خواطر من الكون المجاور الخاطرة 219-223

الخاطرة ٢١٩ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢٠

أكبر مشكلة يعاني منها البحث العلمي في الأحاديث والروايات الإسلامية يمكن شرحها بهذا المثال : « عَنْ إِبْرَاهِيم بْنِ أَبِي مَحْمُودٍ [ الخراساني ] قَالَ : قُلْتُ لِلرِّضَا (عليه السلام ): يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ إِنَّ عِنْدَنَا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام وَفَضْلِكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ مُخَالِفِيكُمْ وَلَا نَعْرِفُ مِثْلَهَا عِنْدَكُمْ أَفَنَدِينُ بِهَا ؟.... - إلى أن قال - ثُمَّ قَالَ الرِّضَا (ع): يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ إِنَّ مُخَالِفِينَا وَضَعُوا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِنَا وَجَعَلُوهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :أَحَدُهَا : الْغُلُوُّ. وَثَانِيهَا : التَّقْصِيرُ فِي أَمْرِنَا. وَثَالِثُهَا : التَّصْرِيحُ بِمَثَالِبِ أَعْدَائِنَا. فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ الْغُلُوَّ فِينَا كَفَّرُوا شِيعَتَنَا وَنَسَبُوهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِرُبُوبِيَّتِنَا، وَإِذَا سَمِعُوا التَّقْصِيرَ اعْتَقَدُوهُ فِينَا، وَإِذَا سَمِعُوا مَثَالِبَ أَعْدَائِنَا بِأَسْمَائِهِمْ ثَلَبُونَا بِأَسْمَائِنَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾

ما أقصده من هذا المثال أن أتباع روح السوء إندسوا في السنة والشيعة ليشوهوا تاريخ الاسلام الديني ويمنعوا من توحيد المسلمين ، فكل عالم اليوم يريد أن يبحث عن حقيقة ما حصل في فترة ظهور الاسلام وتاريخ الأمة الاسلامية سيجد الكثير من التناقضات في نص الروايات بحيث تجعل السني الذي يبحث في كتب السنة فقط يظن أن مذهبه هو فقط الاسلام الصحيح ، والشيعي الذي يبحث في كتب الشيعة فقط يظن أن مذهبه هو فقط الاسلام الصحيح ، أما الباحث عن الحقيقة الذي يبحث في كتب الطرفين فتجعله يقع في حيرة بمصداقية حقيقة الروايات المذكورة في هذه الكتب ، الباحث هنا يقع في مشكلة لماذا سيصدق الرواية بالشكل الذي يذكرها الطرف الأول ويكذب الطرف الأخر ؟ لا يوجد أي ثوابت علمية يمكنه الاستناد عليها لتقييم صحة كل رواية لأنها روايات كتبتها يد إنسان ، وكل إنسان يمكن له أن يكتب ما يشاء هو . والمشكلة الأخرى أنه هناك عشرات الآلاف من الصفحات التي يجب أن يقرأها ليأخذ صورة شاملة عن الموضوع ، وجميعها للأسف متناقضة مع بعضها البعض . في كتب السنة مثلا نجد أن عدد الروايات التي تذكر أصحاب علي عليه السلام قليلة جدا وكأنها لا وجود لها في كتبهم بينما نجد أن روايات أصحاب معاوية عديدة جدا ، فكيف سيعلم المسلم السني عن حقيقة ما حصل في الفتنة الكبرى في عهد علي عليه السلام ومعاوية . الشيخ الشيعي الدكتور أحمد الوائلي يذكر أنه عندما زار جامعة الأزهر أستغرب فمكتبة هذه الجامعة والتي تعتبر من أكبر المكتبات الإسلامية في العالم لا يوجد فيها كتاب واحد من الكتب المعتبرة عند الشيعة ، فإن صح ذلك ، كيف للباحث السني أن يصل إلى الحقيقة إذا لم يقرأ رأي الطرف الآخر . وحتى أوضح مدى خطورة الأمر أنني عندما كنت في مرحلة الثانوية كل الذي كنت أعرفه عن الشيعة بأنهم يعتقدون أن الملاك جبريل عليه السلام أخطأ عندما نزل فبدلا من أن يذهب إلى علي عليه السلام ذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، هكذا يعتقد معظم مسلمي السنة العامة عن الشيعة ، بينما هذه الفكرة عند معظم الشيعة لا وجود لها ولكن مسلمي السنة للأسف يروجون لها ليسخروا من الشيعة .

اليوم مثلا نجد في الأنترنت برنامج ديني يحمل عنوان " الأزهر ضد التشيع" هذا العنوان نفسه يحمل في داخله معلومة تؤكد مدى إنحطاط مستوى إدراك علماء الأزهر لمكارم الأخلاق في الاسلام ، فهذا العنوان مصدره الإسلام السياسي وليس الاسلام الديني ، الله عز وجل يقول (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣ آل عمران) ، فكلمة (ضد) في هذا العنوان بحد ذاتها هي من روح السوء لأنها تعني شن الحرب الفكرية ضد الشيعة لتفرق بين المسلمين ، فكأنها تتهم جميع أتباع مذهب الشيعة بأكمله بالضلال . هذا السلوك مخالف لقول الله عز وجل (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ١٢٥ النحل) . جامعة الأزهر اليوم تُعتبر من أرقى الجامعات الإسلامية في العالم وهي تقود الطائفة الكبرى التي نسبتها ٧٥% من الأمة الأسلامية ، فعندما يسمح مسؤولي جامعة الأزهر بعرض برنامج مثل هذا النوع وبهذا العنوان هذا يعني أن روح السوء هي التي تقود علماء الأزهر ، فهناك الكثير من علماء الشيعة يحاربون الاسلام السياسي الذي سبب التعصب الشيعي .

إن الكتب الصحاح الستة التي تعتمد عليها السنة وأيضا الكتب الصحاح الأربعة التي تعتمد عليها الشيعة تم فيها دس الكثير من الأحاديث غير الصحيحة والروايات الكاذبة لتجعل كل طرف يعتقد أنه هو على حق وأن الطرف الآخر على باطل . والمشكلة أن تلك الأحاديث والروايات الباطلة هي التي تسيطر على كلا الطرفين منذ أكثر من ثمانمائة عام وحتى الآن ، مما جعل مسلمي العامة في السنة والشيعة يؤمنون بهذه الأكاذيب وكأنها حقائق إلهية لا يمكن الشك بها ، والمشكلة الأكثر خطورة أنه بسبب إنخفاض مستوى علوم شيوخ المساجد وأساتذة كليات الشريعة جعلهم ينساقون مع هذا الوضع فبدلا من التركيز على تعليم الناس مكارم الأخلاق التي فرضها الله على نبيه وعلى المؤمنين عملوا على تنمية التعصب المذهبي والحقد على المذاهب الأخرى .

لهذا أعيد وأكرر أنني في أبحاثي لا أعتمد على ما كتبته أيدي البشر ولكن أعتمد فقط على تلك الحقائق الإلهية التي وضعها الله لنا كرموز في آيات قرآنه الكريم وأيضا في الأحداث التاريخية التي لا يستطيع أحد أنه ينكر وجودها . فكما يقول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩ النساء) . بعض من هذه الحقائق ذكرتها في المقالات الماضية وأتابع ذكر بعضها الآخر في هذه المقالة .

في المقالة الماضية ذكرنا أن معاوية بن أبي سفيان هو زعيم أتباع روح الكلب في الأمة الاسلامية ، ربما الكثير من مسلمي طائفة السنة لم يتقبلوا هذه الفكرة وهذا شيء طبيعي لأن معظم كتب السنة تعارض هذا الرأي ، فمعاوية كما تذكر كتب السنة هو من الصحابة وجميع الصحابة عندهم هم من المؤمنين ، ومعاوية عندهم أيضا من كتّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحسب زعمهم أنه من الخلفاء الذين في عهده شهدت الفتوحات الاسلامية انتصارات كثيرة ، وهناك أشياء أخرى عديدة ينسبوها له وكأن جميع هذه الأشياء عن معاوية هي دلائل تؤكد لهم على أن معاوية كأن مؤمنا ويستحق إضافة عبارة (رضي الله عنه) خلف أسمه . أما إذا ذهبنا وبحثنا في كتب طائفة الشيعة سنجد أن الأمر مختلف تماما فالمعلومات المذكورة هناك تصف معاوية وكأنه من أتباع إبليس . لهذا فحقيقة شخصية معاوية هي من أحد أهم أسباب المشاكل التي تمنع من التقارب بين السنة والشيعة ، فالشيعي سيرفض رفضا قاطعا الإعتقاد بأن معاوية هو أمير المؤمنين وأنه أحد الصحابة المؤمنين كم يعتقده السنة ، فهو حسب إعتقادهم كان من ألد أعداء علي عليه السلام وأهل البيت وكما يقول الحديث الشريف عن علي عليه السلام " اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه " وهو ايضا من الفئة الباغية التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه " تقتله الفئة الباغية" ، لهذا فمن الطبيعي أن يرفض الشيعي أي تعاون مع الفئة التي تناصر معاوية .

في المقالات الماضية في معظم فقراتها تم التركيز على رمز روح الكلب التي وضعها الله عز وجل في الكتب المقدسة للديانات السماوية لتبين لنا دور هذه الروح في عملية عرقلة التطور الروحي للإنسانية . القرآن الكريم يذكر رمز روح الكلب ويوضح لنا دورها ، يقول الله عز وجل في قرآنه الكريم (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا .٢٢ الكهف) ، العلماء المسلمين فسروا هذه الآية بمعناها السطحي وأن المقصود بها هم أصحاب الكهف فقط الذين ناموا مدة ٣٠٠ عام ، ولكن الحقيقة هي أن هذه الآية تتكلم عن مراحل التطور الروحي للإنسانية منذ خروجها من الجنة وحتى نزول آخر ديانة سماوية والتي هي آخر مراحل التطور الروحي ولهذا كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين .

هذه الآية موجودة في سورة تحمل عنوان (الكهف) هذه الكلمة هي رمز للكون بأكمله فالكون هو الكهف الذي سيتم فيه خلق الإنسان من جديد ليصحح تكوينه الجسدي والروحي الذي تم تشويهه بسبب الخطيئة التي أرتكبت في الجنة . المقصود بالعبارة الأولى (ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) هم آدم وحواء وهابيل ، أما كلبهم هنا فهو رمز لقايين (قابيل) الإبن الثاني الذي دخلت في تكوينه غريزة القتل التي أتت من روح الشيطان ودفعت قايين إلى قتل أخيه هابيل . العبارة الأولى تمثل بداية الكون وبداية التكوين المادي .

أما العبارة الثانية (وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) فهي تمثل بداية ظهور الديانات لتعبر عن بداية التطور الروحي، والمقصود بالخمسة ، هم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم الصلاة والسلام، إبراهيم هو رمز آدم فاسم إبراهيم يعني (أبو الشعوب) ، لذلك أمر الله إبراهيم أن يذبح ابنه لتكون هذه الحادثة لها معنى أن تكوين الإنسانية الروحي يحوي على روح الكلب ، ولهذا نجد هذه الروح تظهر في أخوة يوسف عندما أرادوا قتله ليتخلصوا منه ولكن وجود روح الخير فيهم هي التي منعتهم من القيام بهذه الجريمة وبدلا من أن يقتلوه ألقوه في الجب لتأخذه سيارة التجار ليبيعوه في مصر كعبد .

العبارة الثالثة (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) المقصود بها هم محمد صلى الله عليه وسلم وعلي عليه السلام وأبو بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم والحسن والحسين عليهما السلام ، الذين نشروا الدين الإسلامي الذي وضع الله فيه آخر جزء من التطور الروحي ، أما كلبهم فهو معاوية بن أبي سفيان الذي حاول عرقلة ولاية علي عليه السلام ليمنع ظهور هذا الدين على شكله الحقيقي فظهر في عهد معاوية الاسلام السياسي ، ولهذا أن نجد ابنه يزيد يقوم بنفس جريمة قايين (قابيل) حيث أمر يزيد بقتل الحسين عليه السلام فقتلوه . علي وفاطمة عليهما السلام ، هما رمز آدم وحواء المطهرين من الخطيئة ، ابنهما الحسن هو رمز هابيل الذي أتبع قانون الجنة (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (٢٨ المائدة) ، ولأن الحسن عليه السلام كان يعلم تماما بأن معاوية من أتباع روح الكلب وأن الصراع معه الذي يتكون من أكثر ١٥٠ ألف مقاتل سيؤدي إلى سفك دماء عشرات الآلاف من المسلمين الأبرياء المخدوعين بحقيقة معاوية ونواياه ، لهذا تخلى الحسن عن الخلافة ليحافظ على الاسلام الديني ، فعقد معه إتفاقية صلح بأن تكون الخلافة له بعد وفاة معاوية (او أن تكون الخلافة بالشورى كما يقول البعض الآخر) ولكن معاوية بعد أستلامه للخلافة أمر بتسميم الحسن للتخلص منه ، وولى الخلافة لأبنه يزيد .

أما الحسين عليه السلام فهو رمز قابيل الجديد المطهر من روح السوء ، لهذا عندما رأى الحسين عليه السلام حقيقة معاوية بأكملها وأن معاوية نكث عهده مع أخيه الحسن وأنه ولى الخلافة لابنه يزيد الذي كان هو أيضا من أتباع روح الكلب، خرج على يزيد ليمنعه من استلام الخلافة ، ولكن المسلمين الذين كانوا معه خذلوه وتخلوا عنه وتركوه هو وأصحابه يواجه جيش يزيد الذي أمر رجاله بقتل الحسين عليه السلام ، فحدثت جريمة الكربلاء التي تم فيها قطع رأس الحسين وإرساله إلى يزيد .

مسلمو العامة من السنة قبل الإنفتاح العلمي الذي حصل على الأمة الأمة الاسلامية كان معظمهم لا يعلم شيئا عن مذبحة الكربلاء لأن شيوخ السنة كانوا يخفونها عنهم لكي لا يعلم أي سني أن عند الشيعة بعض الحق في إعتقاداتهم ، ولكي يظهروا لهم أيضا أن معاوية وابنه يزيد هما من العباد الصالحين .

مذبحة الكربلاء التي تمثل رمز قتل قابيل لأخيه هابيل والتي لا يعلم مسلمي السنة ولا مسلمي الشيعة شيئا عن معناها الحقيق ، هي علامة إلهية تؤكد للمسلمين جميعا أن الأمة الاسلامية هي أمة مثل بقية الأمم وأن تكوينها هي أيضا يحوي على روح الكلب ، لهذا يجب على المسلمين أن يعلموا أنهم ليسوا أفضل من بقية الأمم فهم يحملون الجزء الأخير فقط من الحكمة الإلهية وأن بقية أجزاء هذه الحكمة الإلهية موجودة في بقية الأمم لأن الإنسانية بأكملها عند الله هي عائلة آدم وحواء ، وعلى جميع الأمم بعلومها ودياناتها أن تتعاون مع بعضها البعض ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ١٣ الحجرات) .

هناك دليل إلهي آخر في القرآن الكريم : الحكمة الإلهية وضعت الرقم ٤٧ ليكون ترتيب سورة (محمد) . هذا الرقم حتى الآن لم يأخذ أي أهمية في تفاسير العلماء المسلمين ، الرقم ٤٧ هو رمز روح الكلب ، فإذا حسبنا القيمة الرقمية لكلمة (كلب) في النظام الرقمي البسيط للغة العربية ، أي بجمع أرقام ترتيب أحرف هذه الكلمة سنجد أنها تعادل الرقم ٤٧ :

هذا الرقم هو الرقم المعاكس للقيمة الرقمية لكلمة (الله) :

معنى هذا التعاكس الرقمي هنا هو أن روح الكلب تتحدى الله عز وجل ، لهذا كان عنوان السورة هو كلمة (محمد) والتي ذكرنا في المقالات الماضية أن هذه الكلمة تتألف من مقطعين (محى - مد) وهي رمز الرسول صلى الله عليه وسلم وعلي معا . بمعنى أن الله قد أختارهما لمواجهة هذه الروح الخبيثة . أتباع روح الكلب زعيمهم هو معاوية ، الرسول صلى الله عليه وسلم حاول أن يساعد معاوية لينتصر على تلك الروح الخبيثة التي تسيطر عليه ، علي عليه السلام أيضا في معركة صفين توقف عن قتاله ليعطيه فرصة ثانية ، الحسن عليه السلام أعطاه فرصة ثالثة لعله يُصلح نفسه ، ولكن ومع ذلك معاوية تخلى عن حياة الآخرة وفضل شهوات الحياة الدنيا له ولإبنه يزيد لهذا سلمه الخلافة قبل وفاته ليؤكد على نفسه أنه من أتباع روح الكلب .

اسم (يزيد) له نفس معنى المقطع (مد) من أسم (محمد) ، ولكن (مد) في اسم محمد له معنى يمد أو يزيد في تكوين روح الخير ، أما اسم ابن معاوية فله معنى يزيد في تكوين روح الكلب ، لهذا كان أسم ابيه (معاوية) يعني الكلبة العاوية ، وأسم أمه ميسون بنت بني كلب. فأبوه وأمه من عائلة روح كلاب .

سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم وسلوك علي وابنيه الحسن والحسين هو الذي فتح بصيرة ابن يزيد حفيد معاوية ، هذه البصيرة جعلته يرى بأم عينه ما كان يفعله جده معاوية وأبوه يزيد من فسق ونفاق ، لهذا عندما تولى الخلافة بعد وفاة أبيه صعد إلى المنبر وقال " إنّ هذه الخلافة حبل الله و أنّ جدّي معاوية نازع الأمر أهله و مَن هو أحقّ به منه عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام )، و ركب بكم ما تعلمون حتّى أتته منيّته فصار في قبره رهيناً بذنوبه، ثمّ قلّد أبي الأمر وكان غير أهل له و نازع ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقصف عمره، و انبتر عقبه، و صار في قبره رهيناً بذنوبه، ثمّ بكى و قال: مِنْ أعظم الاُمور علينا علمنا بسوء مصرعه و بؤس منقلبه، و قد قتل عترة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأباح الخمر و خرّب الكعبة، ولم أذق حلاوة الخلافة فلا أتقلّد مرارتها، فشأنكم أمركم، والله لئن كانت الدُّنيا خيراً فقد نلنا منها حظّاً، و لئن كانت شرّاً فكفى ذرّية أبي سفيان ما أصابوا منها " ثمّ تغيّب في منزله حتّى مات بعد أربعين يوماً . بعضهم يقول أنه مات موتة ربه أما البعض الآخر فيقولون بأن بني أمية سمموه وقتلوه لأنه كشف حقيقتهم للمسلمين .

