقدم جدا في العلوم المادية ولكنه منحط أخلاقيا وأعمى روحيا.

خلاصة الحديث : إن سبب تدهور أخلاق المجتمع وضياع أبنائه ليس الأسرة كما يدعي استاذ علم النفس في جامعة القاهرة ولكن سببه الحقيقي هو وجود مثل هذا الاستاذ في جامعات علم النفس ، لأن الذي يتهم اولا الأب والأم لضياع الأطفال ، هو أعمى البصيرة لأنه يرى قشور المشكلة ولا يعلم شيئا عن مضمونها . وإتهام الأب والأم ليس إلا رش حفنة من الرماد في عيون الناس لكي لا ترى المسبب الحقيقي للمشكلة ، فالطفل يسمع من أمه وأبيه كلمتين ولكنه يسمع من خارج البيت عشر كلمات ، فمهما كان الأب والأم حريصين على تربية اطفالهم ، فإن الكلمات العشر التي سيسمعها من خارج البيت ستنتصر على كلمات الأب والأم وهي التي ستتحكم في سلوك الطفل . وللأسف العشر كلمات التي سيسمعها الطفل من الخارج جميعها تتعلق بالعنف والوحشية والجنس.

المشكلة الحقيقية لعصرنا الحديث هي أن الآباء والأمهات فقدوا سيطرتهم نهائيا على تربية أطفالهم ، لأن سلوك الطفل أصبح تحت سيطرة أشياء خارجة عن نطاق مقدرة الأب والأم ، المدارس أصبحت تعلم العلوم وليس الأخلاق ، وسائل الإعلام أصبحت تحت سيطرة رؤوس الاموال وهؤلاء هدفهم الأول هو الربح المادي ، والربح المادي اليوم يأتي من أخبار العنف والجنس. أفلام السينما تعتمد في ربحها على العنف والوحشية والاثارة الجنسية ، لأن الأفلام الأخلاقية مملة ولا تجني ارباح مادية . الفن بجميع انواعه أصبح فن عنف ووحشية ودعارة ، معظم المواضيع المنشورة في وسائل التواصل الاجتماعي تعتمد على على العنف والوحشية ، حتى المواضيع الدينية لم تفلت من هذه الصفات ....

بدلا من أن يقوم علماء النفس وعلماء الدين بمهاجمة الاسرة عليهم أن يقوموا بنشر أبحاثهم عن كل فيلم يخرج إلى دور السينما ليكشفوا دوره في تدمير الاطفال والمجتمع ليفضحوا كل من عمل به . عليهم ان يبحثوا في كل مقال صحفي، في كل برنامج تلفزيوني أو مسلسل، في كل أغنية ، في كل رواية ، في كل مسرحية ، في كل عمل مهما كان نوعه و لاقى شهرة واسعة بين الجماهير . لأن الفن الحديث بشكل عام أصبح فن بلا ضمير بلا أي أحساس إنساني . فلا تلوموا الأطفال ولا تلوموا الأسرة ولكن لوموا كبار علماء ومفكري العصر لأنهم في الحقيقة هم الذين يقودون الإنسانية الى المستوى الحيواني.

ملاحظة : الصورة المرفقة تعرض بعض نماذج من أعمال فنانة سعودية في المكياج السينمائي سارة الودعاني وهي خريجة كلية علم النفس ، وللأسف بدلا من أن يبحث المسوؤلون عن الأسباب التي دفعت هذه الفتاة المتحجبة إلى حبها الشديد لتشويه جمال الانسان لتقوم بمثل هذه الأعمال الوحشية المقززة ، ذهبوا وصفقوا لها ومنحوها جوائز تعبيرا عن إعجابهم بأعمالها ...فلا تسألوا يا علماء العصر لماذا أصبح الطفل يهوى الإجرام.

وسوم: العدد 765