الخاطرة ١٨٧ : رمز الكعبة والحكمة من الحج إليها الجزء ٢

خواطر من الكون المجاور

في المقالة السابقة ذكرنا أن الرؤية المادية للكعبة المشرفة كما ينظر إليها الملحد بوجود الله أو بالروحانيات بشكل عام سيجد الكعبة عبارة عن مبنى حجري بسيط يوجد في منطقة صحراوية مناخها قاسي ، وسيتهيأ له أن الحج إليها ليس سوى مشقة وعذاب ليس له أي فائدة نفسية أو جسدية . وأن هذه الطقوس الدينية التي يقوم بها الحجاج بالنسبة للملحد مثلها مثل عبادة الاصنام في الهندوسية التي لا تنفع ولا تضر ، فالهندوسي يسجد لصنم حجري والمسلم يصلي ويطوف حول مبنى حجري .

وكذلك في المقالة السابقة طرحنا عدة تساؤلات حول طبيعة الكعبة وما حولها ، ولماذا بنيت الكعبة بهذا الشكل البسيط الذي لا يحقق أي إبداع هندسي ولماذا كانت حجارها سوداء باهتة لا تحقق أي قانون جمالي ، ولماذا تم بناؤها في هذه المنطقة الصحراوية الجرداء التي طبيعتها من الناحية الجمالية تختلف نهائيا عن طبيعة الجنة كما تصفها آيات القرآن الكريم ؟

وأيضا إذا ذهب الملحد وقرأ ما كُتب عن تاريخ الكعبة وعن الآحداث التي حصلت فيها عبر الزمن سيجد الكثير من المتناقضات التي ستجعله يتمسك برأيه أكثر ، فكما يذكر القرآن الكريم في سورة الفيل أنه عندما ذهب ابرهة الحبشي حاكم اليمن بجيشه لهدم الكعبة أرسل الله عليه طيرا ابابيل رمته بحجارة من سجيل وقضت عليه وعلى جيشه وتحقق قول جد الرسول (للبيت رب يحميه) . ولكن بعد ذلك تحصل حوادث مناقضة تماما لهذه الحادثة ، ففي عام ٦٤ هجري عندما رفض عبدالله بن زبير حاكم مكة مبايعة يزيد بن معاوية ارسل يزيد جيشا ليقتله فذهب بن زبير واحتصن في الكعبة فراح جيش بن يزيد يرمي الكعبة بالحجارة والنار بواسطة المنجنيق فاحترقت الكعبة وضعف بنائها ، ولكن وفاة يزيد الفجائية جعل جيشه يتوقف عن محاربة بن يزيد ويعود إلى الشام ، فقام ابن زبير حاكم مكة بهدم الكعبة وبنائها من جديد وبشكل مختلف عما قبل ، ولكن بعد عشر سنوات ارسل الخليفة عبد الملك بن مروان جيشه بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي إلى مكة وراح يرمي الكعبة مرة أخرى بالحجارة بالمنجنيق فأصابت الكعبة وتهدم جزء منها ولما تمكن من قتل ابن زبير حاكم مكة قام بهدم الكعبة وأعاد بنائها كما كانت في عهد قريش .

في عام ٣١٧ هجري حدثت الطامة الكبرى ، حيث استطاع جيش القرامطة بقيادة أبو طاهر بن سليمان ابن الجنابي دخول مكة وقام بأعمال فظيعة حيث قتل جميع الحجاج وعرى كسوة الكعبة وحطم بابها وراح يصيح ساخرا ( أين الطير الأبابيل ترميهم بالحجارة من سجيل) ثم إقتلع الحجر الأسود من مكانه وأخذه معه وعاد إلى بلاده البحرين ، وبعد ٢٢ عام عندما توفي أعاد أخوه سعيد الحجر الأسود إلى الكعبة .

أيضا في عام ١٠٤٠ هجري حدثت كارثة طبيعية حيث الامطار والسيول أغرقت مكة واضعفت بناء للكعبة وكادت أن تسقط ، فأمر محمد علي باشا حاكم مصر هدمها وتجديد بنائها فأخذت الكعبة شكلها الحالي.