حفيد معاوية أنقذ نفسه من شهوات روح الكلب ، فمات مؤمنا صالحا بخلاف ما حصل مع أبيه يزيد الذي سار وراء شهواته مثلما فعل أبيه فلم ينعم بملذات الخلافة إلا لمدة أربع سنوات فقط ومات شابا بعمر ٣٦ عام ، وكانت طريقة وفاته فظيعة حيث سقط من خيله وعلقت رجله برباط الخيل فراح الخيل يركض به ويجره على الأرض فذاق مرارة العذاب قبل أن يلفظ روحه فخسر حياة الدنيا وخسر حياة الآخرة.

معاوية قام بتأسيس الدولة الأموية وكانت بداية ظهور الاسلام السياسي القائم على المكر والخداع والتآمر وقتل أصحاب الحق ، فزرع الحقد والكراهية والإنتقام بين الفرق الاسلامية والذي أدى إلى متابعة هذا النظام السياسي في الدول التي أتت من بعد الدولة الأموية ، فأصبح معظم حكام هذه الدول على شاكلة معاوية بن ابي سفيان .أما الفتوحات الاسلامية التي حصلت في عهد معاوية فلم تكن بفضل معاوية ولكن بفضل المسلمين الذين جاهدوا في سبيل الله لنصر الاسلام وليس نصر معاوية ، فقبل استلام معاوية للحكم كانت الأمة الاسلامية قد انتصرت على أقوى أمبراطوريتين (الفارسية والرومانية) في العالم وأصبحت جميع المناطق المجاورة ضعيفة أمام جيوش الأمة الاسلامية التي أصبحت من أقوى جيوش العالم في ذلك الوقت ، لهذا لا يجوز لأي مسلم أن ينسب الفتوحات الاسلامية التي وصلت إلى الهند شرقا واسبانيا غربا إلى معاوية وبني أمية ، لأن معاوية كان يرغب في توسيع بلاده ليس لمصلحة الاسلام والمسلمين ولكن لمصلحته الشخصية ومصلحة بني أمية فقط ، فمعظم أموال الدولة كانت تذهب إلى رفع مكانة وقوة بني أمية لتحتفظ بالعرش إلى الأبد ، ولهذا كان جزائهم أنهم بعد ١٠٠ عام لم يبقى من نسلهم أحد ، أما نسل أهل البيت الذين معظمهم لم يشارك في مؤامرات الاسلام السياسي ولا في أي معركة فلا زال موجودا حتى الآن .

اليوم لو تمعنا في جيدا في كتب طائفة السنة سنجد أنها في الحقيقة لا تطبق سنة الله ورسله فقط ولكن فيها اختلاط كبير بين سنة الله ورسوله وسنة معاوية وبني أمية . وأتمنى من جميع القراء أن لا يسيؤوا فهم ما أكتبه في مقالاتي فما أكتبه ليس هدفه تشييع السنة ، ولكن إظهار الحق فالشيعة أيضا رغم بغضهم الكبير لمعاوية وبني أمية ولكن للأسف فكثير من مساوئ سلوك معاوية قد دخلت فيهم دون أن يعلموا أنها من معاوية زعيم أتباع روح الكلب . فمأساة الكربلاء التي ذبح فيها الحسين عليه السلام، هي مشابهه لحادثة صلب المسيح عند المسيحيين ، ولكن المسيحين اتخذوا حادثة صلب المسيح شعارا للمحبة والسلام ، أما الشيعة المتطرفين فأخذوها شعارا للانتقام والكراهية (يا لثارات الحسين) فأصبح كل مسلم سني بالنسبة لهم شريك مع قتلة الحسين عليه السلام ويحل لهم قتله . وبدلا من أن تكون مآساة الكربلاء حادثة تطهر نفوس المسلمين لتجمع الطوائف الاسلامية وتوحدها ، تحولت إلى حادثة تساهم في تمزيقها. وكما يقول أحد علماء الشيعة عن مأساة الكربلاء " ضاع أهل البيت بين اللطم واللؤم " .

المسلم يجب أن يفرق بين الاسلام السياسي الذي يمزق الأمة الاسلامية والاسلام الديني الذي يوحد الأمة الاسلامية ، اليوم هناك الكثير من علماء السنة والشيعة يحاربون الاسلام السياسي ولكن للأسف المسؤولون الكبار الذين يسيطرون على المساجد وكليات الشريع لا يسمحون لهم بأن تُسمع أصواتهم . المشكلة ليست في المذاهب ولكن المشكلة في أولئك الذين شوهوا هذه المذاهب لتظهر وكأنها تنتمي إلى عائلة الأخوة الأعداء . قبل أن نقوم بنقد مساوئ المذاهب الأخرى يجب علينا أن نقوم بنقد ذاتي يطهرنا من أخطاء مذهبنا لنستطيع أن نرى بعين بصيرة لما يحدث في المذاهب الأخرى لكي لا نتهمهم بشيء ظلما . يقول الله عز وجل (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣ آل عمران) ، الله عز وجل في هذه الآية يذكر (الحبل) ليتبع المسلمين مبدأ صناعة الحبل ، الحبل الذي يلف على البكرة ليرفع الشيء الثقيل عن الأرض له قانون خاص به ، فالحبل المتين هو الحبل الذي يتألف من عدة حبال متحدة مع بعضها البعض ، فإذا ما انقطع حبل من هذه الحبال ساعدته الحبال الأخرى في التحمل ريثما يجتاز مكان البكرة فيكتسب الحبل المقطوع قوته ثانية ليساهم بدوره في رفع الثقل ، أما الحبل الضعيف فهو الحبل الذي يتألف من حبل واحد ، فإذا قُطع سقط الثقل المرفوع على الأرض . هكذا الأمر تماما في المذاهب فكل مذهب في الاسلام له زاوية نظر مختلفة لنفس الموضوع هذا الاختلاف ليس تناقض ولكن رؤية من زاوية أخرى ، لهذا فإن توحيد هذه الزوايا سيعمل بطريقة مشابهة لذلك الحبل المتين الذي يتألف من عدة حبال ، الحضارة الاسلامية ظهرت وازدهرت عندما كانت المذاهب تعمل كحبل واحد يتألف من عدة حبال ، أما انحطاط الحضارة الاسلامية فبدأ عندما أصبح كل مذهب يعمل كحبل لوحده مثلما يحدث اليوم .

جميع المذاهب فيها الصح وفيها الخطأ ، وتصحيح الأخطاء يحتاج إلى زوايا نظر أخرى موجودة في بقية المذاهب لتساعده في إكتشافها ، لهذا يجب على العلماء من جميع المذاهب أن يضعوا مكارم الأخلاق فوق كل شيء ليستطيعوا التعاون مع بعضهم البعض في تصحيح الأخطاء ، عندها فقط سيدخل نور الله في نفوس المسلمين.

*****************************

الخاطرة ٢٢٠ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢١

ربما بعض القراء من مذهب السنة بعد قراءتهم للأجزاء الأخيرة من السلسلة قد ساورهم الشك في حقيقة هدفها وربما ظنوا أنها تحاول تشييع المسلمين ، وشكوكهم هذه هي ردة فعل طبيعية فمن يتابع ما يُنشر في الانترنت والتواصل الإجتماعي في الفترة الأخيرة سيجد الكثير من المواقع تتكلم عن خطورة ظاهرة حديثة في البلدان الإسلامية يسمونها (التشيع) ، وكما ذكرت في المقالة الماضية أن الأزهر قام بعمل برنامج ديني يحمل عنوان (الأزهر ضد التشيع) . ففي الفترة الأخيرة فعلا يوجد عدد كبير من علماء السنة بدأوا يتكلمون عن بعض محاسن مذهب الشيعة وعن بعض مساوئ مذهب السنة ، وهذا الأمر قد أحدث نوع من سوء فهم لآراء هؤلاء المفكرين . فظهور آراء هؤلاء هو شيء طبيعي أن يحدث بعد الإنفتاح العلمي وخروج دور التعليم من سيطرة الشيوخ .

فعصر النهضة الأوروبية مثلا حصل بسبب تحرر دور التعليم من سيطرة الكنيسة إلى العقول الحرة المفكرة التي وضعت حقوق الإنسان ومبادئه السامية فوق كل شيء ، فالله عز وجل وهب الإنسان الدين ليس من أجل أن يعبد الدين نفسه ، فالعبادة لله وليس للدين ، لأن الدين هو وسيلة تساعد الانسان في التحرر من روح السوء التي تنمي الرغبات الحيوانية فيه التي تجعله يهتم فقط في مصلحته وسعادته الشخصية ، وفي الوقت نفسه يهدف الدين إلى تنمية حب الآخرين والتعاون معهم من أجل الوصول إلى الكمال الروحي . ولكن الذي حصل في العصور الوسطى في الأمة الأوروبية أن رجال الكنيسة عبدوا الدين وأهملوا حقوق الإنسان في الإبداع الفكري الذي هو أساس التطور الروحي فدخلت الأمة الأوروبية في عصور الظلام الفكري والديني والاجتماعي ، وهكذا هو تماما ما حصل في عصر إنحطاط الامة الاسلامية وما يحصل اليوم ، حيث نجد حقوق المسلم كمواطن في معظم الدول الاسلامية في أسفل السافلين .

هنا قد يعارضني البعض ويقول بأن سبب انحطاط الدول الأسلامية ليس الشيوخ المسلمين ولكن السياسيون والحكام . وجوابي على هؤلاء هو أن الرجل الحكيم هو الذي ينظر إلى الكبار على أنهم في بدايتهم كانوا أطفالا ، فإذا تحول هؤلاء الأطفال في كبرهم إلى نصابين ومحتالين ، فالسبب لا يتعلق بهم فقط ولكن يتحمله أيضا المجتمع بأكمله ، والشيوخ وعلماء الدين يتحملون القسم الأكبر من الجريمة التي تقع بحقوق الأطفال فالأطفال هم كائنات روحية والبيئة الروحية للمجتمع تقع تحت سيطرة نوعية المعلومات الروحية التي ينشرها الشيوخ فهذه المعلومات هي التي ستحدد سلوك الروحي للكبار والذين بدورهم سيحددون طبيعة المجتمع التي ستؤثر على الأطفال وتحدد جهة نموهم الروحي . ولكن هنا أيضا يجب أن نعطي بعض الحق لهؤلاء العلماء والشيوخ ، فهم أيضا كانوا أطفالا وعلومهم ومعارفهم قد أخذوها ممن سبقوهم ، والظروف من حولهم هي التي منعتهم من البحث عن الأصح والأفضل . لهذا الرجل الحكيم هو الذي لا ينسب أخطاء المجتمع إلى أشخاص محددين ولكن ينسبها إلى روح السوء بشكل عام فهي التي تحاول دوما دخول نفوس الناس من طريق لا يمكن لأحد توقعه لتنمي فيهم حب الذات سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى الجماعي وذلك عن طريق تنمية التعصب لفئة معينة وبغض الفئة أخرى. ولهذا كان الصبر والتسامح وحب الخير للآخرين من أهم تعاليم الديانات لأنها هي فقط تحل المشاكل مهما كان نوعها.

لا أحد ينكر أنه في الفترة الأخيرة يوجد نوع من نشر التشيع ، ولكن يجب علينا أن نفرق بين الآراء التي تبحث عن الحقيقة في النصوص الدينية والتاريخية والتي رأت أنه هناك بعض الظلم في حق الشيعة ، وبين الآراء ذات الأغراض السياسية (التشيع السياسي) ، فالفتنة تحدث عندما تتدخل السياسة في الأمور الدينية والفكرية ، وهناك لا نقصد بالسياسة كمعناها العام أي رجال السياسة فقط ، ولكن المقصود بها هم جميع أولئك الذين يستخدمون الدين لأغراض معينة تحفظ لهم مصالحهم الشخصية سواء كانت فردية أو جماعية ، فالعالم الديني الذي يدافع عن مذهبه بتعصبية ويهاجم بقية المذاهب بأسلوب ساخر وحاقد هو في الحقيقة رجل سياسي وليس رجل دين . وللأسف فإن الأمة الاسلامية بأكملها منذ دخولها في عصر الإنحطاط وحتى اليوم تقع تحت سيطرة الاسلام السياسي وليس الاسلام الديني . لهذا فإن معظم المسلمين منذ ذلك الوقت وحتى الآن هم مسلمون بالهوية فقط وليس بالإيمان ولهذا السبب هجرهم الله .

وحتى نوضح هذه الفكرة سنشرح تلك الظروف التي ساهمت في ظهور الاسلام السياسي وتطوره عبر الزمن . ولكن قبل أن نتابع الموضوع يجب أن نذكر ملاحظة هامة جدا وهي ان الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف يقول «الْخِلاَفَةُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمّ تكون مُلكًا عضوضاً» ، هذا الحديث يعد معجزة من معجزات النبي لان فيه وصف دقيق لما سيحصل لمدة ثلاثين عاما بعد وفاته . فالحديث الشريف يؤكد على شريعة الخلفاء الراشدين فإذا كانت قد حصلت بعض الأخطاء في تلك الفترة فأمرها لله تعالى فقط فهو أعلم العالمين لما حصل ، وكما تقول الآية القرآنية في سورة البقرة (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ .١٣٤) ، لهذا مقالاتي لا تبحث في تفاصيل فترة الخلفاء الراشدين ولكن تبحث من فترة استلام الملك العضوض للحكم وما بعده .

في البداية يمكننا أن نقول أن المؤسس الرئيسي للاسلام السياسي هو معاوية بن أبي سفيان الملك العضوض المذكور في الحديث الشريف ، فكما تذكر الروايات أن معاوية قد تنبأ له أبواه منذ الطفولة بمستقبل كبير، فروي أن أبا سفيان نظر إليه وهو طفل فقال: «إن إبني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه»، فقالت أمه هند: «قومه فقط؟ ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة.» ، ورواية أخرى «كان معاوية يمشي وهو غلام مع أمه هند فتعثر فقالت قم لا رفعك الله ، وكان هناك أعرابي ينظر إليه فقال لها لم تقولين له ذلك فوالله إني لأظنه سيسود قومه فقالت لا رفعه الله إن لم يسد إلا قومه.» . معاوية تم تربيته على أنه إنسان عظيم يستحق أن يكون القائد الأكبر بين الناس . لهذا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حاول بشتى الوسائل تحقيق هدفه وكونه كان شديد الذكاء أستطاع اقناع بعض أفراد بني أمية في غرضه ، فصنع معهم الكثير من الظروف لخلق الفتن بين المسلمين ليستخدمها ضد علي عليه السلام ليمنعه من الوصول إلى الخلافة ، ثم حرض المسلمين عليه بحجة القصاص من قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فحدثت معركة الجمل ومعركة صفين ثم مقتل علي عليه السلام. في فترة ظهور الاسلام كان المسلمون على طبقتين طبقة الأغنياء سادة قريش وطبقة الفقراء ،لهذا كان من الطبيعي أن تذهب الخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لأنهم كانوا من سادة قريش ، فقانون نظام المجتمع الجاهلي الطبقي كان لا يزال يحكم نفوس المسلمين ومن المستحيل أن يقبل المجتمع بالتسوية بين الغني والفقير ، لهذا معظم الصحابة كانوا يرفضون مبايعة علي عليه السلام لأنه كان خالي تماما من شوائب المجتمع الجاهلي فهو تربية الرسول وليس تربية المجتمع الجاهلية ، ولهذا كان علي عليه السلام من طبعه ألا يفرق بين الفقير والغني . لذلك نجد أنه عندما تولى الخلافة قام بإجراءات اقتصادية حيث منح الكثير من الفقراء مساعدات مالية للقيام بأعمال تجارية وحرفية صغيرة .

هذه الصفة في علي عليه السلام استغلها بني أمية لخلق ظروف تمنع من ذهاب الخلافة إلى علي أو أبناءه عليهم السلام ، فالذي حصل بعد استلامهم للسلطة ولأنهم كانوا يعلمون تماما بأن طريقة وصولهم إلى السلطة كان نتيجة مؤمرات خبيثة وأن الكثير من المسلمين كانوا يعلمون بها وسيجعلوها نقطة سوداء في تاريخهم قد تكون نتيجتها قيام الثورات عليهم ، فبني امية كانوا يعلمون أن ذهاب السلطة إلى آل أهل البيت الذين كانوا بالنسبة لهم عدوهم اللدود ، سيعني أن الامة الاسلامية بأكملها ستعلم حقيقة بني أمية وأنها ستحمل الحقد عليهم وستنهي مجد بني أمية إلى الأبد . لهذا ذهب بني أمية وصنعوا أسطورة خرافية تطعن في أهل البيت وروجوا لها بين المسلمين لينزعوا منهم محبة آل أهل البيت وفي نفس الوقت ليعطوا لأنفسهم شرعية الخلافة . هذه الأسطورة الخرافية معروفة اليوم باسم (السبئية) .

الفرقة السبئية كمذهب ظهرت في فترة بداية الدولة الأموية بين الناس البسطاء ورغم أنها اختفت بعد فترة قصيرة ولكنها ظلت موجودة في عقول المسلمين فثارت إهتمام كثير من العلماء ودفعتهم الى التحدث عنها وذكرها في كتبهم مما جعلها تلعب دور كبير جدا في تمزيق الأمة الاسلامية حتى أصبحت جزء من تاريخ الأمة الاسلامية حتى يومنا هذا. ولكن بعد الانفتاح العلمي الذي حدث في الآوانة الأخيرة وعندما بدأ المفكرون المسلمون بمختلف أختصاصاتهم يبحثون عن حقيقة تاريخ الأمة الاسلامية بفكر حر ، وبسبب كثرة التناقضات في الروايات المتعلقة بالفرقة السبئية ، كثير من هؤلاء المفكرين لم يقبلوا بوجود هذه الفرقة كحقيقة تاريخية وأكدوا على أن الفرقة السبئية ليست إلا أسطورة صنعها أتباع مذهب السنة والجماعة فقط للطعن بحقيقة أصل المذهب الشيعي . في هذه المقالة سنحاول عرض موضوع السبئية برؤية مختلفة تسمح لنا معرفة حقيقة هذه الفرقة .

أسطورة فرقة السبئية بشكل مختصر : هي فرقة أسسها شخص من أصل يهودي يدعى عبدالله بن سبأ ، أسلم زمن عثمان بن عفان، وأخذ يتنقل في بلاد المسلمين. فبدأ بالحجاز ثم البصرة ، ثم الكوفة، ثم ذهب إلى الشام ولكن هناك طردوه فذهب إلى مصر واستقر بها، ووضع عقيدتي الوصية والرجعة، وكوّن له في مصر أنصاراً. استمر في مراسلة أتباعه في الكوفة والبصرة. وفي النهاية نجح في تجميع جميع الساخطين على عثمان فتجمعوا في المدينة وقاموا بقتل عثمان. لعب عبد الله بن سبأ دوراً هاماً في بدء معركة الجمل، وإفشال المفاوضات بين علي بن أبي طالب وبين طلحة والزبير. كما أنه أول من أظهر الغلوّ في أئمة أهل البيت وادعى الألوهية لعلي.

الروايات عن عبد الله بن سبأ كثيرة جدا وجميعها تعاني من كثرة التناقضات في المعلومات عنه . فتارة هو من أهل صنعاء، وتارة من أهل الحيرة ، وتارة أسلم أيام عثمان وتارة أظهر الإسلام ولم يحدد وقت إسلامه . تارة أن علي عليه السلام قتله وتارة انه لم يقتله ولكن نفاه إلى مصر ، وتارة نجده يدعي الرجعة للنبي، وتارة يدعي الرجعة لعلي . تارة يدعي بأن في علي جزءا من الألوهية وتارة يدعي أن علي إله كامل . وتارة نجد ان لقبه (ابن السوداء) وتارة نجد أن لقب ابن السوداء هو عمار بن ياسر (الذي كان يشتمه الأمويون وقريش بعبارة ابن السوداء معيرين إياه بسواد أمه سمية)، فما نسبوه لعمار من مواقف نجدهم ينسبونه لعبد الله بن سبأ وكأنهما شخص واحد ، وتارة نجد عبد الله بن سبأ يكون داعيا لفضل علي فقط وتارة أخرى نجده يكون محرضا على عثمان وواضعا لأهم عقائد الشيعة من وصية وعلم غيب للأئمة وقول بالرجعة .

الأسطورة السبئية ظهرت بعد وفاة علي عليه السلام، وإذا تمعنا جيدا في هذه الروايات المتناقضة مع بعضها البعض عن عبد الله بن سبأ ، وحاولنا أن نضعها بجانب أحداث التاريخ الاسلامي سنجد أن الذين آمنوا بها في البداية هم فقط أصحاب العقول الضعيفة الذين عاشوا في مناطق بعيدة عن الكوفة مكان تواجد آل أهل البيت ، ولكن الذي حصل أن ترويجها وانتشارها الكبير في مجتمع الاسلامي هو الذي دفع العلماء المسلمين بعد مرور سنوات عديدة على ظهورها لطرحها والبحث فيها لتظهر في الأخير وكأنها حقيقة وليس أسطورة ، وأن الهدف الحقيقي من وراءها هو إخفاء حقيقة بني أمية وإقناع المسلمين بأن فرقة السبئية (التي هي من الشيعة) هي التي حرضت على قتل عثمان ، ليظن أتباع مذهب السنة أن يهوديا حاقدا على الاسلام هو السبب الأول للفتنة وأن الشيعة انساقوا معه بغباء ليساهموا هم أيضا في تمزيق الأمة الاسلامية . فبهذه الاسطورة الخرافية حاول أتباع بني أمية أن يقنعوا مسلمي السنة بأن المؤسس الحقيقي لمذهب الشيعة هو اليهودي عبد الله بن سبأ وأن عقائد هذا المذهب ليس لها أي سند من الإسلام . وأن عبد الله بن سبأ اليهودي هو أول من أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرأ منهم، وأنه فعل ذلك لأن علي عليه السلام أمره بذلك . وأن عقيدة المهدي ورجعته هي من عبد الله بن سبأ الذي كان يدعي النبوة وزعم أن علي عليه السلام هو الله وأنه لم يمت وهو المهدي وأنه سيعود ليسوق العرب بعصاه وليملك الأرض جميعها ليحكمها بالعدل . فكان هدف هذه الأسطورة دفع محبي أهل البيت في تصديق هذه الأمور واتخاذها كعقيدة في إيمانهم .لهذا نجد أن الإمام الثامن علي الرضا عليه السلام يقول : يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ إِنَّ مُخَالِفِينَا وَضَعُوا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِنَا وَجَعَلُوهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :أَحَدُهَا : الْغُلُوُّ. وَثَانِيهَا : التَّقْصِيرُ فِي أَمْرِنَا. وَثَالِثُهَا : التَّصْرِيحُ بِمَثَالِبِ أَعْدَائِنَا. فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ الْغُلُوَّ فِينَا كَفَّرُوا شِيعَتَنَا وَنَسَبُوهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِرُبُوبِيَّتِنَا، وَإِذَا سَمِعُوا التَّقْصِيرَ اعْتَقَدُوهُ فِينَا، وَإِذَا سَمِعُوا مَثَالِبَ أَعْدَائِنَا بِأَسْمَائِهِمْ ثَلَبُونَا بِأَسْمَائِنَا "

إن سبب تحول هذه الاسطورة الخرافية إلى حقيقة واقعية هو أن أكبر مشكلة يعاني منها العلماء المسلمين منذ ٨٠٠ عام وحتى اليوم هي شدة جهلهم بعلم النفس ومبادئه . فرغم أن أختصاصهم علوم دينية والدين هو هبة من الله عز وجل لمساعدة الإنسانية في تطوير تكوينها الروحي ، ولكن ومع ذلك نجد أن العلماء المسلمين حتى اليوم ينظرون الى الإنسان على مر العصور وكأنه له نفس التكوين الروحي ، وكأن الطفل لا يختلف نهائيا عن الشخص البالغ ، ولكن في الحقيقة الامر مختلف تماما ، وقد تكلمنا عن هذا الموضوع في المقالات الماضية بشيء من التفصيل وذكرنا أن فترة الحضارة الاسلامية هي بمثابة المرحلة الأخيرة من فترة الطفولة ، لهذا قبل أن نبحث ونحلل في سلوك الأمم السابقة يجب أن نعطي أهمية كبيرة لزمن الأحداث التي حدثت فيها لنحدد موقعها من مراحل التطور وكذلك علينا أن نعطي أهمية لمكان ظهورها هل هي في الشرق أم في الغرب لأن امم الشرق دورهم تطوير الروح وأمم الغرب دورها تطوير النواحي المادية . فقط بهذه النوعية من البحث نستطيع فهم سلوك أفرادها وعلماءها . فإذا قارنا أحداث الأسطورة السبئية مع الواقع الحقيقي الذي كان عليه في عهد عثمان وعلي ، سنجد أنه من المستحيل حدوثها لأن مسلمي تلك الفترة كان فيهم التعصب الجاهلي نحو عقيدتهم الاسلامية ، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه مثلا كان إذا رأى أحدا يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ردة فعل عمر مباشرة أن يطلب من الرسول أن يأذن له بقطع رأسه ، هكذا كانت ردة فعل معظم مسلمي تلك الفترة ، لهذا فمن المستحيل ان يتجرأ شخص يهودي يدعي الاسلام ان يقول لعلي عليه السلام أو للمسلمين أن عليا هو إله، لأن ردة فعل المسلمين ستكون قطع رأسه مباشرة ، هكذا كان التكوين الروحي لمسلمي تلك الفترة والاحداث التاريخية تشهد بذلك . لذلك نرى ان الاسطورة السبئية انتشرت بعد سيطرة الدولة الاموية في زمن سمح الأمويون فيه بسب وشتم علي وآل البيت عليهم السلام .

هناك شيء آخر متناقض في هذه الأسطورة وهو أن بطلها يهودي ، وكونه يهودي وليس عربي او فارسي يؤكد على ان الأسطورة خرافية وانه تم أختراعها بقصد أغراض معينة ، ولكن مخترعوها لم يعلموا أن جهلهم سيكشف كذبهم ، فالحكمة الإلهية في تطور البشرية تعتمد على قانون التدمير الذاتي ، أي أن كل أمة تنهار فإن سبب إنهيارها منها نفسها وليس بسبب أيدي خارجة عن الأمة ، لهذا فإن اختيار شخصية يهودية ليكون بطل الأسطورة يؤكد على خرافتها ، فاختيار بطل يهودي ليكون سبب تمزيق الأمة الاسلامية يعني أن نقمة المسلمين ستقع في الأخير على اليهود وهذا مخالف للقوانين الإلهية ، لأنها ستجعل تفكير علماء الأمة الإسلامية في فهم سبب إنحطاطها يذهب إلى المكان الخاطئ وهذا سيجعل المشكلة باقية بدون حل في الأمة الاسلامية إلى الأبد ، فالحضارة تولد عندما يبدأ النقد الذاتي والذي سيدفع إلى التعاون مع الأمم الأخرى ، أما الإنحطاط فيبدأ عندما يتم رمي جميع الأخطاء على الآخرين و الذي يؤدي في النهاية إلى إنغلاق المجتمع على نفسه وأنهياره. وهذا ما حصل بالفعل في الأمة الاسلامية منذ دخولها في عصر الانحطاط وحتى اليوم .

شيء آخر يمكن أن نلاحظه في هذه الأسطورة وهو أن عبدالله بن سبأ اليهودي يظهر في الأسطورة وكأنه شخص خارق الذكاء وكأنه أعور الدجال نفسه ، وأن المسلمين في قمة الغباء ، فإذا كانت السبئية هي فعلا حقيقة تاريخية فمن المستحيل أن تظهر حضارة اسلامية في أمة تعاني من الغباء .

لذلك كل من يعتبر أن السبئية هي حقيقة واقعية وليست خرافة هو جاهل في معظم العلوم ، والجاهل لا يحق له أن يتكلم وخاصة في الأمور الدينية لأن الأحداث الدينية هي حقائق إلهية وفهم معلوماتها يحتاج إلى أرقى العلوم .

أسطورة الفرقة السبئية رغم أنها من اختراع بني أمية وهدفها الطعن بعلي وآل البيت عليهم السلام ، ورغم أن آل البيت رفضوها بشكل قاطع وأتهموها بالكفر وحذروا المسلمين من تعاليمها ، ولكن نجد في الأخير أن أتباع أهل البيت ذوي العقول البسيطة قد أخذوها وأضافوا عليها وروجوها لتصبح بعض تعاليمها جزء من عقيدة الفرق الشيعية . لهذا نجد ظهور فرق كثيرة في الشيعة تعتمد على بعض مبادئ الفرقة السبئية وهذه الفرق هي :

- الكيسانية : هذه الفرقة تعتقد انّ محمد بن علي عليهما السلام من زوجته خولة بنت جعفر الحنفية ، هو المهدي وأنه لم يمت وأنه يقيم في جبل رضوى من جبال تهامة ، وأنه سيعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا. وهذا أول حكم بعودة الإمام بعد غيبته عند الشيعة . هنا نجد أن البداية كانت في فرقة أرادت أن تعطي محمد بن الحنفية مكانة أعلى من الحسن والحسين أبناء فاطمة عليهم السلام ، كخطوة أولى تبعد المسلمين عن محبة أهل البيت ، والتي ساعدت أكثر على ظهور الفرق الأخرى .

- المحمدية : طائفة شيعية تنسب نفسها إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب (محمد النفس الزكية)، الذي يعتقدون أنه الإمام والمهدي المنتظر، وأن محمداً ذا النفس الزكية لا يزال حياً في جبل حاجر بنجد، وأنه سيظهر ويملأ الأرض عدلاً، وأن البيعة ستعقد له بين الركن والمقام في بيت الله الحرام بمكة

- الناوسية : هذه الطائفة تسمى الناوسية نسبة لرئيس لهم يقال له عجلان بن ناوس من أهل البصرة. وهم يسوقون الإمامة إلى محمد الباقر وأن محمد الباقر قد نص على إمامة جعفر الصادق، ويعتقدون أن جعفر الصادق حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر أمره وهو القائم المهدي، هذه الفرقة ليس لها وجود في وقتنا الحاضر .

- الخطابية : هي فرقة دينية ادعت أنها إسلامية شيعية . ينسبون إلى أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع ، بعض المصادر تذكر أنها تعتقد أن أبي الخطاب إدعى أن جعفر الصادق إله، فلما بلغ ذلك جعفر لعنه وطرده ، وزعم أتباعه أنّ جعفراً إله غير أنّ أبا الخطاب أفضل منه وأفضل من علي عليه السلام. هذه الفرقة ليس لها وجود اليوم .

- الواقفية : وهي إحدى الفرق الذين وقفوا على الإمام السابع للشيعة موسى الكاظم، فلم يقولوا بإمامة من بعده، حيث زعموا أن موسى الكاظم لم يمت وأنه حي، وأنهم ينتظرون خروجه حيث أنه دخل في غيبة. هذه الفرقة ليس لها وجود اليوم .

-الجنينية : هي فرقة شيعية يُدَّعى أنها كانت موجودة وأنها كانت تعتقد بأن الإمام الحسن العسكري كانت له جارية قد حملت منه بجنين ذكر، وأنه ما يزال جنينًا في بطن أمه حتى الساعة، وأنه سيظل جنينًا إلى قرب وقت الظهور في نهاية الزمان، حيث سيولد حينها فيكون الإمام محمد المهدي .

هناك طوائف شيعية أخرى حاولت أن تحافظ على أصالتها لتبتعد عن تأثير الفرقة السبئية الخرافية سنتكلم عنها في المقالة القادمة إن شاء الله ، ولكن كل الذي نستطيع أن نختم به موضوع أسطورة الفرقة السبئية أن هذه الأسطورة التي صنعها بني أمية أصبحت أقوى سلاح في يد علماء السنة والجماعة في إقناع المسلمين بأن الإسلام الحقيقي هو فقط مذاهب السنة والجماعة وأن الشيعة هي الفئة الضالة . ولكن الحقيقة هي أن أصل الشيعة هو من فاطمة الزهراء عليها السلام فهي التي بسلوكها رفضت خلافة أبو بكر رضي الله عنه، ورفضها هذا لم يكن بنية سياسية ولكن كان رفضها فيه حكمة إلهية لتؤكد لعلماء المستقبل أن علي عليه السلام هو الجزء الثاني من محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الاسلام هو دين يتطور مع مرور الزمن ، وأن تطوره هذا يتوقف على فهم علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بعلي عليه السلام. لهذا نجد أن آل البيت بعد الحسن والحسين عليهما السلام المذكورين عند الشيعة جميعم لم يشاركوا في أي معركة عسكرية ، ولكن كانوا أئمة وحكماء وواعظين . والشيء المؤسف حقا أن مسلمي السنة العامة يعلمون أشياء كثيرة عن معاوية وخالد ابن الوليد وعمر بن العاص وصلاح الدين الأيوبي ، ولكنهم لا يعلمون شيئا على الأطلاق عن معظم أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم .

لذلك علينا أن نعلم أن أتباع الشيعة الحقيقية هم من حافظوا على رويات آل البيت وليس لهم علاقة بأولئك الذين انخدعوا بالأسطورة السبئية فاستخدموا أسماء آل البيت ليكّونوا لأنفسهم فرق تحقق مصالحهم الشخصية فهولاء مثلهم مثل بني أمية رغم أنهم كانوا أعدائهم . والعالِم المسلم الذي يخاف الله ويخاف على مصير الأمة الاسلامية عليه أن يساهم في تنظيف الاسلام من شوائب بني أمية والفرقة السبئية التي مزقت الأمة الإسلامية إلى نواصب ورافضة وحولت الإسلام من دين روحي إلى إسلام سياسي مادي يمزق بعضه البعض .

*****************************

الخاطرة ٢٢١ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢٢

كون المقالات الأخيرة حساسة وتتعلق بعقيدة الأمة الإسلامية ، ومن المعروف أن المسلمين بشكل عام حريصون على دينهم وتاريخهم الديني ولا يقبلون أن يمس أحد به بسوء ، لذلك قبل أن أتابع موضوعنا الرئيسي أود أن أشير إلى بعض النقاط الهامة لأوضح بعض الأمور لقراءنا الجدد الذين لم يحاولوا العودة إلى المقالات الماضية ليتحققوا من حقيقة هدف كتابة هذه المقالات ، فمن الشيء الطبيعي على المسلم السني الذي قرأ فقط المقالات الأخيرة أن يثور ويغضب لما يقرأه في هذه المقالات التي تتحدث عن بني أمية والشيعة ، وخاصة أن الفترة الأخيرة تشهد تدخلات شيعية سياسية في محاولة خلق فوضى سياسية في الكثير من البلدان العربية ، والأمر لا يحتاج ذكاء لفهم ما يحصل .

ولكن هنا يجب أن لا ننظر إلى الأمور برؤية تعصبية لأن هذه الفوضى السياسية التي تعاني منها الأمة العربية يشارك بها أيضا جماعات من مسلمي السنة ، أفضل مثال على ذلك شيوخ حزب الأخوان المسلمين الذين بفكرهم الديني المتخلف ، نجدهم في كل فرصة يقوم بها المجتمع العربي المثقف في محاولة لتجديد الوضع العام للمجتمعات العربية ، نرى أخوان المسلمين ينضمون إليهم ليفرضوا أنفسهم ومطالبهم في هذه المحاولات فيتحول اسلوب المطالبة بالتجديد من اسلوب حضاري يرضي الجميع إلى اسلوب بربري تعصبي يؤدي إلى الفوضى والكثير من الضحايا وتكون نتيجته فشل هذه المحاولات . فعلى الرغم من أن النسبة العظمى من مسلمي الدول العربية ترفض الأخوان المسلمين وأفكارهم الرجعية ورغم أنهم يعلمون ذلك ولكن نجدهم يصرون على أنهم الأصح بين الجميع وكأنهم يعتبرون أنفسهم خلفاء الله في الأرض ويجب رغما عن الجميع أن يصلوا إلى السلطة ليديروا شؤون البلاد . مثل أخوان المسلمين توجد فئات صغيرة غيرهم كثيرون في السنة يستخدمون الدين لخلق الفوضى . فما يحصل في مثل هذه الحالات ليس سببه الاسلام الديني ولكن الاسلام السياسي الذي هدفه الحقيقي هو السلطة وليس دين الإسلام أو مصالح المجتمع.

هكذا هو الوضع تماما أيضا في الشيعة فبعض علماءهم يستغلون الناس البسطاء من الشيعة فيجعلونهم يعتقدون أن هدفهم هو الدفاع عن مظلومية أهل البيت ليعود الإسلام الحقيقي إلى الأمة الإسلامية ، ولكن الحقيقة أن هدفهم هو فقط حبهم للسلطة لتأمين مصالحهم الشخصية والدينية التعصبية. فهدف الاسلام السياسي هو واحد عند السنة وعند الشيعة ألا وهو عرقلة أي محاولة في تكوين أمة اسلامية حضارية تلعب دور في حل المشاكل التي تعاني منها مجتمعات عصرنا الحاضر . والمشكلة الأخرى اليوم هي أن بعض أفراد الشيعة السياسية تأخذ أبحاث علماء السنة المعاصرين الذين وجدوا أن تاريخ الأمة الأسلامية فيها شيء من الظلم في حق أهل البيت ، ليروجوا لها في القنوات الفضائية ليقنعوا مسلمي الشيعة البسطاء أن هناك مد شيعي سيكسح العالم وأن المذهب الشيعي سيكون في المستقبل المذهب الحاكم للأمة الاسلامية بأكملها .