يظن الملحد ان تاريخ الكعبة عشوائي ومتناقض فلماذا عبارة (للبيت ربا يحميه) التي قالها جد الرسول تنطبق فقط على حادثة هلاك ابرهة الحبشي وجيشه التي لا يوجد لها أي وثائق تاريخية موثوقة بها تؤكد حدوثها ، أما بقية الأحداث فهي مذكورة تاريخيا وبشكل مفصل تؤكد على صحة حدوثها ، فلماذا لم يحصل تدخل إلهي عندما قام جيش يزيد بن معاوية بتدمير الكعبة فهؤلاء هم مسلمون ولكنهم رغم ذلك لم يشعروا بأي رهبة نحو هذا المبنى الذي هو أقدس المقدسات لأنه يمثل بيت الله بالنسبة للمسلمين ولكنهم استمروا في رمي الكعبة بالاحجار والنار ، وكذلك في حادثة القرامطة حيث دخلوا الكعبة وقتلوا وحطموا ولم يصيبهم شيء ، وعدا عن التدمير البشري للكعبة أيضا لماذا الكوارث الطبيعية السيول والأمطار هي أيضا . وهنا قد يتساءل الجميع عن حقيقة ما يحدث وعن سبب هذه المتناقضات التي حدثت في تاريخ الكعبة .

لقد ذكرت هذه الأشياء التي تبدو متناقضة ليعلم القارئ أن الرؤية المادية لما يتعلق بالكعبة ستجعل الأمور تفقد عظمتها الإلهية وستصبح اشياء عشوائية لا معنى لها، وللأسف الشديد أن علماء المسلمين اليوم يبحثون في أمور الكعبة برؤية من هذا النوع رغم أن أبحاثهم قد يبدو عليها وكأنها تهتم بالقسم الروحي لأمور الكعبة ولكن الحقيقة فإن هدف أبحاثهم يعارض المعنى الروحي الذي وضعه الله في الكعبة، وحتى نوضح المشكلة بشكل أفضل سنعرض لكم هذا المثال : الدكتور زغلول النجار والذي يعتبر من أكبر علماء الإعجاز القرآني في العصر الحديث ، له سنوات يطالب بالسماح له بأخذ شريحة صغيرة من الحجر الأسود وشريحة من مقام إبراهيم ليقوم بفحصها علميا ليؤكد للعالم أجمع ان تركيب هذه الحجرتين ليس من الحجارة الأرضية ولكنها أتت من السماء كما هو مذكور في الحديث الشريف " الحجر الأسود والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله تعالى نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب" . ويعتقد الدكتور زغلول أنه عن طريق التحليل العلمي الذي سيقوم به في فحص الشرائح ، سيكون للمسلمين أكبر إثبات علمي يجعل علماء العالم بأجمعه يعترفون بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

قد يوافق العديد من القراء على رأي الدكتور زغلول النجار ، فطالما أن الكعبة بيت الله فهي تحوي على معجزات يستطيع العلم التأكد من صحتها، ولكن هناك كثير من العلماء المسلمين يرفضون طلب الدكتور زغلول والسبب انه سيقوم دون أن يدري بتحويل الدين من طبيعة روحانية إلى طبيعة مادية تجعله يفقد عظمته الإلهية ، لأن الحديث الشريف الذي يعتمد عليه الدكتور زغلول هو حديث ضعيف ومعظم العلماء لا يعترفون بصحته ، لأن حجارة الكعبة هي مقدسة لأنها توجد في جدران الكعبة وليس بسبب تكوينها المادي . وهذا يعني أنه قد يكون تركيبها لا يختلف نهائيا عن بقية الحجارة الموجودة على سطح الأرض .وكان رد الدكتور زغلول على هذه الإحتمال فينا إذا كان الفحص العلمي لتركيب الحجارة لا يظهر أي شيء غريب ، فعندها سيقول أن الحديث غير صحيح وانه ليس من كلام الرسول وانتهى الأمر .

بالنسبة لدكتور زغلول قد ينتهي أمر معجزة الحجارة بهذه البساطة ، ولكن بالنسبة للملحدين وغير المسلمين سيكون العكس تماما وستكون نتائج الفحص العلمي إثبات قوي سيتم نشره في جميع صحف العالم ليكون دليلا قويا بالنسبة لهم يؤكد على أن دين الإسلام ليس من الله ولكن من صنع إنسان.