فما أكتبه في مقالاتي ليس إلا توضيح لبعض الأمور لكي لا يقع المسلمون في خدعة الاسلام السياسي سواء كانوا من السنة أو من الشيعة لأن الإسلام السياسي هو من مخلفات المجتمع الجاهلي وليس من دين محمد صلى الله عليه وسلم وهو يشكل خطرا كبيراً على الأمة الاسلامية ، فما يحصل اليوم هو أكبر إثبات على ذلك فبدلا من أن تتعاون الدول الإسلامية مع بعضها البعض لتصبح أمة متقدمة نجدها قد تحولت إلى ضعيفة تعاني من الحروب سواء كان على مستوى دولي أو على مستوى حروب أهلية في الدولة الواحدة والتي سببت خراب هذه الدول وتهجير قسم كبير من شعبها .

ما يجب أن نعلمه نحن المسلمون أن دين الإسلام الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم هو دين مرن مناسب لجميع الأزمنة لأنه دين متعدد الرؤى ، وأن ظهور المذاهب المختلفة في الإسلام لم تظهر لتصل إلى السلطة لتحكم المسلمين سياسيا ، ولكنها ظهرت ليستطيع الدين التطور مع الزمن حسب حاجة كل عصر لتحقق للمسلمين جميع الحاجات الروحية للإنسان ، فهذه المذاهب ترى الإسلام من زوايا مختلفة ، حيث كل مذهب يرى الإسلام من زاوية خاصة به ، فظهور المذاهب كان هدفه رؤية الاسلام كله وليس جزء منه كما يحصل في رؤية المذهب الواحد . كل مذهب فيه الصح وفيه الخطأ ولا يمكن تصحيح هذا الخطأ إلا بالتعاون مع المذاهب الأخرى ليصل الإسلام في النهاية إلى شكله الحقيقي .

فعندما أتكلم في مقالاتي عن الشيعة أقوم بنقد ذاتي أحاول فيه أن أوضح للمسلم السني تلك الزاوية التي يرى فيها الشيعة الإسلام والتي تساعد في تكوين إسلام متكامل والتي غابت في تعاليم مذاهب السنة ، وكما ذكرت في مقالات ماضية عديدة أني لا أعتمد في أبحاثي على ما تكتبه الأيدي البشرية فهي يمكن أن تكون صحيحة أو أكاذيب ، لهذا أعتمد على الحقائق الإلهية التي لا يستطيع أحد أن ينكر صحتها .وحتى أوضح لكم بعض من هذه الحقائق الإلهية في موضوعنا هنا أود من كل قارئ مسلم سني أن يقوم بنفسه بهذه التجربة : سأذكر بعض الأسماء وعلى القارئ أن يسأل نفسه ومن حوله من مسلمي السنة ماذا يعلمون عن هؤلاء الأشخاص " علي زين العابدين ، محمد الباقر ، جعفر الصادق ، موسى الكاظم ، علي الرضا ، محمد الجواد ، علي الهادي ، الحسن العسكري " . ماذا نعلم نحن مسلموا السنة عن هؤلاء الأشخاص ؟ أنا متأكد تماما أن ٩٩ % من جمهور الطائفة السنية لا يعلمون شيئا عنهم ، فأنا شخصيا كمسلم من عائلة سنية فمن خلال دراستي للكتب الدينية والتاريخية في مناهج جميع مراحل دراستي لم أسمع عنهم شيء فإذا كان أحد هذه الكتب قد ذكر أحد هذه الأسماء فقد تم ذكره بطريقة فرضت علي أن أنساه بعد فترة قصيرة جدا . ولكن هناك أسماء أخرى موجودة في هذه الكتب فرضت علي أن تبقى في ذاكرتي إلى الأبد كخالد بن الوليد ومعاوية بن أبي سفيان وعمر بن العاص وعقبة بن نافع وصلاح الدين الأيوبي وطارق بن زياد وغيرهم كثيرين . أنا لا أقصد أن جميع هؤلاء لا يستحقون ذكرهم ، ولكن أقصد أن كتب مذهب السنة لم تعدل في عرض الإسلام كدين وتاريخ على المسلمين فهي أعطت أهمية كبيرة لكثير من الشخصيات الذين حملوا معهم قسم من سلوك البيئة الجاهلية لينقلوها للمسلمين سواء عن طريق الكتب المدرسية أو عن طريق الخطب في المساجد ، فاختلط سلوك المسلمين بين الجاهلية وبين الإسلام فظنوا أن هذا السلوك المختلط هو السلوك الذي يعلمه الاسلام الحقيقي .

أسماء هؤلاء الذين ذكرتهم ولا يعلم المسلم السني عنهم شيئا هم ذرية رسول صلى الله عليه وسلم وأحفاد علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة الزهراء بنت الرسول عليهما السلام. ما يجب أن يعرفه المسلم أن الإمام علي وزوجته الزهراء عليهما السلام هما الصورة المثالية التي تركها رسول الله لنا بعد وفاته لنرى من خلالها سلوك النبي نفسه ، لأنهما منذ ولادتهما كانا يعيشان في عالم روحي يسيطر عليه رسول الله بشكل كامل ، وكانا بعيدان كل البعد عن سيطرة البيئة الروحية الجاهلية ، لهذا لم يدخل فيهما أي شائبة من شوائب المجتمع الجاهلي . هذه التربية الصالحة نقلها الامام علي وفاطمة الزهراء عليهما السلام إلى أبنائهم وأحفادهما . وهؤلاء بدورهم كانوا مثالا حقيقيا للتربية الصالحة التي أمرنا رسول الله بتعليمها لأطفالنا والتي يمكننا رؤيتها وتعلمها من خلال الروايات التي تتحدث عن أهل البيت ، ولكن الذي حصل في الواقع أن معاوية ومعظم خلفاء الدولة الأموية استخدموا اسلوب القمع والإرهاب في كل شخص يتكلم عن فضائل وخصائص أهل البيت ، لهذا مسلمي السنة في ذلك الزمان وبسبب الخوف على أنفسهم لم يذكروا روايات عن أهل البيت في كتبهم إلا القليل ، ليس هذا فقط بل بعضهم حرفها وألف روايات كاذبة للطعن بأهل البيت . فالذي حصل بعد ذلك أن مسلمي السنة ساروا على نفس منهاج روايات مسلمي العصر الأموي فظلت الروايات عن أهل البيت بعد علي عليه السلام تكاد أن تكون شبه معدومة في كتب السنة . الشيعة هم الذين كتبوا رويات أهل البيت وحافظوا عليها ، ولكن غيابها في كتب السنة هو الذي سمح لبعض الرافضة في الشيعة أن يضيفوا عليها الكثير من الأكاذيب والغلو فيها.

وهنا أود أن أطلب من كل قارئ سني أن يسأل نفسه ماذا يعلم عن أقوال وتعاليم علي عليه السلام ، وماذا يعلم عن سيرة حياة فاطمة الزهراء عليها السلام، وماذا يعلم عن ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم . أنا متأكد تماما بأن معظم مسلمي السنة لا يعلمون عنهم إلا القليل جدا ، أبحثوا في كتب السنة وتأكدوا بأنفسكم أين هي أحاديث وروايات وآحاديث الحسن والحسين وأبنائهم وأحفادهم . لماذا هذه الكتب لا تذكرهم فهؤلاء كانوا أقرب الناس إلى رسول الله روحا وجسدا وهم الذين أخذوا اكبر نصيب من تعاليم رسول الله في تربية أجيال صالحة تصلح لكل زمان ومكان .

الرأي الذي يقول أن كتب السنة خالية من روايات أهل البيت ليس هو فقط رأيي الشخصي ولكن هو أيضا رأي العديد من علماء السنة في العصر الحاضر ، فبعد الإنفتاح العلمي والتحرر الفكري الذي حصل في بداية القرن العشرين أصبح عدد العلماء الذي يتكلمون عن مظلومية أهل البيت في كتب السنة يزداد يوما بعد يوم . لأنها من الحقائق التي لا يستطيع أحد أن ينكرها ، بعض علماء السنة لا يعترفون بصحة هذا الرأي فيقولون نحن نحب أهل البيت ويوجد رواية فلان وفلان عن الحسن والحسين عليهما السلام ، ولكن هناك فرق كبير من أن تذكر عن كل شخصية اسلامية أكثر من عشر روايات وبأسلوب معين ثم تذكر رواية واحدة عن الحسن أو الحسين عليهما السلام بأسلوب آخر ، ففي هذه الحالة الروايات العشرة كنتيجة هي التي ستؤثر على فكر وسلوك القارئ بسبب كثرتها وليس الرواية الواحدة ، والنتيجة ستكون أن المسلم سيخرج من هذه الكتب وهو لا يحمل في عقله الباطن شيئا من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما حدث في الواقع .

لنضرب مثالا بسيطا يوضح لنا نتيجة غياب روايات أهل البيت في كتب السنة على فكر المسلم السني ، إذا تمعنا في تفسير أحداث معركة صفين التي حدثت بين علي عليه السلام ومعاوية ابن أبي سفيان ، والتي ذهب ضحيتها أكثر من ٧٠ ألف قتيل ، سنجد أن معظم علماء السنة يحاولون أن يبرؤا معاوية من أي تهمة قائلين بأن الذي حصل هو موضوع إجتهاد ، كل طرف اجتهد فوصل إلى قراره ، واختلاف الاجتهادات أدى إلى حدوث المعركة ، ثم يذكرون حديثا شريفا يقول " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" بهذا الحديث يحاولون أن يبرروا ما حصل وكأنه قضاء وقدر وأنتهى الأمر . إن تفسير أسباب معركة صفين بهذه الطريقة لا يدل سوى على أن فكر علماء السنة هو من الفكر الذي فرضه خلفاء بني أمية على المسلمين . فتفسير سبب حدوث معركة صفين لا يمكن تطبيق موضوع الإجتهاد عليه .الموضوع هنا بحاجة لتطبيق مبادئ علم النفس التربوي وعلم الوراثة الروحي وليس تفسيره عن جهل وتعصب ، علي عليه السلام أخذ علومه وتربيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما معاوية فكان تربية أبيه أبي سفيان الذي عاش حتى عمر ٧٠ عام في بيئة جاهلية ولولا انتصار المسلمين بفتح مكة ربما لكان توفي على جاهليته دون أن يدخل الاسلام ، لذلك فإن الِعالم الذي يعتمد فكرة الإجتهاد في تفسير معركة صفين فإنه وكأنه يساوي بين أبي سفيان ورسول الله في نوعية التربية التي علموها لأبنهم وهذا لا يجوز قطعيا ، فنوعية التربية التي تلقاها معاوية من أبيه هي التي حرضت معاوية في استخدام حجة القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه لنشوب معركة صفين ، فالقصاص بحد ذاته هو من تعاليم الجاهلية ، ولكن التسامح والصبر من أجل المصالحة العامة هو من تعاليم الدين الإسلامي الذي حاول علي عليه السلام أن يتبعه في تلك الفترة لتكون بداية جديدة للتخلص من مخلفات الجاهلية لتحل محلها المحبة والتسامح . ولهذا نجد اليوم أن عدد علماء السنة الذين بدأوا يرفضون فكرة موضوع الإجتهاد في معركة صفين ويؤكدون أن الحق هو فقط مع علي عليه السلام يتزايد يوما بعد يوم بسبب نمو مستواهم العلمي .

يقول الله عز وجل في قرآنه الكريم (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١) هذه الآية مذكورة في سورة الأحزاب ، وكلمة أحزاب تعني القوم الذي تَشاكَلَتْ قُلُوبهُم وأَعْمالُهم فأصبحوا جماعات عديدة متعادية مع بعضها البعض، في هذه السورة وضع الله هذه الآية لتتجنب الأمة الإسلامية أن تتحول إلى أمة أحزاب ، الله عز وجل اختار رسول الله ليكون أسوة وقدوة ليتشبه المسلمين به ويعملون على منواله ، رسول الله علم صفات هذه القدوة لأهل بيته كسلوك وعلم ، فطالما أن رسول الله كان معصوما عن الخطأ ، فحسب مبادئ علم الوراثة ولا نقصد فقط الوراثة الجسدية ولكن أيضا وراثة المعلومات والسلوك ، فإن أكبر نسبة من هذه العصمة إنتقلت إلى علي وفاطمة كونهما كانا ومنذ طفولتهما برعايته هو فقط ، فعلي عليه السلام رغم أنه كان ابن عمه ولكنه منذ طفولته عاش في بيت الرسول وكأنه أبنه أو أخاه الأصغر . النسبة الكبيرة من عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنتقلت إلى فاطمة وعلي عليهما السلام ومن ثم انتقلت إلى الحسن والحسين عليهما السلام ، فالحسن عاش مع الرسول ٨ سنوات ، والحسين عاش معه ٧ سنوات ، فتربيتهما تلقياها من رسول الله ومن ابويهما ، لذلك نستطيع أن نقول أن نسبة كبيرة من العصمة قد انتقلت أيضا إليهما ، سلوك هؤلاء الأربعة عليهم السلام حسب علم النفس التربوي كان في أرقى مستوياته ، لهذا لا يمكن مقارنة سلوك هؤلاء مع أي صحابي ونعني هنا جميع الصحابة وبدون أي استثناء ، لأن جميع الصحابة عاشوا في مجتمع جاهلي وجزء من هذه الجاهلية قد أثر في تربيتهم وتكوينهم الروحي ، هذا الرأي لا يمكن إنكاره لأن أي إعتراض عليه هو بمثابة الطعن في شخصية رسول الله كأب وكمعلم لأننا بهذا الإنكار سنضع آباء الصحابة بمستوى رسول الله . لهذا وجب على جميع علماء الدين أن يعطوا أهمية كبيرة لسيرة حياة هؤلاء عليهم السلام لأنهم هم الأمتداد الطبيعي لسلوك رسول الله وصفاته والتي من خلالهم سنجد النتيجة الطبيعية لسلوك وصفات الرسول التي لم نفهمها أثناء وجوده على قيد الحياة ولكنها ظهرت كنتيجة له فيما بعد .

لهذا شاءت الحكمة الإلهية أن تدفع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته أن يعطي موضوع الوراثة الروحية أهمية كبيرة ، حيث نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما علم أن حياته قد وصلت إلى نهايتها ، نجده بعد حجه الأخير يجمع المسلمين حوله ويخطب بهم تلك الخطبة التي سميت فيما بعد بخطبة الوداع (حديث غدير خم) ، إذا تمعنا في هذه الخطبة سنجد أنها تتألف من قسمين : القسم الأول يقول صلى الله عليه وسلم " إني تاركٌ فيكم ثَقلينِ: أوَّلهما: كتاب الله، فيه الهُدى والنُّور؛ فخُذوا بكتاب الله، واستمسكوا به ، والثاني أهل بيتي، أُذكِّركم الله في أهل بيتي ، أُذكِّركم الله في أهل بيتي ، أُذكِّركم الله في أهل بيتي " العبارة الأخيرة قالها ثلاث مرات وكأن صلى الله عليه وسلم يعلم تماما بأن بعد وفاته سيحصل ظلم من المسلمين في حق أهل بيته . وهذا ما حصل في الواقع تماما حيث بني أمية والخوارج منعوا علي عليه السلام أن يقوم بدوره الحقيقي أثناء خلافته ثم قتلوه . والحسن عليه السلام أيضا منعوه من تولي الخليفة رغم مبايعة المسلمين له بالشروط الصحيحة وعندما تنازل عنها سمموه وقتلوه حيث قبل وفاته قال ( سقيت السم أكثر ما مر ولكن ما سقيت مثل هذا ) ورفض أن يقول من سممه وترك أمر قاتله لرب العالمين لكي لا تحدث فتنة بين المسلمين ، والحسين عليه السلام أيضا عندما رأى أن معاوية نكث إتفاقية الصلح مع أخيه الحسن وأنه قام بتغيير نظام الشورى الذي أعتمدته الأمة الاسلامية في اختيار الخليفة ، حيث قبل وفاته ولى معاوية الخلافة لابنه الفاسق يزيد ، فخرج الحسين بناء على مطالب المسلمين لنزع الخلافة من يزيد الفاسق ، ولكن المسلمون خذلوه وتركوه يواجه لوحده جيش يزيد بن معاوية فقتلوه وقطعوا رأسه وقتلوا معه معظم أفراد أهله في معركة الكربلاء . مسلمي السنة في العصر الأموي حذفوا القسم الأول من خطبة الوداع ، أما مسلمي السنة اليوم فنجدهم يمدحون معاوية وخلفاء بني أمية الذين كانوا من ألد الأعداء لأهل البيت ، واليوم كل من يتكلم عن ظلم أهل البيت ويهاجم معاوية وبني أمية يتهمونه بأنه شيعي حاقد .

أما في القسم الثاني من خطبة الوداع فنجد رسول صلى الله عليه وسلم يمسك بيد علي عليه السلام ويرفعها إلى الأعلى ويقول " اللهم من كنت مولاه فعَليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه». رسول الله قال هذا ليؤكد للمسلمين جميعا أن أكثر شخص يحمل صفات الرسول وحكمته هو علي عليه السلام.

في هذه الخطبة الشريفة أراد الله عز وجل أن يبين للمسلمين الذين يبحثون عن حقيقة الاسلام الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، أن يتمعنوا في تفاصيل هذه الخطبة كي لا يضلوا بكلام شيوخهم المبني على الأهواء والأكذيب وليس عن علم . فإذا بحثنا في تفسير معظم علماء السنة لحديث الوداع نجدهم يفصلون القسم الأول عن القسم الثاني ، وكأن القسمين لا علاقة لهما ببعض ، في صحيح البخاري مثلا لا نجد القسم الأول من الحديث رغم أنه حديث لا يجوز أن يُطعن بصحته بأي شكل من الأشكال فهو متواتر ذكره أكثر من ٢٠٠ عالم ورواه أكثر من ٣٠ صحابي وصحابية ، ولهذا ذكره مسلم في صحيحه . فإذا تمعنا في ردة فعل علماء السنة لهذا الحديث نجد أن بعضهم ينكرون صحته ، وبعضهم الآخر يذكره بأشكال مختلفة بهدف تشويه معناه الحقيقي ، ابن تيمية مثلا الذي يُعتبر شيخ الاسلام عند الكثير من مسلمي السنة حيث يقول عنه البعض " إننا نتعبد الله بحب ابن تيمية " ، في كتابه منهاج السنة النبوية (٧/٣٩٣ -٣٩٧) يحاول ابن تيمية أن يقلل من أهمية علي وأولاده وأحفاده فيقول بما معناه ( أن المقصود بكلمة عترتي (أهلي) في هذا الحديث هم بني هاشم جميعا وليس علي فقط . هذا التفسير لا يدل سوى على الطعن بشخصية علي عليه السلام أو أن ابن تيمية لم يفقه المعنى الحقيقي للحديث لأنه يجهل علاقة علم النفس التربوي ومبادئ علم الوراثة التي يعتمد عليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف . فالرسول صلى الله عليه وسلم هو من محصلة التطور الوراثي لأمه وأبيه وليس فقط أبيه ، ثم أن أجداد الرسول من أبيه وكذلك أقربائه لا علاقة لهم بالعصمة الإلهية التي وهبها الله لرسوله أما علي واولاده عليهم السلام فهم فقط الذين لهم علاقة بهذه العصمة لأنهم تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم . بينما نجد الشيعة قد وضعوا العصمة في ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الحفيد الثاني عشر ، وهذا أيضا خطأ حسب قانون الوراثة فكلما أبتعد النسل عن المصدر الرئيسي كلما قلت نسبة الصفة المورثة في النسل .