للأسف كثير من العلماء المسلمين المتخصصين في علوم معينة ذهبوا وحسب معلوماتهم العلمية كتبوا عن الإعجاز العلمي في القرآن ، ولكن علماء آخرين غير مسلمين لهم نفس المكانة العلمية في هذا الإختصاص العلمي كذبوا هذه المعجزات وأعتبروا أن التحليل العلمي لها خاطئ ولا توافق النظريات العلمية الحديثة ، وبعض علماء المسلمين الذين لهم نفس الإختصاص اعتبروا محاولة زملائهم المسلمين هذه ليس إلا نوع من أنواع تشويه معاني آيات القرآن وانها بدلا من أنها قربت الغير المسلمين إلى هذا الدين جعتلهم يسخرون منه ويبتعدون عنه.

إذا بحثنا في الإنترنت سنجد الكثير من المواقع تذكر معجزات علمية عن الكعبة منها مثلا ذلك الإثبات الذي يؤكد بأنها مركز الارض أي أنها تقع في مركز اليابسة على سطح الكرة الأرضية والغريب في الأمر أن الدكتور زغلول يوافق على صحة هذا الإثبات بكل بساطة ، رغم أن الحسابات الدقيقة التي أجراها علماء آخرين أكدت على أن مركز اليابسة يقع في مصر ، وحسب دراسات عالم أمريكي تؤكد ان مركز الأرض يقع في سان دييغو في كاليفورنيا ، ولكن الدراسات الأخيرة التي إعتمدت على النموذج الرقمي لخرائط الجوجل تظهر أن مدينة تشوروم التركية هي المركز الهندسي لكل اليابسة على سطح الأرض .

هناك دراسات عديدة أخرى مذكورة في مواقع التواصل الإجتماعي يذكرها بعض العلماء المسلمين ليجعلوا من موقع الكعبة تبدو وكأنها معجزة ، ولكن هذه الدراسات أيضا لا يوافق عليها العلماء الآخرين ويعتبرونها معجزات كاذبة اخترعها المسلمون بهدف خداع الناس لا أكثر ولا أقل .

للأسف نعيش في عصر يعاني من إنحطاط روحي حيث الفكر الماركسي قد عشعش في عقول معظم علماء العصر و حتى عقول علماء الدين لم تسلم منه ، هذا الفكر الماركسي قد نمَّى في نفوس العلماء منطق فكري له مبدأ (العلم للعلم والفن للفن والدين للدين) ، هذا المنطق الفقير عادة ما يصيب العلماء عندما تصل الحضارة إلى نهايتها فتدخل في عصر الإنحطاط ، حيث تخسر عندها جميع القيم الإنسانية مكانتها في نفوس العلماء ويصبح الإنسان ووجوده عديم الأهمية بالنسبة لهم، لأن الإهتمامات الرئيسية للمجتمع وأفراده قد أصبحت تخص المصالح الشخصية فقط ، ونقصد بالمصالح الشخصية ليس فقط مصلحة الإنسان لنفسه ولكن يشمل أيضا مصلحته لما ينتمي إليه سواء دينه أو عرقه . هذا الإحساس بدوره يقضي على تأنيب الضمير سواء كان عن وعي أو بدون وعي . فنجد كل عالِم أثناء دراسته في موضوع معين ينحاز إلى إخراج نتيجة تلائم مصلحته ، فالمسلم سيحاول ان يجعل نتائج بحثه تؤكد على عظمة دينه الإسلامي ليقلل من مكانة الأديان الأخرى ، واليهودي كذلك سيحاول ان تكون نتائج أبحاثه تعظيم لدينه اليهودي والمسيحي والهندوسي سيفعلون الشيء نفسه ، والملحد أيضا سيجعل أبحاثه تؤكد على وجود أخطاء في الكتب المقدسة ليثبت انها من صنع إنسان وان الله غير موجود .