هناك حديث شريف (بعض علماء السنة يرفضون صحته) يقول "أدبوا أولادكم على ثلاث خصال، حبِّ نبيكم، وحبِّ آل بيته، وتلاوة القرآن" . فلو أن الكتب المدرسية كانت مليئة بروايات وأحاديث أهل البيت الذين حملوا سلوك وصفات الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق الوراثة الروحية والجسدية ، تأكدوا تماما لكان من المستحيل أن يظهر اليوم حزب ديني يحمل أسم "الأخوان المسلمين" ولا ان يسمح بظهور منظمات إرهابية تعشق العنف أمثال القاعدة أو داعش ولا كان يستطيع أي شخص غير مسلم أن يتهم الدين الإسلامي بالوحشية والعنف . وأكبر إثبات على ذلك أن جميع أتباع هذه المنظمات الإرهابية الذين يستخدمون العنف بحجة الدفاع عن الاسلام شيخهم ومعلمهم الأول هو الشيخ ابن تيمية ، ومن يتمعن في كتب ابن تيمية سيجد أنه يدعي حب أهل البيت ولكن كتبه في الحقيقة فيها بشكل غير مباشر طعن شديد بشخصية علي عليه السلام وأولاده وفي الوقت نفسه فيها دفاع واضح تماما عن معاوية وخلفاء بني أمية الذين يكرهون أهل البيت .

في الأخير أود أن أذكر مثالا عن سلوك أهل البيت ذكره ابن كثير في كتابه البداية والنهاية ، من هذا المثال سنعلم كم هي حاجة المسلم اليوم لمثل هذا السلوك الحضاري في أهل البيت والذي يستطيع حل الكثير من مشاكل التي يعاني منها اليوم المجتمع الإسلامي والعالمي :

الحادثة بشكل مختصر تذكر انه بعد عامين من مقتل الحسين عليه السلام عندما قامت ثورة في المدينة ضد الدولة الأموية وحكامها ، وراحوا الثوار يحاصرون جميع بني أمية ليقتلوهم ، لجأ مروان بن الحكم الأموي إلى عبدالله بن عمر ، ليخفي عنده زوجته وبنوه كي لا يُقتلوا على أيدي الثوار في المدينة ، ولكن عبدالله بن عمر رفض طلبه ، لأن بني أمية كانوا مكروهين من مسلمي أهل المدينة لما فعلوه بأهل البيت ، فذهب مروان بن الحكم إلى علي زين العابدين ابن الحسين عليهما السلام ليطلب منه حماية أهله ، ورغم أن بني أمية قبل عامين فقط كانوا قد قطعوا رأس أبيه وقتلوا أخوته ومعظم أقربائه أمام عينيه ، ورغم أنه كان سيعرض حياته للخطر من الثائرين لأنه يُخفي أعدائهم عنده ، ولكن رغم ذلك نجد زين العابدين عليه السلام بدل أن يثأر لأبيه من مروان نجده يقبل بمساعدته ويخفى في بيته زوجة مروان وأولاده ، ثم يساعدهم على الخروج من المدينة ليرحلوا بأمان إلى بلاد الشام"

. هذا نموذج من سلوك أهل البيت ، وهكذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصرف كمسلمين . عدد ضئيل جدا من علماء وشيوخ السنة يذكرون هذه الحادثة وأما البقية فهم لا يعرفونها أو لا يريدون من مسلمي السنة أن يسمعوها . ولكن الله عز وجل وضع حقائق تكشف حقيقة ما حدث في الماضي تراها فقط العين البصيرة ، فهذه الحادثة كان لها نتيجة أثرت على مجرى الأمة الاسلامية ، هل تعلمون ماذا كانت نتيجة ما فعله علي زين العابدين ؟ سنذكرها لكم ولكن قبل ذلك أود أن أذكركم بفقرة من مقالة ماضية ذكرت فيها أن سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل من الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حاكم عادل يخاف الله ، فرغم أنه من بني أمية ولكنه كان يختلف عنهم تماما ، شخصية عمر بن العزيز الذي هو فخر للأمة الاسلامية بجميع مذاهبها تكونت من هذه الحادثة التي ذكرتها لكم ، فعمر ابن العزيز رضي الله عنه كان مع أولئك الأطفال الذين خبأهم زين العابدين عليه السلام في بيته . هذه الحادثة كانت هي بذرة الخير التي زُرعت في عمر بن عبد العزيز وجعلته يعلم ما معنى الاسلام الحقيقي ولهذا كان يختلف عن معظم افراد بني أمية ، ولهذا بني أمية سمموه وقتلوه هو أيضا عندما رأوه يحاول التقرب من أهل البيت .

تاريخ الاسلام ليس مجرد روايات عشوائية حدثت بالصدفة كما نقرأه اليوم ولكن هناك حقائق تركها الله لنا ترابط الأحداث مع بعضها البعص لتُحقق علاقة إنسجامية بين السبب والنتيجة لنفهم تأثير الأحداث على مجرى التاريخ ، فلولا زين العابدين عليه السلام ربما لقُتل عمر بن عبد العزيز وهو طفل صغير في المدينة على أيدي الثوار أو ربما لكان شخصا آخر مثل معظم بقية بني أمية ولما سُمي بخامس الخلفاء الراشدين .

أتمنى من القراء أن يتركوا التعصب الديني على طرف ولا يسيئوا فهم مقالاتي ، فهدف مقالاتي ليس الدفاع لا عن طائفة شيعة كما هي اليوم ولا عن الطائفة السنية ولكن هدفها توضيح تعاليم الاسلام الحقيقي ، فشيعة اليوم لا تختلف عن الطائفة السنية فهي أيضا تعاني من التشويه ، وعندما أتكلم عن دور الشيعة في الحفاظ على بعض معالم الإسلام فأنا أقصد دور أولئك العلماء الصالحين في الشيعة الذين أحبوا أهل البيت وحافظوا على رواياتهم وتعاليمهم لتبقى موجودة حتى يومنا هذا والتي لولاهم ربما لما عرفنا اليوم شيئا عن ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخيرا أود أن يسأل كل مسلم سني نفسه هذا السؤال : هل من المعقول أن تكون ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرية فاشلة عاشت على هامش الحياة ولم تكن تستحق أن تذكرها صفحات التاريخ كما يظهر في كتب السنة ، هل هذا معقول ؟ يقول الحديث الشريف " اللهم من كنت مولاه فعَليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه» علي عليه السلام في هذا الحديث الشريف هو رمز لأهل البيت .

*****************************

الخاطرة ٢٢٢ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢٣

في المقالة ما قبل الماضية تكلمنا عن بعض الفرق الاسلامية التي ظهرت وإنقرضت ، اليوم سنتكلم إن شاء الله عن المذاهب التي استمرت ولها أتباعها يؤمن كل منهم بمذهبه بقلبه وعقله ولهذا لم يتخلوا عن مذهبهم لأنهم يرون أن مذهبهم يسير على تعاليم الاسلام كما انزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . ولكن الذي يحصل أن لكل مذهب - وبدون أي إستثناء - له أتباعه الضالين الذين أدخلوا عليه أفكار من الاسلام السياسي فشوهوا هوية مذهبهم في أعين أتباع المذاهب الأخرى ، والمشكلة في هذا الموضوع أن هؤلاء الضالين يُظهرون عيوب المذاهب الأخرى التي صنعها أمثالهم في المذاهب فيعرضونها على أتباع مذهبهم ليظن أتباع مذهبهم أن مذهبهم هو الصحيح فقط وأن بقية المذاهب قد خرجت عن طريق الاسلام الصحيح .

وبفضل هؤلاء إنقسمت الأمة الاسلامية إلى فرق منفصلة وبعض الأحيان متعادية فيما بينها.

علماء السنة والجماعة عندما يشرحون سبب وجود اربعة مذاهب في طائفتهم ، نجدهم يبسطون الأمور فيقولون بأن مذاهبهم الأربعة جميعها صحيحة ولا يوجد أي مشكلة تفرق بينهم ، ويعللون سبب ظهور هذه المذاهب الأربعة إلى أشياء منطقية ، من هذه الأسباب مثلا الاختلاف في فهم اللغة وإختلاف فهم العلماء للأحاديث الشريفة ، وكذلك إختلاف الأحاديث التي نقلها الصحابة من منطقة إلى أخرى . هذه الاختلافات دفعت علماء كل منطقة إلى محاولة الإجتهاد فخرج كل عالم بمفهوم معين لمسألة من المسائل ، فالزكاة مثلا عند الإمام الشافعي (المذهب الشافعي) تكون من غالب قوت البلد أي حسب ما ينتجه كل إنسان ، فالمزارع مثلا يدفع زكاته من محصوله . أما بالنسبة للإمام أبو حنيفة (المذهب الحنفي) فالزكاة تكون كمبلغ مالي . فهذا الاختلاف في طريقة دفع الزكاة لا تؤثر على نوعية الإيمان لأن دفع الزكاة في كلا المذهبين يؤدي دوره المطلوب ، ولكن ظروف المنطقة هي التي فرضتها على المذهبين ، لهذا فحسب رأي علماء السنة أن مذاهبهم الأربعة هي صحيحة ولا يوجد أي مشكلة في الإنتماء إلى أي مذهب منها .

علماء السنة والجماعة بتعليلهم هذا يعتمدون على الإختلافات البسيطة في التكوين الروحي للإنسان الذي أدى إلى اختلاف نوع الإجتهاد ، ولكن الإنسان في الحقيقة ليس بمخلوق بسيط كما يعتقدون ، فالتكوين الروحي للإنسان معقد جدا ، وهناك فروقات أعمق من ذلك بكثير قد ينتج عنها اختلافات في الاجتهادات لدرجة قد تبدو وكأنها تدور في فلك آخر لتلائم التكوين الإنساني بجميع أنواعه عند البشر ، فهناك إنسان تكوينه مثلا فيه مقدرة على التحليلات الرقمية والرياضية لهذا فهو سيرى الآيات القرآنية كمعادلات رياضية وسيكون فهمه لها بشكل مختلف كثيرا عن ذاك الذي له مقدرة في علم اللغة ، ومختلف عن ذاك الذي له مقدرة في علم النفس فآيات القرآن هي كلام الله وهي غنية بالمعلومات لتخاطب جميع أنواع المقدرات التي وضعها الله في الناس ، لهذا يقول الله عز وجل (.... ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ٣٢ ) كلمة سُخْرِيًّا من التسخير وتعني الاستخدام ، فمعنى الآية أن الله خلق الناس بمقدرات مختلفة لينفع بعضهم البعض لتأمين جميع حاجاتهم ، هذه الأية مذكورة في سورة الزخرف، وكلمة الزخرف من الزخرفة وتعني : فَنُّ تزيين الشيء بأشكال وألوان فيها إنسجام مع بعضها البعض لتحقق شكلا جميلا يسر النظر والروح ، هكذا تماما هو الإسلام هو دين غني مزخرف بمذاهبه لتعرض حلول لجميع المشاكل .فبسبب شدة الإختلاف في التكوين الروحي من شخص إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى ظهرت المذاهب العديدة في الإسلام . ولهذا أيضا وجدت عدة ديانات على مر التاريخ حيث كل ديانة لها أتباع يؤمنون بصحة ديانتهم بكامل قلبهم وعقلهم ، ولهذا أيضا ظهرت العلوم المختلفة والحضارات المختلفة لتأمين جميع حاجات الإنسانية التي ستساعدها للوصول إلى الكمال الروحي والمادي عبر تاريخ تطورها الطويل . فما ينطبق على مذاهب السنة الأربعة ينطبق تماما على بقية الإختلافات سواء كان على مستوى أمة واحدة أو على مستوى الإنسانية بأكملها ، لهذا يجب أن ننظر إلى إختلاف الأمور بين الطوائف والأمم نظرة موضوعية بعيدة تماما عن أي تعصب سواء كان تعصب مذهبي أو تعصب ديني . وقد تكلمت في مقالة ماضية - الجزء ١٤- عن قانون الإثنا عشرية الذي يفسر لنا سبب إختلاف التكوين الإنساني بين شخص وشخص أخر وبين أمة وأمة أخرى . فالإختلاف وظهور الطوائف والمذاهب ليس علامة ضعف في الدين بل على العكس تماما فهو دليل عظمة الدين لأنه يحقق إحتياجات معظم أنواع التكوين الروحي لأتباع هذا الدين كما يريده الله لهم وليس كما يريد علماء كل مذهب لأنفسهم .

حتى نوضح هذه الفكرة سنحاول شرح تسلسل ظهور الإختلافات في الفرق الإسلامية منذ بداية ظهور الاسلام لنعلم أن هذه الإختلافات هي حكمة إلهية وليست نتيجة سوء فهم كما يظن بعض المسلمين ، فجميع هذه المذاهب بشكلها النقي هي صحيحة وكل منها يحمل حكمة إلهية معينة تساعدنا في رؤية الإسلام على حقيقته الكاملة كما أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فجميع هذه المذاهب تؤمن بقواعد الإيمان الرئيسية الثلاثة : الإيمان بالله ، الإيمان باليوم الآخر ، العمل الصالح (مكارم الأخلاق) . وكذلك جميعها تؤمن بأركان الإسلام الخمسة : الشهادتان ، الصلاة ، الصيام ، الزكاة ، وحج البيت . اما الإختلافات بينهم فهي مشابهة للإختلافات بين الفيزياء والكيمياء حيث كل علم يدرس المادة من زاوية مختلفة فلا الفيزياء على خطأ ولا الكيمياء ، والكل يؤمن بصحة هذه الفروقات بينها لأنها علوم مادية يمكن رؤيتها بالعين ، أما في علوم الدين فلا يمكن رؤيتها بسهولة لأنها علوم روحية تدرس التكوين الإنساني الروحي وتحتاج إلى نوع آخر من الرؤية وهي البصيرة للاحساس بها وفهم تلك الإختلافات التي تحصل بين المذاهب والأديان ، وبسبب ضعف البصيرة في نسبة كبيرة من الناس أصبحت هذه الاختلافات سببا للعداوة بينهم.

أول إختلاف ظهر في الأمة الإسلامية كان سببه فاطمة الزهراء عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عندما رفضت ما حدث في بيعة السقيفة التي تم فيها مبايعة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليتولى الخلافة على المسلمين ، هذه الحادثة هي حقيقة إلهية ولا يمكن لأحد أن ينكر حدوثها ، فجميع المذاهب تؤكد على أن فاطمة الزهراء عليها السلام قبل وفاتها طلبت عدم حضور جنازتها أي صحابي شارك في مبايعة السقيفة . فاطمة الزهراء عليها السلام هي من سيدات نساء الجنة لأنها ثمرة تربية أبيها عليه الصلاة والسلام ، فهي أخذت قسم كبير من عصمة أبيها ومن المستحيل أن ترتكب خطأ يؤدي إلى إنشقاق الأمة إلى فرق متعادية . لهذا يجب أن ننظر إلى هذه الحادثة برؤية إيجابية وليس برؤية سلبية ، فالله عز وجل وضع في تصرف فاطمة الزهراء عليها السلام حكمة إلهية . وإن فهم هذه الحكمة سيساعدنا على فهم الاختلافات التي ستمر عليها الأمة الإسلامية والإنسانية بأكملها .

إن سبب رفض فاطمة الزهراء عليها السلام لِما حصل في بيعة السقيفة كان هدفه هو توضيح حقيقة زوجها علي عليه السلام ودوره الذي أعطاه الله في تكوين الدين الاسلامي فبيعة السقيفة حصلت بدون أن يأخذ أحد رأي علي عليه السلام . فلولا سلوك فاطمة هذا لظن المسلمون أن علي عليه السلام هو مجرد صحابي مثل أبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة . ولكن الأمر ليس كذلك فكما شرحنا في الجزء ١٨ من سلسلة "ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء " بأن الله أراد أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم اليد اليمنى للإسلام وعلي عليه السلام اليد اليسرى له ، فبدون علي عليه السلام يصبح الإسلام بيد واحدة فقط ويخسر بعض قوته ، فعلي عليه السلام هو بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون لأخيه موسى عليهما الصلاة والسلام . الله أنزل الإسلام على نبيه محمد كمعلومات روحية أرقى من أن يفهم معانيها الشاملة عقل إنسان ، فكان دور علي عليه السلام من خلال علمه أن يعلم الناس طرق فهمها لتستطيع تعاليم الإسلام أن تكمل بقية الاديان والحضارات العالمية .

أما بالنسبة لِما فعله أبو بكر الصديق والصحابة الصالحين رضي الله عنهم في بيعة السقيفة فهو أيضا حكمة إلهية ولا تتعارض مع رفض فاطمة الزهراء عليها السلام لها ، فالمجتمع الإسلامي في تلك الفترة كان لا يزال يحمل الكثير من مخلفات الجاهلية ، لهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالنسبة لهم واحد منهم ولهذا كان مناسبا لهم لتولي الخلافة عليهم في تلك الفترة ، فتقاليد المجتمع الإسلامي كان يحكمها أسياد قريش وكثير من الصحابة كانت نفوسهم متمسكة بهذه التقاليد لأنها كانت جزء من تكوينهم الروحي ، أما علي عليه السلام فكان مختلفا عنهم في تكوينه الروحي بسبب تربيته منذ ولادته على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان تكوينه الروحي خالي تماما من مخلفات الجاهلية ، لهذا كان بالنسبة لهم غريبا عن طبع مجتمع قريش في تلك الفترة ، وخاصة أنه كان أصغر سنا بكثير من كبار الصحابة لذلك كان من المستحيل أن يقبلوا أن يتولى أمرهم رجل بسن علي عليه السلام . لهذا يجب أن يُنظر هنا إلى هذا الموضوع من خلال زاوية علم النفس لنفهم حقيقة ما حدث ، فما فعله الخلفاء الراشدين الثلاثة رضي الله عنهم كان حكمة إلهية تناسب الظروف الروحية لتلك الفترة لتسمح للمجتمع في الإنتقال التدريجي من مجتمع جاهلي إلى مجتمع إسلامي بشكل يلائم ظروف التكوين النفسي للمسلمين في تلك الفترة لتستطيع الأمة الإسلامية أن تسيطر على استمراريتها.

لهذا يمكننا القول هنا باختصار أن الخلفاء الراشدين الثلاثة وأتباعهم من الصحابة الصالحين كان دورهم تأمين الظروف المناسبة لخلق أمة اسلامية لها هوية خاصة بها لتؤكد وجودها كأمة مستقلة عن بقية الأمم . أما دور علي عليه السلام فكان تكوين امة اسلامية منفتحة على جميع الأمم بشكل يساهم في دفع الإنسانية في الانتقال إلى مرحلة روحية جديدة . فالخلفاء الراشدين والصحابة التابعين لهم كان دورهم يتمثل في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام والتي إزدهرت فيها علوم فقه الدين بشكل يخص فقط الأمة الاسلامية ، أما دور علي عليه السلام والصحابة التابعين له فهو يتمثل في القرون الثلاثة الثانية من تاريخ الإسلام حيث إزدهرت العلوم المختلفة وأندمجت مع علوم فقه الدين فاستطاعت تكوين حضارة عالمية تخص الإنسانية بأكملها .

ما فعلته فاطمة الزهراء عليها السلام كبداية للإسلام بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم قد أدى إلى ظهور فئتين من المسلمين ، فئة ستقوم بدور الخلفاء الراشدين ومنهم ستتكون فيما بعد طائفة السنة والجماعة ، وفئة ستقوم بدور علي عليه السلام وستتكون منهم طائفة الشيعة . هذه الفكرة التي شرحناها لكم هي أهم نقطة في فهم سبب وجود الإختلافات بين الطوائف والمذاهب . هذه الإختلافات بين الفئتين كانت في البداية بشكلها الإيجابي فلم يكن بينهما أي عداوة ولكن فقط إختلاف في وجهة النظر ، ولكن بعد ظهور الاسلام السياسي في عهد معاوية بن سفيان بدأت روح السوء رويدا رويدا تدخل في هاتين الفئتين لتأخذ الأمور شكلا آخر فتحولت هذه الإختلافات إلى شكلها التعصبي المتخلف المشابه لما يحدث اليوم .

الآن لننتقل إلى الخطوة الثانية في ظهور المذاهب ، بعد مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه وتولى علي عليه السلام الخلافة استغل بعض المسلمين المنافقين مقتل عثمان لتكوين الاسلام السياسي ليحقق لهم مصالحهم الشخصية ، وكان ذلك حين رفض معاوية بن أبي سفيان - والي الشام حينها - أن يُبايع الخليفة علي عليه السلام بحجة أن يتم القصاص لدمّ عثمان أولا ثم المبايعة ، ورغم أن حكمة علي عليه السلام في فهم الأمور قد أضطرته في التمهل في موضوع القصاص منعا من إنتشار الفتنة وتحولها إلى حروب الأهلية تؤثر على قوة الأمة الإسلامية قد تعيدها إلى ما كانت عليه قبل الاسلام .ورغم محاولاته في توضيح موقفه من قتلة عثمان رضي الله ، ولكن إصرار معاوية وأتباعه على رفض مبايعة علي عليه السلام سُرعان ما قاد الجميع إلى لغة السيف ، فحدثت في البداية موقعة «الجمل» ضد جيش الخليفة التي انتهت بمقتل ١٠ آلاف ، منهم عدد كبير من الصحابة .

إصرار معاوية على عدم مبايعة علي عليه السلام من أجل الحفاظ على منصبه ، وخوف علي عليه السلام أن يؤدي موقف معاوية إلى إنقسام الأمة الإسلامية إلى دولتين متعاديتين ، دولة مع الخليفة ودولة معارضة للخليفة وخاصة أنه كان يعلم نوايا معاوية الحقيقية ، اضطر الخليفة علي عليه السلام للخروج إلى الشام لعزل معاوية من منصبه ، وإلتقى الجيشان في معركة «صِفّين»، ودار القتال بينهما . ولكن عندما رأى معاوية أن جيشه سيخسر المعركة استخدم اسلوب الخدعة لوقف القتال ، وطلب من جيشه رفع المصاحف على رؤوس رماحهم ، كحركة لها معنى دعوة الجيش الآخر للاحتكام إلى القرآن، وبالرغم أنّ الخليفة كان يعلم أنّها مجرد خدعة من معاوية لكسب الوقت إلا أنه اضطر إلى القبول بها لحقن دماء المسلمين حيث بلغ عدد الضحايا من الجيشين في تلك المعركة أكثر من ٧٠ ألف قتيل وخاصة أنه كان يعلم أن المسلمين الذين يقاتلون مع معاوية معظمهم كانوا بسطاء العقول انخدعوا بآراء معاوية بفكرة ضرورة الثأر من قتلة عثمان رضي الله عنه لتحقيق العدالة ، فجاؤوا معه يقاتلون معه ظانين أنهم يدافعون عن الحق دون أن يعلموا أنهم كانوا يدافعون عن مصالح معاوية الشخصية . فمن أجل هؤلاء المساكين فضّل علي عليه السلام أن تنتهي المعركة وأن يترك أمره لله عز وجل .

ولكن الذي حصل بعد إنتهاء المعركة أن في جيش علي عليه السلام ظهرت فئة رفضت أمر التحكيم ووقف القتال واعتبروها أنها مجرد خدعة من معاوية لينقذ نفسه من الموت ، وأن ما فعله علي عليه السلام بقبول وقف القتال لم يكن إلا السكوت عن النفاق ، هذه الفئة المعارضة إنقسمت إلى قسمين : الأول هم مذهب الخوارج الذين بايعوا لعبدالله بن وهب الراسبي ليكون قائدهم حيث كفروا معاوية وكفروا علي عليه السلام وكان رأيهم أنه يستوجب عليهم قتلهم واستباحة أموالهم . أما القسم الثاني وهم مذهب الإباضية التي رفضت حمل السلاح ضد الطرفين ، فقط كان لها رأي أن علي عليه السلام قد أخطأ بقرار وقف القتال لأن ما فعله معاوية برفع المصاحف كان مجرد خدعة ونفاق .

مذهب الخوارج بسبب تشدده وتعصبه الأعمى لم يتقبله المسلمون لهذا إنقرض بعد تأسيسه بفترة قصيرة من الزمن ، أما مذهب الإباضية فبعد وفاة علي عليه السلام وعندما رأى بعض المسلمين معاوية على حقيقته وأنه فعلا حارب بجيشه ضد علي عليه السلام من أجل مصالحه الشخصية وليس من أجل القصاص لدم عثمان رضي الله وكذلك بسبب فساد الحكم في عهد معاوية وبني أمية من بعده وبسبب التأثير السلبي لهؤلاء الحكام على تشويه طائفة السنة والجماعة ، رأى هؤلاء المسلمين أن أتباع مذهب الإباضية كانوا على حق فانضموا إلى هذا المذهب وخاصة أنه كان يستند على أمور أكثر عقلانية من عقيدة الخوارج ، ومن أهمها أن طائفة الجماعة والسنة في عهد الدولة الأموية كانوا يؤمنون بعدالة جميع الصحابة بدون أي إستثناء ، وبوجوب السكوت عما جرى بين الصحابة، وإثبات أجر الاجتهاد لهم سواء أصابوا أو أخطأوا ، وكذلك وجوب السمع والطاعة للحاكم وعدم جواز الخروج عليه . وإن كان فاسقا وظالما ، فكما يقول النووي الذي هو وأحد من أبرز فُقهاء الشافعية «وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين» ، أما الإباضية فكانت تعارض ذلك وتستند على بعض الآيات والأحاديث الشريفة ومنها (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) فمذهب الإباضية يحث على مجاهدة الوالي الظالم والجائر ، ولكن على شرط عدم إيذاء المصلحة العامة للأمة. هنا أود أن أقول أن جميع المذاهب في هذا الموضوع على حق ، فكل ظرف له وضعه الخاص لإتخاذ القرار الصحيح الذي يناسبه . لهذا كانت الحكمة الإلهية أن تعرض لنا عدة وجهات نظر للإختيار القرار المناسب للوضع في تلك الظروف الخاصة به . لهذا نجد عبر التاريخ أن هناك ثورات نجحت وإزدهرت بفضلها البلاد وثورات أخرى فشلت ودمرت البلاد وشعبها لعن أصحاب الثورة .

حسب تعاليم مذهب الإباضية أيضا أنهم يعارضون مبدأ أن تكون الخلافة للقريشيين فقط ويعارضون مبدأ توريث الخلافة الذي طبقه معاوية واستمر من بعده ، فتعاليم مذهبهم أن الخلافة هي من حق المسلم الأكثر كفاءة وعلما وإيمانا . لهذا الأباضيون يعتبرون أن مذهبهم هو أول مذهب ديمقراطي في تاريخ الأمة الاسلامية .

هذه الإعتقادات في الإباضية ساهمت في أن تجعل مذهب الإباضية أن يثبت وجوده على الساحة الإسلامية ليستقل بذاته ويحافظ على وجوده حتى اليوم ، فرغم محاولات بقية المذاهب في تشويه صورتهم وإتهامهم بأنهم من الخوراج وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالقضاء عليهم . ولكن الحقيقة ليست كذلك ولهذا نجد أن بعض علماء السنة المعاصرين يحاولون تصحيح تلك الصورة المشوهة التي رسمها علماء المذاهب الأخرى عن مذهب الإباضية في عهد الدولة الأموية والعباسية وذلك فقط لإرضاء السلطات الحاكمة .

الإباضية بسبب إستقلالها عن المذاهب الأخرى طّورت معتقداتها حسب وجهة نظرها للأمور المتعلقة بالدين نذكر أهمها التي تختلف عن بقية المذاهب :

- مسألة حقيقة الإيمان : الإباضية تعتقد أن النطق بالشهادتين وحده لا يكفي لأن يكون الإنسان مسلما، فالإسلام هو قول وعمل، ولا يتم إسلام المرء إِلاَّ بهما معا ، أما الذي ينطق بالشهادتين ويسلك سلوك مخالف لتعاليم الاسلام فهو بالنسبة لهم ليس مسلما . لهذا فهم يرون أن شفاعة الرسول لن تكون لمن مات وهو مصر على الكبائر, وإنما تكون فقط للمسلمين عامة للتخفيف عنهم يوم الحساب .

- مسألة رؤية الله : الإباضية يرفضون الإعتقاد بإمكانية رؤية الله في الدنيا والآخرة، فحسب إعتقادهم أنه لو أمكن رؤية الله ، لكان الله جسما له شكل ولون وهذا بالنسبة لهم تجسيم وتجزئة لصفات الله ، ويستندون في إعتقادهم على الآية القرآنية " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " فالرؤية عندهم تكون بغير البصر لأن الله أرقى من أن تحدده عين إنسان . في هذا الإعتقاد بإمكانية رؤية الله ، توافق عليه الفرق الإسلامية الشِِّيعة والمعتزلة أما السنَّة والسلفية وغيرهم ، يقولون: إِنَّ رؤية الله ممكنة . وفي أهل السنة اختلفوا على ثلاثة أقوال : الأول : أن الله في الآخرة لا يراه إِلاَّ المؤمنون. والثاني: يراه المؤمنون والكافرون ثم يحتجب عن الكفار فلا يرونه بعد ذلك. والثالث: يراه المنافقون دون الكفار .

- مسألة خلق القرآن : بالنسبة لمذهب الإباضية القرآن الكريم مخلوق كغيره من المخلوقات خلقه الله عز وجل في وقت محدد وهذا الاعتقاد على عكس إعتقاد أهل السنة الذين يعتقدون بأنَّ القرآن الكريم هو كلام الله تكلم به عز وجل وبالتالي فهو صفة من صفات الله ولا يجوز أن يكون مخلوقا.

هذه الإختلافات بين المذهبين في مسألة رؤية الله وخلق القرآن ليست تناقض ، ولكن هو إختلاف في زاوية الرؤية ، فكما شرحنا في مقالات ماضية أن معنى الله مختلف بين المسيحية والإسلام فالمسيحية تقصد بكلمة (الرب) تلك الروح الإلهية التي دخلت الثقب الأسود البدائي ثم استطاعت تكوين الكون ، أما الاسلام فيقصد بكلمة (الله) الذي هو خارج هذا الكون وهوخالق ما داخل الكون وخارجه . فبسبب هذا الإختلاف في القصد من كلمة (رب - الله) نشأت هذه الإختلافات ، هذا الموضوع سنتحدث عنه إن شاءالله في مقالة القادمة عندما ننتقل إلى شرح التيارات الفكرية الإسلامية .

الآن لننتقل إلى الخطوة الثالثة في ظهور الإختلافات ، بعد إغتيال علي عليه السلام ، تم مبايعة ابنه الحسن عليه السلام ليكون خليفة للمسلمين ، ولكن كون الحسن تربية جده محمد وأبيه علي وامه فاطمة صلوات الله عليهم ، وكونه ورث الحكمة منهم ، وكونه يعلم تماما بأن معاوية لن يتخلى عن منصبه مهما كان ، لهذا فضّل التنازل عن الخلافة لمعاوية لحقن دماء المسلمين رغم أن مبايعته كانت على الشروط الصحيحة وليس وراثة عن أبيه . وكذلك من أجل الحفاظ على أن تبقى الأمة الاسلامية دولة واحدة ،لهذا كان أهم شرط في معاهدة الصلح بينهما أن تعود الخلافة له أو لأخيه في حال موته بعد وفاة معاوية ، فبهذا الشرط كان الحسن عليه السلام يأمل أن تنتهي العداوة التي كانت تنتشر وتقوى بين الفريقين بهدوء وسلام ، فحسب اجتهاده أن معاوية سيحكم بضعة سنين ولكن مع موته وحسب الإتفاقية ستعود الخلافة له أو لأخيه وعندها يمكن لأمور الأمة الإسلامية ان تعود إلى صراطها المستقيم .

ولكن الذي حصل أن معاوية استغل فرصة وجوده في السلطة على شؤون الأمة فكان أول ما فعله هو تكوين دولة ديكتاتورية سمحت للاسلام السياسي أن يأخذ نفوذه ليلعب دور حاسم في محاولة تشويه هوية الاسلام ، وحتى يحافظ معاوية على مصالحه ومصالح بني أمية دفع أتباعه إلى تسميم وقتل الحسن عليه السلام ، وإضافة إلى ذلك أنه استخدم اسلوب القمع والإرهاب في حق كل من يمدح أهل البيت ، وأكرم بسخاء كل من يمدحه ويمدح بني أمية ، هذه الظروف التي فرضها معاوية على المسلمين ساهمت في ظهور شيوخ منافقين يكتبون الحديث وينسبوه إلى الرسول ليطعنوا بعلي وأهل البيت وفي الوقت نفسه ليرفعوا مكانة معاوية وبني أمية في نظر المسلمين . فبدأ يحدث في هذه الفترة نوع من تشويه في تعاليم الاسلام . المسلمين شعروا بخطورة ما يحدث والعديد منهم اشتكوا للحسين عليه السلام ولكن الحسين كان يتمهل وينتظر وفاة معاوية لتخرج الخلافة من بني أمية حسب شروط الإتفاقية بين معاوية والحسن عليه السلام ، ولكن الأمور زادت في التدهور نحو الأسوأ عندما نقض معاوية شروط الإتفاقية وولى ابنه الفاسق يزيد ليكون خليفة بعده ، فهاج عدد كبير من المسلمين على هذا القرار ، وطالبوا الحسين بالخروج على يزيد لخلعه من منصبه ، ولكن تهديدات يزيد للمسلمين جعلتهم يخذلوا الحسين عليه السلام ، فكما قال الفرزدق للحسين بعبارته الشهيرة عن وضع المسلمين (قلوبهم معك ، ولكن سيوفهم عليك) . فوجد الحسين نفسه مع شلة قليلة من أهله تتألف من ٧٣ شخص فقط يواجهون جيش يتألف من ٣٠٠٠٠ رجل في معركة كربلاء ، حيث استشهد فيها الحسين واستشهد معه عدد كبير من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاربه .

معركة الكربلاء أو بالأحرى مجزرة الكربلاء تُعتبر بداية لمرحلة هامة جدا في تاريخ الأمة الاسلامية لم ينتبه لها علماء المسلمين حتى الآن . وكما يقول الله في سورة فاطر (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ٤٣) ،فمجزرة الكربلاء في حق أهل البيت أحدَث نوع من الصدمة في المسلمين أدت إلى نوع من التوحيد بين مسلمي العرب الصالحين ومسلمي الفرس الصالحين ، حيث أن المسلمين الذين طالبوا الحسين بالخروج على يزيد ووعدوه بأنهم سيحاربون معه ثم خذلوه كان معظمهم من العرب . ولكن كون شهربانو زوجة الحسين كانت فارسية وحصل لعائلتها ما حصل في مجزرة الكربلاء ، هذا الأمر دفع العديد من مسلمين الفرس الى التعاطف مع أهل البيت والذي أدى إلى تحول شيعة علي من عرب إلى شيعة متنوعة القوميات ليس كعرق ولكن كفكر ، فالفرس بسبب إحتكاكهم مع شعوب بلاد الهند من طرف وباليونانيين من طرف آخر كان قد جعلهم يكتسبوا الكثير من علومهم وحضارتهم ، فكانت مجزرة الكربلاء الخطوة الاولى من انفتاح الاسلام على علوم الحضارات العالمية . فكما ذكرنا في البداية أن دور علي عليه السلام كان تكوين امة اسلامية منفتحة فكريا على جميع الأمم بشكل يدفع الإنسانية في الانتقال إلى مرحلة روحية جديدة ، فزواج الحسين من إمرأة فارسية وكذلك مجزرة الكربلاء وضعت طائفة شيعة علي عليه السلام في هذا الطريق لتستمر به وتنميه .

للأسف بعض علماء السنة اليوم يحاولون الطعن بطائفة الشيعة بسبب إنضمام الفرس لها ، فحسب رأيهم أن طائفة الشيعة ذات نزعة شعوبية فارسية ، وأنهم لا ينظرون نظرة تقوى أي إسلام وكفر , وإنما نظرة قومية أي فرس وعرب ، ويؤكد هؤلاء العلماء على صحة إعتقادهم هذا أن تعظيم الشيعة يحصل فقط لأولاد الحسين دون أولاد الحسن والسبب أن أمه فارسية ، فيرون أن الشيعة أهدافهم قومية سياسية وليست اسلامية . هنا أود أن أقول لأمثال هؤلاء العلماء الضالين من السنة الذين ينظرون للأمور من زاوية اسلام سياسي وليس اسلام ديني ، أن الحسين هو حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وابناءه وأحفاده هم من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم ، فعلى الأقل وجب على هؤلاء العلماء احترام هذه الذرية النبوية التي ورثت علم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فزواج الحسين من شهربانو الفارسية لم يكن زواج متعة ولكن حكمة إلهية لتؤدي شيعة علي هذا الدور الذي تكلمت عنه قبل قليل . فثلاثة من أولاد الحسن (القاسم ، عبدالله ، أبو بكر ) عليهم السلام استشهدوا في مجزرة الكربلاء ، أما زيد والحسين وعمرو وطلحة عليهم السلام فلا يعلم عنهم أحد شيئا ، أين أخبارهم في كتب السنة لا توجد روايات عنهم في كتبهم ، أنا شخصيا بحثت ولم أجد شيئا لأكتب عنهم ، فإذا كان هناك فعلا ظلم تاريخي في حقهم -والله أعلم- فهذا الظلم مسؤولون عنه السنة والشيعة وليس الشيعة فقط . لهذا لا يجوز خلق بدع من هذا النوع لنشر الفتنة بين المذاهب .