ليوناردو دافينشي الذي يعتبر من أكبر مؤسسي عصر النهضة يقول بما معناه " أن الباحث الذي يريد ان يتكلم عن الماء ، يجب عليه أن يتكلم عن ذلك الماء الذي ينبع في الطبيعة وليس عن ذلك الماء الموجود في جرته " أي أنه على الباحث أثناء دراسته للأشياء يجب أن يضع ميوله ومصالحه خارج بحثه العلمي ليستطيع الوصول فعليا إلى حقيقة الشيء المدروس ، بهذا المنطق الراقي تأسست حضارة عصر النهضة وجميع الحضارات من قبلها ، ولكن للأسف اليوم ورغم أننا نظن بأن علوم العصر الحديث أصبحت متقدمة جدا وأنها تستطيع الوصول الى حقيقة الأشياء ولكن واقعيا نحن نعيش في فوضى علمية لم يعرف التاريخ لها مثيل من قبل ، حيث يمكن لكل باحث أن يستخدم أتجاه مختلف في أبحاثه ليصل إلى ما يريده هو وليس إلى الحقيقة . وهذا التعصب الفكري قد جعل علوم عصرنا الحاضر علوم مادية فقيرة عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة ، حيث نجد لكل إثبات علمي يحصل عليه عالم ليؤكد أن كتابه المقدس هو كلام الله ، نجد أن الكثير من العلماء الذين لا ينتمون لهذا الدين يرفضون صحته ويتهمونه بتشويه الحقائق العلمية ، وهذا ليس أمرا عجيبا والسبب أن علوم عصرنا هي علوم ناقصة وعاجزة عن رؤية الحقيقة لذلك نجد أن الكثير من النظريات التي تدرس في دور التعليم بعض العلماء يشكون أو يرفضون صحتها ، فاليوم لا نستطيع ان نتكلم عن شيء يسمى " إثبات علمي " لأن هذا الإثبات بالنسبة لبعض العلماء مقبول وبالنسبة للبعض الآخر غير مقبول . لذلك إذا بحثنا عن معجزات الكعبة لكل اثبات علمي حصل عليه عالم مسلم ليؤكد وجود معجزة ، سنجد في مواقع أخرى العديد من الإثباتات العلمية التي يذكرها متخصصون بنفس الفرع العلمي تناقض رأي العالم المسلم وتؤكد على أن الإثباتات المذكورة غير صحيحة علميا ، فمن هو الصادق ومن هو الكاذب ؟ العلم عند الله .فكلا الطرفان يعتمدان على قوانين ونظريات علمية للتأكيد على صحة رأيهم ومع ذلك نجد أن نتائجهما متناقضة فيما بينهما ، لذلك من الطبيعي أن نجد في النهاية أن القارئ أثناء تقييمه للمعلومات التي يذكرها الطرفان سيختار معلومات الطرف الذي يناسبه هو ، المسلم سيصدق رأي الباحث المسلم وغير المسلم سيكذب معلومات الباحث المسلم ويقبل بمعلومات الطرف الآخر فالقارئ هو بدوره أيضا يساعد في تنمية الفوضى الفكرية أكثر فأكثر.

كل ما ذكرته في بداية المقالة عن تلك التناقضات التي ستبدو لذلك الشخص الذي سينظر برؤية مادية إلى الأحداث التي مرت بها الكعبة عبر التاريخ ، ذكرتها فقط ليعلم القارئ ان معجزات الكتب السماوية أرقى بكثير من هذه النظرة المادية التي تعتمد على نتائج تحليل كيميائي أو فيزيائي وأن هذه التناقضات التي حصلت على الكعبة جعلها الله تحدث لكي لا يعطي المسلم أهمية كبيرة في ماديات الكعبة فتصبح جزء خاص منه يستخدمه بشكل مصلحة للسخرية من بقية الديانات ، لأن المعجزات الإلهية ليس هدفها الحقيقي هو إظهار قوة الله وعظمته ولكن في الحقيقة لتكون رموز روحية حيث تفسيرها يفيد الإنسانية في كشف حقيقة شيئ ما عن تكوينها الروحي حين تصعب العلوم الأخرى في إكتشافه، لتستفيد منه الإنسانية جمعاء في تحسين سلوكها وكذلك لتساعدها في إختيار الطريق الصحيح في مسيرتها لتصل إلى السعادة الأبدية التي يحلم بها كل إنسان ، فالإيمان الحقيقي هو كما عبر عنه رسول الله في حديثه الشريف " خير الناس أنفعهم للناس " . الكعبة هي رمز روحي يهم الإنسانية جمعاء وليس المسلمين فقط لذلك فإن كشف معجزاتها تحتاج إلى رؤية شاملة تعبر عن مصلحة الإنسانية بأكملها وليس مصلحة فئة معينة فقط.

إن شاء الله في المقالة القادمة سنحاول الدخول في الرموز الروحية للكعبة لنستطيع فهم العلاقة بينها وبين تكويننا الروحي .

وسوم: العدد 787