لا أحد ينكر أن هناك منافقين فرس اندسوا في شيعة علي ليقوموا بدورهم السياسي - كما فعل أتباع معاوية - فكتبوا أحاديث ونسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ودسوها في كتبهم وحاولوا الغلو بأئمة أهل البيت ، فلا أحد ينكر هذا الأمر ، فمثل هؤلاء المنافقين موجودين في جميع المذاهب وهدفهم نشر العداوة والبغضاء بين المذاهب . ولكن هنا نتكلم عن الفرس المسلمين الصالحين الذين إنضموا إلى أهل البيت بسبب حبهم لهم وإيمانهم بالحق . يقول رسولُ اللهِ "صـلى اللهُ عليهِ و سلـم " : ( لا فرق بين عربي و لا أعجمي و لا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى) . لهذا يجب التفريق بين علماء أتباع المذهب السياسي (المنافقين) وعلماء أتباع المذهب الديني (الصالحين) ولا يجوز الخلط بينهما وإتهام طائفة بأكملها بما ليس فيها . يقول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ... ١٢ الحجرات) . يجب على المسلم العاقل الذي يخاف الله ويبحث عن الحقيقة أن يدافع عن الاسلام أينما كان فهو فوق جميع الإنتماءات المذهبية .

*****************************

الخاطرة ٢٢٣ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢٤

في المقالة الماضية وأثناء شرحنا لخطوات تكوين المذاهب ذكرنا أنه لولا رفض فاطمة الزهراء عليها السلام لخلافة أبو بكر الصديق رضي الله لما عرفنا حقيقة مكانة ودور علي عليه السلام في تكوين الدين الاسلامي والتي تكلمنا عنها في مقالات ماضية ، وكذلك لولا ظهور مذهب الإباضية ، لما عرفنا حقيقة معاوية بن أبي سفيان ، فبقاء مذهب الإباضية حتى اليوم ليس صدفة ولكن حكمة إلهية تؤكد لنا اليوم على أن معاوية كان من كبار الصحابة المنافقين ، ولهذا كثير من المسلمين في عهده شعروا بنفاقه فانضموا إلى مذهب الإباضية ليؤكدوا أنه هناك خلل قد حدث في الأمة الإسلامية على الصعيد السياسي .

وكذلك ذكرنا أن مجزرة الكربلاء التي كان سببها سياسي ليحافظ زيد بن معاوية على منصبه في الخلافة ، قد أحدثت نوع من تعاطف مسلمي الفرس مع أهل البيت وهذا التعاطف قد خلق نوع من التوحيد الفكري بين مسلمي العرب ومسلمي الفرس ، فتحولت علوم الاسلام من علوم تعتمد على علم واحد وهو فقه اللغة العربية ، إلى علوم متفرعة تشمل زوايا رؤية عديدة. وذكرنا في المقالة الماضية أن هذا الموضوع سنشرحه إن شاء الله عندما نتكلم عن ظهور التيارات الفكرية في الحضارة الاسلامية . ولكن هنا سنتابع شرح القسم الديني له لنوضح الخطوة الرابعة في تشكل المذاهب الإسلامية .

بعد تحول الحكم الاسلامي من نظام الشورى إلى نظام ديكتاوري في عهد معاوية ، وبعد مجزرة الكربلاء تحول الوضع في المجتمع الاسلامي إلى مجتمع يخضع إلى سلطة قمع وارهاب في حق أي شخص يتكلم بسوء عن الطبقة الحاكمة أو يقوم بمدح أهل البيت وأتباعهم ، فأخذ عندها الاسلام السياسي يُظهر أبشع وجه يمكن أن يعبر عنه . فبدأت تظهر ثورات قام بها مسلمون في الجنوب والغرب لأنهم رأؤوا أن السلطة الحاكمة قد خرجت عن تعاليم الدين فلم يثقوا سوى بأهل البيت لإعادة الأمور إلى شكلها الصحيح ، ولكن السلطة الحاكمة استخدمت أبشع وسائل القمع في القضاء على هذه الثورات ، وبسبب فشل جميع تلك الثورات وقتل الثائرين بطريقة وحشية ، دب الخوف في نفوس نسبة كبيرة من المسلمين من اسلوب السلطة الحاكمة في ردود فعلها ضد المعارضين لها ، وهذا أدى إلى اعتبار أهل البيت وأتباعهم بانها فرقة منبوذة من المجتمع الاسلامي السياسي وأي محاولة يقوم بها كل مسلم في الإقتراب منهم سيشكل خطر على حياته . ورغم أن الثورة العباسية التي أطاحت بالدولة الأموية قد شارك بها أتباع أهل البيت ، ولكن معظم الخلفاء العباسيين ومن أجل الحفاظ على منصبهم في السلطة تابعوا نفس نظام الدولة الأموية الديكتاتوري . فظل أهل البيت وأتباعهم بين المسلمين كفرقة منبوذة سياسيا في المجتمع الاسلامي ، لهذا نجد علوم أهل البيت وكتبهم قليلة جدا وفيها الكثير من الإضافات التي تم وضعها عمدا بهدف تشويه سمعة أهل البيت لينفر المسلمون منهم ، أو لتجعل أتباع هل البيت وكأنهم من الضالين في نظر المسلمين . هذا الوضع للأسف لا يزال كما هو حتى اليوم . لهذا نجد أن نسبة شيعة علي عليه السلام اليوم أقل من ٢٠ % من أفراد الامة الاسلامية ، والمؤسف له حقا أن نسبة كبيرة من الشيعة قد صدقوا تلك البدع التي وضعها أعداء أهل البيت فجعلوها في عقيدتهم وكأنها من أئمة أهل البيت ، وهذا ما أدى إلى نفور المسلمين منهم .

لهذا عندما نرى اليوم أن طائفة السنة والجماعة تشكل أكثر من ٧٥ % من مسلمي العالم ، هذا لا يعني بأن نسبتهم الكبيرة سببها أنها الأصح ، ولكن يعني أن نسبتها الكبيرة سببها الحقيقي هو اضطهاد السلطات الحاكمة لأتباع أهل البيت وكذلك أن قسم كبير من السنة قد أخذوا من علماء كانوا موالين للسلطات الحاكمة التي كانت تبغض أهل البيت .

يقول الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ١٥٩ البقرة) وعلى كل باحث يبحث عن الحقيقة عليه أن يعرض أبحاثه لإظهار الحق ليراها الناس فهو مسؤول أمام الله يوم القيامة عما فعله في هذه الفترة التي نعيشها اليوم حيث الاسلام السياسي بدأ يلعب دور خبيث في تمزيق الأمة الاسلامية ، لهذا أتمنى من القراء أن لا يسيئوا فهم ما أكتبه ، فهدف مؤلفاتي هو إظهار الحق أينما كان ، فأنا انتمي إلى عائلة سنية ودرست في مدارس سنية ، وما أقوم به هو نقد ذاتي وأتمنى من كل شيعي يخاف الله أن يبحث ويقوم هو أيضا بنقد ذاتي لطائفته ، فالحضارات تولد عندما يقوم أفرادها بالنقد الذاتي ، أما إنحطاط الأمم فيبدأ عندما يكون النقد في الخصم فقط ، وهذا ما يحصل اليوم عند معظم علماء المسلمين في جميع المذاهب حيث علماء كل مذهب يتكلمون فقط عن أخطاء المذاهب الأخرى وكأن مذهبهم هو فقط الصحيح ، ولهذا الأمة الاسلامية اليوم تعاني من أنحطاط في جميع المجالات ، وطالما أن طائفة السنة والجماعة هي الطائفة الكبرى ، لذلك فمن الطبيعي أن يقع عليها أكبر نسبة من المسؤولية عن هذا الإنحطاط . فلو أن الطائفة الكبرى كانت على حق في كل شيء لكانت الأمة الاسلامية اليوم من الأمم المتقدمة ، فليس من المعقول أن تستطيع فئة صغيرة ضالة أن تدمر أمة كبيرة صالحة ، هذا الاستنتاج شيء بديهي لا يرفض صحته أي إنسان عاقل يفكر بطريقة علمية سليمة .

هنا قد يعترض بعض القراء فيقول أنه طالما أن الطائفة الكبرى هي المسؤولة عن إنحطاط الامة الاسلامية اليوم ، فهذه الطائفة كانت أيضا هي الطائفة الكبرى في عهد الحضارة الاسلامية ، فهذا يعني أنها هي سبب ازدهار هذه الحضارة . وجوابي على هذا الرأي أن الأمر مختلف تماما ، ففي ذلك الوقت كانت نفوس المسلمين كما وصفها الفرزدق عندما أخبر الحسين عليه السلام قبل معركة الكربلاء (قلوبهم معك ، ولكن سيوفهم عليك) ، فالطائفة الكبرى في ذلك الوقت كانت قلوبهم مع أهل البيت لهذا كانت مختلفة في سلوكها عن طائفة اليوم ، فالوضع اليوم أن قلوب مسلمي السنة ليست مع أهل البيت ، لأنهم لا يعلمون عن علوم أهل البيت شيئا ، لهذا نرى انه كلما حاول عالم سني أن ينقد معاوية بن سفيان مثلا ، يهاجمونه ويتهمونه بأنه شيعي ورافضي ، ولكن الحقيقة هي أن معاوية كان من أشد الناس بغضا لأهل البيت ، فطالما أن السني يدافع عن معاوية فهو في نفس الوقت يسيء للرسول صلى الله عليه وسلم ويسيء لأهل البيت . فالحديث الشريف يقول " إني تاركٌ فيكم ثَقلينِ: أوَّلهما: كتاب الله، فيه الهُدى والنُّور؛ فخُذوا بكتاب الله، واستمسكوا به ، والثاني أهل بيتي، أُذكِّركم الله في أهل بيتي ، أُذكِّركم الله في أهل بيتي ، أُذكِّركم الله في أهل بيتي " ، معاوية منع كل مسلم من ذكر فضائل أهل البيت ، وهذا المنع لا يزال يطبق حتى اليوم في طائفة السنة بطريقة غير مباشرة ، ولكن النتيجة هي نفسها فمسلمي أهل السنة العامة لا يعلمون شيئا عن علوم أهل البيت بينما الحديث الشريف يقول " أذكركم الله في أهل بيتي " فمن أين ستأتي كرامات الرسول صلى الله عليه وسلم على الأمة الاسلامية طالما أنهم لا يذكرون أهل بيته الذين ورثوا علمه وصفاته ليفهم المسلمون حقيقة هذا العلم وهذه الصفات . الأمور لا تحتاج إلى ذكاء لفهم ما يحصل اليوم فكل باحث يقوم بتحليل شامل لما يحصل اليوم سيصل إلى هذه النتيجة ، فلا شيء يحدث صدفة ولكن لكل سبب نتيحة تعبر عن سببها .

كما ذكرنا قبل قليل أن أسلوب نظام السلطة في الدولة الأموية والعباسية بشكل عام خلق نوع من التمزيق بين العلماء المسلمين ، فظهر علماء صالحين يبحثون عن الحق ، وعلماء منافقين موالين للسلطة الحاكمة ، ولكل نوع من العلماء كان لهم أتباعهم ، العلماء الصالحين أخذوا علومهم من أهل البيت ، وحاولوا تدريسها لتلامذتهم بدون أن يشيروا إلى مصدرها حتى لا يتم اتهامهم بأنهم شيعة .

فإذا بحثنا في أصل المذاهب الأربعة في طائفة السنة والجماعة سنجد أن أصلها من علوم أهل البيت ، فالأمام أبي حنيفة النعمان ( صاحب مذهب الحنفي) قد أخذ علومه من أهل البيت : زيد بن علي زين العابدين ومحمد النفس الذكية وأخوه ابراهيم ثم من جعفر الصادق عليهم السلام . أما الإمام أنس بن مالك (صاحب المذهب المالكي ) فأخذ علومه من جعفر الصادق عليه السلام . أما الإمام محمد بن إدريس الشافعي ( صاحب مذهب الشافعي ) فقد أخذ علومه من مالك بن أنس وتلميذ ابي حنيفة محمد بن الحسن الشيباني الذين أخذوا علومهم من أئمة أهل البيت . وكذلك الأمام أحمد بن محمد بن حنبل (صاحب المذهب الحنبلي) فقد أخذ علومه من الشافعي الذي أخذ علومه من أهل البيت . فنسبة كبيرة من علوم المذاهب الأربعة في طائفة السنة أتت من علوم أهل البيت ولهذا كتب الله لها البقاء حتى الآن . فوجودها حتى اليوم هو حكمة إلهية لها معنى أن رغم سياسة القمع التي عانى منها أهل البيت في ذلك الزمان ولكن ومع ذلك استطاع أهل البيت بخطة إلهية أن يؤدوا عملهم على أكمل وجه . ولهذا نجد أن جميع المذاهب تعتمد على أهم تعاليم الإسلام ، ولا يوجد أي تناقضات بينها ولكن فقط إختلافات ، فهذه الاختلافات هي بسبب اختلاف زوايا الرؤية للموضوع ، أما تلك التناقضات الموجودة بين المذاهب فهي ليست من علوم أئمة أهل البيت ولكن من علوم العلماء الذين حاولوا تفسير علومهم بطريقة تناسب أهواء السلطة الحاكمة . وللأسف علماء اليوم سواء كان عن جهل أو عن عمد يستخدمون هذه التناقضات في محاولة التفريق بين المذاهب .

الذي يحصل اليوم أن مسلمي الطائفة الكبرى عندما يسمعون أسم طائفتهم (السنة والجماعة) يشعرون بشيء من الفخر ، فالمعنى الظاهري لهذه التسمية فعلا يدعوا إلى الفخر ، فمصطلح ( السنة والجماعة) يبدوا انه أفضل وأجمل بكثير من تسمية (شيعة) لأن كلمة شيعة تعني فرقة صغيرة ، بينما تسمية (السنة والجماعة) لها معنى أجمل ، فكلمة (السنة) تعني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجماعة تعني الإجماع ، أي الشورى بين الجميع لأختيار الاجتهاد الأفضل لحل مسألة من المسائل . ولكن الحقيقة ليست كذلك بالضبط ، ولهذا لم يقتنع أتباع بقية المذاهب بها فظلت متمسكة بمذهبها ، فإذا بحثنا بعمق في مضمون مصطلح (السنة والجماعة) كما يطبقه علماء المسلمين اليوم سنجد أن الظاهر من هذه التسمية شيء والمضمون شيء آخر ، وسنجد أيضا أن مضمون هذه التسمية أصبح يتغير مع مرور الزمن مما ساهم في تشويه هوية الدين الاسلامي . وسنحاول شرح هذه الفكرة بنوع من التفصيل :

مصطلح (الجماعة) والذي يعني إجماع العلماء على صحة الرأي ، لا يمكن تطبيقه في في جميع الظروف ، فمثلا في مجتمع مدمن على المخدرات سيكون رأي الجماعة السماح بتجارة وتعاطي المخدرات ، وهذا الإجماع مرفوض لأنه يضر بمصلحة المجتمع . وكذلك لو تم أخذ رأي الجماعة في مجتمع قريش في زمن البعثة النبوية لظلوا على ديانتهم القديمة ولما ظهر الاسلام . لهذا فإن مصطلح (الجماعة) في مجتمع جاهل يتحول إلى مصطلح ساذج لا معنى له . وهذا ما يحصل اليوم ، حيث نرى أن جميع المذاهب الأخرى تؤكد على أن معاوية بن سفيان كان صحابيا منافقا ، أما الطائفة الكبرى اليوم فهي فقط التي تعارض هذا الرأي لأنها أخذت آراء علماء موالين للسلطة الحاكمة في الدولة الأموية والعباسية ، هنا لا يمكن ان نأخذ برأي طائفة السنة والجماعة كونها الطائفة الكبرى لأنها على خطأ ، فمعاوية عند الله هو زعيم أتباع روح الكلب وقد ذكرت في الجزء (١٨) حقائق إلهية تؤكد على ذلك .

أما بالنسبة لمصطلح ( السنة) فمفهوم هذه الكلمة كما هو في الطائفة الكبرى يعارض تعاليم الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة . فحسب رأي علماء الطائفة الكبرى ، أن المقصود بمصطلح (السنة) هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين ومن اتبعهم باحسان . بينما نجد أن منهج جعفر الصادق عليه السلام الإمام السادس من أهل البيت والذي كان من أعظم علماء الاسلام في زمانه باعتقاد جميع علماء المذاهب دون أي استثناء ، نجده قد أضاف أمراً أساسيّاً ، وهو الاخذ بآراء أئمة أهل البيت وما يترتب عليه من تقييم للصحابة وفتاواهم وأحاديثهم واجتهاداتهم بحسب مواقفهم من آل البيت . فمحبة أهل البيت هو من أهم تعاليم سنة الرسول لأنهم هم من ورثوا أكبر نسبة من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم . هناك رواية توضح موقف علي عليه السلام من هذا الموضوع ، فبعد وفاة عمر بن الخطاب رضي الله ، عندما انتهت الشورى لإختيار الخليفة وكانت الأمور قد وصلت إلى اختيار رجلين وهما علي عليه السلام وعثمان رضي الله عنه ، نجد عبد الرحمن بن عوف يصعد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلب من علي أن يأتي المنبر ليسأله : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ فرد عليه علي عليه السلام (لا) ، أما عثمان فقال (نعم) فذهبت الخلافة إلى عثمان . فكان بإمكان علي عليه السلام ان يقول نعم ليستلم الخلافة ، ولكنه رفض لأن عبد الرحمن بن عوف اضاف إلى سنة الرسول عبارة " وفعل أبي بكر وعمر" وهذا يخالف تعاليم الدين الاسلامي ، فما فعله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لا يمكن تشريعه ، فإذا أضاف العلماء اجتهادات كل خليفة إلى شرائع الدين سيتحول الدين بعد فترة إلى دين مختلف نهائيا عن دين محمد صلى الله عليه وسلم، لأن اجتهادات الصحابة هي آراء والفقه بالرأي مرفوض ولا يجوز تشريعه ، لأن جميع الصحابة كانوا قد عاشوا في مجتمع جاهلي يعاني من تخلف في جميع المجالات العلمية ، والإجتهادات في سنة الله ورسولها تحتاج إلى رجال علم ، وأهل البيت كانوا هم فقط الذين ورثوا أكبر كمية من علم الرسول لأنهم أخذوا جزء من روحه في تكوينهم ولأنهم أيضا كانوا تربيته وليس تربية المجتمع الجاهلي . علوم الدين ليست بهذه البساطة التي يظنها علماء المسلمين ، وفهم سنة رسول الله يحتاج إلى علوم لا تأتي عن طريق رؤية الرسول لفترة زمنية معينة حتى يستطيع جميع الصحابة اكتسابها لتحل مكان مخلفات المجتمع الجاهلي ، لهذا كانت الحكمة الإلهية أن ينتقل هذا العلم بالوراثة إلى ذرية الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالله عز وجل اختار محمد ليكون رسوله ونبيه لأن محمد صلى الله عليه وسلم كان له تكوين روحي مختلف عن جميع البشر في ذلك الوقت ، لهذا كانت سنة رسول الله تحوي في داخلها سنة الأنبياء والرسل من قبله ، بينما الصحابة لم يكن لهم أي علم بهذه السنة ، يقول الله عز في سورة النساء (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ١٦٥) ، ويقول عز وجل قبل هذه الآية (لَّٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ۚ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ۚ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ١٦٢) ، الراسخون في العلم في بداية الاسلام هم من حملوا سنة الرسل منذ ولادتهم ، يقول الحديث الشريف "إنَّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق" ، الأخلاق هي سلوك الإنسان في كل شيء يفعله في حياته وكل شيء يفعله الإنسان لا يفعله صدفة ولكن يفعله حسب نوع العلم الذي يحمله ، فأصل العلم مرتبط بالتكوين الروحي للإنسان ، لذلك لا يمكن مقارنة أي صحابي كتكوين روحي مع ذرية رسول الله لأن الصحابة ورثوا تكوينهم الروحي من آبائهم الذين أخذوا تكوينهم من المجتمع الجاهلي ، أما أهل البيت فورثوا تكوينهم الروحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان خاليا تماما من شوائب الجاهلية . لهذا لا يمكن أن نأخذ اجتهادات الصحابة ونضعها في الشريعة الاسلامية إذا كانت لا توافق اجتهادات علي أو أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم. فعلم اللغة العربية الذي كان علم الصحابة والتابعين لا يكفي في الإجتهاد . لهذا كانت الحكمة الإلهية أن تجعل أصل جميع المذاهب الاسلامية من علوم ذرية رسول الله رغم أن مسلمي الطائفة الكبرى لا يعلمون عنهم شيئا . فسبب انحطاط الأمة الاسلامية حتى اليوم قد حدث عندما بدأت المذاهب تبتعد عن علوم أهل البيت بسبب إضافة اجتهادات خاطئة من علماء إما لأنهم كانوا موالين للسلطات الحاكمة أو لأنهم كانوا لا يعلمون شيئا عن مراحل تطور سنة الأنبياء والمرسلين .

خلاصة الحديث أن مصطلح (السنة والجماعة) في مضمونه يتعارض في نقاط كثيرة مع سنة الله ورسوله . أيضا جميع المذاهب اليوم تعاني من نفس المشكلة ، لهذا فجميعها تحتاج إلى تصحيح وهذا التصحيح لا يمكن أن يحصل إلا بتعاون جميع المذاهب مع بعضها البعض . لأن الله ترك في كل مذهب حكمة إلهية تعبر عن حقيقة الاسلام .

في هذه المقالة أخترنا لكم مثال نعرضه عليكم لنبين لكم بعض نقاط الضعف في طائفة (السنة والجماعة ) كما هي اليوم ولنبين لكم مدى انحطاط علوم علماء المسلمين اليوم ، وسنذكر فيه مثال عن اجتهادات العلماء في مسألة الخلاف بين السنة والشيعة . في هذا المثال سنتكلم عن رأي الشيخ الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف الذي شغل منصب مفتي الديار المصرية خلال الفترة من 2003 إلى 2013 . والذي أيضا تم اختياره ضمن أكثر خمسين شخصية مسلمة تأثيرًا في العالم للأعوام الأخيرة . ويمكن لجميع القراء الذهاب إلى الفيديو المنشور في الانترنت لتأكد من صحة ما أكتبه لكم عنه هنا :

- في البداية أول ما سنلاحظه في أسلوب الدكتور علي جمعة وهو يتكلم عن الشيعة هو أسلوبه الساخر ، ففي عدة مواقف نرى الحضور يضحك من سذاجة معتقدات الشيعة كما يشرحها الدكتور علي جمعة لهم . أولا أسلوب السخرية من الخصم مخالف لتعاليم الاسلام ، فكل شيعي سيرى هذا الفيديو سيغضب ويشعر بالحقد على الدكتور وعلى طائفته بسبب اسلوبه الساخر في كلامه عن الشيعة . السخرية من الخصم تؤدي إلى البغض والعداوة لهذا نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تصوروا أكبر أستاذة الأزهر لا يتقيد بأهم مبدأ من تعاليم الاسلام وهو حسن المجادلة .

- ثانيا : الدكتور علي جمعة نجده يختار ويذكر أسم أسوء عالم شيعي عند الشيعة وهو ياسر الحبيب ، وكأن الدكتور علي جمعة يقول لمسلمي السنة بأن أراء ياسر الحبيب هي عقائد مذهب الشيعة . الشيخ علي الجمعة بهذا السلوك يستخدم أسلوب الخداع ليضل مسلمي السنة عن الحقيقة لينمي بهم الكراهية لأتباع مذهب الشيعة ، فالحقيقة هي أن معظم علماء الشيعة يهاجمون ياسر الحبيب ويتهمونه بانه يشوه تعاليم مذهب الشيعة . لماذا الدكتور علي جمعة لم يذكر أسم الشيخ الشيعي ياسر عودة مثلا الذي يقوم بنقد ذاتي في خطاباته فيذكر تلك البدع التي يقوم بها شيعة اليوم وتخالف تعاليم مذهب الشيعة ليعرف المسلم السني مذهب الشيعة على حقيقته لا كما يعرضه علماء السنة ، فكل مسلم سني سيسمع كلام هذا الشيخ سيشعر أن المذهب الشيعي أيضا فيه نور الله ، وأنه لا يجوز ظن السوء به .

- ثالثا : الدكتور علي جمعة في هذا الفيديو يفسر عقائد الشيعة بشكل ساذج بعيد نهائيا عن الشكل الحقيقي لها ، فالمسائل التي اختارها الدكتور كأهم أسباب خلاف السنة مع الشيعة هي خمسة : تحريف القرأن ، التقية ، حقيقة الصحابة ، عصمة الأئمة ، والبداءة .

-مسألة تحريف القرآن : فهو يقول أن الشيعة تؤمن بتحريف القرآن ، بينما الحقيقة أن معظم علماء الشيعة يرفضون فكرة تحريف القرآن ولكن بعضهم يقصد تحريف تفسيره ، فإذا كان هناك بعض المتطرفين يؤمنون بتحريف القرآن ، فلا يجوز إتهام الطائفة بأكملها طالما أن عقيدة الشيعة لا تؤمن بتحريف القرآن .

- مسألة التقية : يقول الدكتور علي جمعة أن الشيعة تؤمن بعقيدة (التقية) والتي تعني أنه يحق للمسلم الشيعي أن يكتم إيمانه إذا رأى أن إيمانه سيعرض حياته للخطر ، فهذه العقيدة ظهرت في الشيعة بسبب ظروف القمع والاضطهاد التي فرضتها السلطات الحاكمة في عهد الدولة الأموية والعباسية على اتباع أهل البيت لذلك خوفا على أنفسهم اضطروا استخدام التقية لينقذوا أنفسهم من التعذيب أو القتل ، فهكذا أيضا فعل المسيحيين في القرون الثلاثة الأولى من ظهور المسيحية بسبب الإضطهاد الروماني لهم ، فمبدأ التقية هو سلوك إنساني لا يخالف تعاليم الدين ، فأين المشكلة هنا . ولكن الدكتور علي الجمعة يذهب ويفسر مبدأ التقية وكأنه يشابه مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) ويتهم الشيعة بتشريع الكذب ، فإذا كان بعض المتطرفين في الشيعة قد استخدموا التقية بهذا الشكل لتحقيق مصالحهم السياسية ، لا يجوز تعميمها على الشيعة بأكملها . والعالم الحكيم هو الذي يرى التقية في عقائد الشيعة كحقيقة إلهية تؤكد على أنه في الماضي كان يوجد بغض من السلطات الحاكمة في الدولة الأموية والعباسية لأهل البيت .

- مسألة الصحابة : جميع الصحابة حسب اعتقاد طائفة السنة يستحقون التبجيل والإحترام والقداسة ، بينما الشيعة تعتقد بأن هذا التعميم لا يجوز لأنه كان يوجد صحابة منافقين ، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان مثلا. والشيعة هنا لديها بعض الحق ، وهناك بعض علماء السنة يتفقون معهم في هذا الموضوع . فربما علماء السنة في الماضي كان لديهم حق في تبجيل الصحابة ورفض مبدأ الطعن بهم وشتمهم وذلك بسبب صعوبة تحديد درجة إيمان كل صحابي ، ففي ذلك الوقت كان مستوى علوم المسلمين منخفض عاجز عن تقييم حقيقة سلوك كل صحابي ، ولكن اليوم فالأمر مختلف ، فاليوم العلوم وصلت إلى مستويات عالية وخاصة علم النفس فالتطور العلمي اليوم يسمح للعلماء في البحث بشكل شامل لتحديد نتائج تأثير أعمال الصحابة المشهورين على تطور الأمة الاسلامية ليحدد دور كل صحابي مشهور في هذا التطور سواء كان إيجابي او سلبي . فلوا قمنا اليوم بعرض جميع الروايات التاريخية التي تتحدث عن معاوية بن أبي سفيان على جميع علماء النفس سنجد جميعهم سيؤكدون بأن معاوية كان انسانا منافقا وأنه كان يضع مصلحته الشخصية فوق كل شيء ، لهذا لا يجوز اليوم على اي عالم مسلم ان يمدح معاوية ويذكر بعد اسمه عبارة (رضي الله عنه) ، عندها سيظن المسلم العامي انه كان مؤمنا فيفعل ما فعله معاوية .

- مسألة عصمة أئمة أهل البيت : فحسب رأي علماء السنة بأنهم أئمة غير معصومين لأن العصمة لا تجوز إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أيضا لا يعارض رأي علماء الشيعة بهذا المفهوم ، فالعصمة المقصودة عند الشيعة هي أن الأحاديث والرويات التي ذكرها الأئمة هي معصومة عن الأخطاء لأنها نُقلت من ذرية النبي ولا يمكن الشك بمصداقيتها ، بعكس تلك الأحاديث التي نقلها بعض الصحابة والتابعين المشكوك في أمرهم ، وخاصة تلك الأحاديث التي منحت الحق لمعاوية وبني أمية لتشريع سطوهم على الخلافة . وهناك امر آخر وهو أن علوم أئمة أهل البيت قد أتت من علوم الرسول صلى الله عليه وسلم التي علمها لعلي وبنته فاطمة عليهما السلام ، لهذا فإن درجة صحتها أكبر بكثير من صحة جميع اجتهادات الصحابة في أمور الدين ولهذا لا يجوز الطعن فيها من قبل علماء لهم مستوى من العلوم أقل من مستوى علوم أئمة أهل البيت . فالعصمة في الأئمة كمبدأ بهذا المفهوم يوجد فيه بعض الحق عند الشيعة ولا أحد يستطيع أنكاره ، فإذا تم تشويهه من بعض المتطرفين من الشيعة فرفعوا درجة العصمة في أئمة أهل البيت لمستوى عصمة النبي ، فهذا لا يلغي صحة المبدأ كما شرحناه ، لذلك لا يجوز لأي عالم سني استخدام مبدأ العصمة للطعن بمذهب الشيعة ، ولكن يجب توضيحه لتأخذ به جميع المذاهب .

- مسألة البداءة : الدكتور علي جمعة فسر البداءة بجملة واحدة قائلا أن معنى البداءة هو أن الله يغير رأيه (بدا له فغير رأيه) . ولكن في الحقيقة مبدأ البداءة عند الشيعة هو موضوع فلسفي معقد ويحتاج شرح طويل لفهمه ، وكثير من الفلاسفة المسلمين يوافقون على صحة هذا المبدأ ، فمبدأ (البداءة) عند الشيعة لا يتعلق بعلم الله كما يظن علماء السنة الذين ينكرون صحته مباشرة ، ولكن يتعلق بقانون كوني وضعه الله عز وجل والذي للأسف حتى علماء الشيعة بسبب قلة علمهم لا يستطيعون شرحه بشكله الحقيقي ليستفيد منه الفلاسفة وعلماء الفيزياء الكونية في فهم عمل الكون . هنا سنحاول شرحه بشكل مختصر جدا ، فمبدأ البداءة يقول أن الإنسان غير مسير كبقية الكائنات الحية أي ان الله لا يكتب مصير الإنسان في حياته عند ولادته ، فالله خلق له عقل ليحدد الإنسان مصيره بنفسه ، فالإنسان هو الذي يختار لنفسه الطريق الذي سيسلكه في حياته سواء كان طريق الصلاح أو طريق الضلال ، فبدون مبدأ البداءة يصبح الإنسان منذ ولادته مقيد بما فطره الله عليه ، وهذا يعني أن الكافر ولد كافرا ، والصالح ولد صالحا ، أي أن الله هو الذي حدد مصيره منذ الولادة ، فهل هذا معقول ؟ إذن لماذا يوجد يوم الحساب طالما أن مصير الإنسان قد حدده الله له منذ ولادته ، أين العدالة الإلهية في هذا الموضوع ، طالما أن الكافر قد ولد كافرا وسيبقى كافرا طوال حياته ، فما هو ذنبه أن يكون في النار خالدا فيها . طبعا هذا لا يقبله أي إنسان عاقل . مبدأ البداءة يجب أن يُفسر كقانون إلهي كوني كما يُحاول أن يفسره علماء الشيعة وليس كما يفسره علماء السنة بأنه له علاقة بعلم الله . وإذا كان بعض علماء الشيعة قد شوهوا معناه فيجب توضيحه لا إلغائه كمبدأ .

القارئ يستطيع أن يذهب إلى الإنترنت ليقارن بين تفسير علماء السنة لهذه المسائل الشيعية التي شرحناها ، وبين تفسير علماء الشيعة لها ليجد كم هناك تحريف في شرح علماء السنة لهذه المسائل ، وأنا فعلا أستغرب وأكاد لا أصدق أن عالم ديني بحجم الدكتور علي جمعة الذي يعتبر من أكبر علماء الأزهر ، يمكن أن يكون تفسيره للأمور الدينية بهذا المستوى العلمي الساذج ، فاسلوبه في تفسير الأمور مطابق للأسلوب الذي يتبعه علماء الاسلام السياسي الذين يستخدم الغش والتزوير ليحققوا أهدافهم ، والذي للأسف معظم علماء السنة يستخدمون نفس الاسلوب الساذج ليقنعوا مسلمي السنة بأن الشيعة طائفة ساذجة . ولا أقصد هنا أن علماء الشيعة افضل من علماء السنة في هذا المجال فهؤلاء أيضا فيهم الكثير من العلماء يستخدمون اسلوب الاسلام السياسي الساذج لينموا الكراهية والبغضاء بين المذاهب . ولهذا كان من الشيء الطبيعي أن نجد بفضل امثال هؤلاء العلماء في جميع المذاهب أن الدين الإسلامي اليوم قد تحول إلى دين سياسي متخلف علميا لا علاقة له نهائيا بدين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي صنع حضارة عريقة كان لها فضل كبير في تطوير الإنسانية.

ما يجب ان نعلمه أنه في الماضي استطاع المسلمون تكوين حضارة عريقة لأن النسبة العظمى فيهم كان إيمانهم أصله من علوم أهل البيت ، أما اليوم فالنسبة العظمى من المسلمين قد تخلوا عن علوم أهل البيت واتبعوا اجتهادات علماء لم يأخذوا من علوم أهل البيت شيئا ، فتشوهت جميع المذاهب وأفضل مثال على هؤلاء هو ابن تيمية الملقب بشيخ الاسلام . لهذا يمكننا القول هنا أن محاولة تقارب المذاهب الاسلامية هو واجب على كل عالم مسلم يخاف الله ، فعملية تقارب المذاهب ليست مستحيلة كما يتصورها علماء اليوم ، ولكن المشكلة في تحقيقها أن هذه المحاولة تحتاج إلى علماء حقيقين وليس علماء مطففين يعانون من ضعف البصيرة . فأكبر مشكلة تعاني منها الأمة الاسلامية اليوم هي أن أكثر علماؤها يعانون من قلة العلم ، والله عز وجل وضع لنا حقيقة إلهية في يومنا هذا تؤكد على صحة هذا الرأي ، انظروا إلى معدل قبول الجامعات في بلادكم (الصورة) ستجدون أن معدل قبول كلية الشريعة الاسلامية هو عادة في أسفل القائمة ، فهذه حقيقة تعني ان طلاب كليات الشريعة هم من الفئة الفاشلة في الدراسة ، لهذا كان من الطبيعي ان يفشل علماء الشريعة في اصلاح مشاكل المجتمع الاسلامي الروحية . هذه حقيقة إلهية لا يستطيع أحد انكارها ، فمكانة كلية الشريعة بين الكليات هي التي تحدد مستواها العلمي . يجب أن يعلم كل مسلم أن كلية الشريعة تبحث في كلام الله الذي يعتبر من أرقى العلوم ، وكل من يريد أن يبحث في كلام الله يجب أن يكون متفوقا في جميع العلوم ليحصل على علوم شاملة قادرة على رؤية الشيء من جميع زواياه ، لهذا فحتى يتم اصلاح وضع الأمة الاسلامية يجب أن يكون معدل قبول كليات الشريعة في أعلى القائمة وليس أسفلها كما يحصل اليوم . فعلى الاقل يجب احترام مكانة هذا الدين الذي يلعب أكبر دور في تحديد سلوك المسلمين . اليوم أرواح ملايين من الأطفال المسلمين البريئة وهي ترى ما يحدث في بلادها من دمار ووحشية وعنف بسبب الحروب الأهلية أصبحت تشعر أن دين الشيطان هو الذي يسيطر على بلادهم وليس دين الاسلام ، متى ستسمعون أصوات هذه الأرواح البريئة يا مسلمين ؟

وسوم: العدد 829