الخاطرة ٢٢٤ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢٥

خواطر من الكون المجاور الخاطرة 

في المقالات الأخيرة الماضية تكلمنا عن الأحداث التاريخية التي ساهمت في ظهور المذاهب ، اليوم إن شاء الله سنبحث في فلسفة ظهور المذاهب لنوضح الحكمة الإلهية في ظهورها ، فأكبر مشكلة تعاني منها أبحاث علماء المسلمين في موضوع ظهور المذاهب أنهم نظروا إلى تلك الأحداث التاريخية وكأنها قد حدثت بالصدفة ، وفي تفسيرهم لهذه الأحداث ينظرون إليها من زاوية ضيقة لا تكشف الحقيقة الكاملة لمضمون كل حادثة ، فيحاولون أن يربطوا سبب المشكلة بأشخاص وليس بوضع المجتمع الروحي . فكما ذكرنا في مقالات ماضية ، أن الله عز وجل يستخدم تاريخ الإسلام كرمز يعبر عن تاريخ الإنسانية بأكملها ليساعدنا على فهم الطبيعة الروحية للإنسانية ومراحل تطورها عبر العصور المختلفة ، وكذلك ليساعدنا في فهم نوعية الصراع المستمر بين روح الخير العالمية وروح السوء العالمية . لهذا عندما نقرأ كتب تاريخ الأمة الاسلامية نجد أن اسلوب العنف والوحشية في أحداثه يشابه كثيرا تاريخ بقية الأمم ، فرغم أن بعض العلماء يحاولون إظهار الأمة الاسلامية في مراحل تكوين الأمة الاسلامية وكأن المسلمين كانوا كالملائكة في سلوكهم كما تعلمناها في مرحلة التعليم الإبتدائي ، ولكن الحقيقة مختلفة تماما لأن روح السوء كانت موجودة وكانت تحاول استخدام بعض المسلمين في تشويه الدين الاسلامي ومنعه من الإنتشار ، والله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة التوبة " وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ.... ١٠١" . فمنذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوجد مسلمون منافقون يخفون نفاقهم . فروح السوء العالمية منذ ذلك الوقت كان لديها خطة ، ولهذا كانت روح الخير العالمية هي أيضا لديها خطة ليسير المخطط الإلهي كما كتب الله له . ولكن اليوم معظم علماء الدين ينظرون إلى موضوع انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة وكأنه نوع من إنشقاق وتمزيق الأمة الاسلامية ، فيتهم كل طرف الطرف الآخر بالضلال ، ولكن هذا غير صحيح ، وهنا في هذه المقالة سنبحث في موضوع ظهور المذاهب كخطة إلهية منعت روح السوء من تحقيق مخططها . وهذا تماما ما حصل في عصر الحضارة الإسلامية منذ ظهور الاسلام وحتى دخوله في عصر الانحطاط بعد ستة قرون .

كما ذكرت في مقالات عديدة ماضية ، بأن أبحاثي لا تعتمد على ما تكتبه الأيدي البشرية ، فكل إنسان يكتب الأحداث التاريخية على مزاجه وعادة في تفسيرها يكون واقعا تحت تأثيرات إنتماءاته الشخصية ، والله فقط هو الأعلم بحقيقة هذه الإنتماءات وصحة ما يكتب ، ولهذا نجد أن الأحداث التاريخية في كتب التاريخ مذكورة بأشكال عديدة تتناقض مع بعضها البعض . فأي نسخة هي الصحيحة العلم عند الله . لهذا أبحاثي تعتمد فقط على تلك الحقائق الإلهية التي وضعها الله كرموز في كل حدث لتفسر لنا معناه الحقيقي ليساعدنا في فهم حقيقة كل حدث وعلاقته في تطور الإنسانية ، وهنا سنحاول شرح الخطة الإلهية في ظهور المذاهب إعتمادا على تلك الحقائق الإلهية التي وضعها الله في مراحل تكوين الأمة الاسلامية والتي لم ينتبه علماء الاسلام لوجودها لأن الله وضعها كرموز ، ولكن العلماء المسلمين نظروا إليها وكأنها أشياء حصلت بالصدفة :

- الأمة الاسلامية بدأت بنبي أمي ، يقول الله عز وجل في سورة الأعراف (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ...... ١٥٧) . الله عز وجل في هذه الأية يصف نبيه بكلمة (أمي) ، العلماء المسلمين فسروا هذه الكلمة بمعناها الحرفي فقط والتي تعني أن رسول الله لم يكن يعرف القراءة والكتابة ، فرسول الله كان فعلا في زمن البعثة النبوية لا يعرف الكتابة والقراءة ، ولكن لو تمعنا في أول حادثة في تكوين الأمة الاسلامية عندما نزل الوحي على النبي ، فكما تذكر جميع المصادر التاريخية أن جبريل عليه السلام قال للنبي : إقرأ ، فأجابه : ما أنا بقارئ ، ولكن جبريل أصر على النبي أن يقرأ مرة ثانية وثالثة . .. والسؤال هنا : لماذا جبريل يؤكد إصراره على النبي ثلاث مرات ؟ فمن المستحيل ان يكون جبريل الذي نزل على النبي ليبشره بالنبوة لا يعلم أن النبي لا يعرف القراءة والكتابة ، فهذا يعني أن جبريل كان يقصد من إصراره شيئا آخر لذلك طلب من النبي ثلاث مرات أن يقرأ ﻷنه يعرف تماما أن الرسول لا يجيد القراءة والكتابة ، وتفسير الأمر في هذه الحالة أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة لله كان يعرف القراءة لذلك قال له جبريل إقرأ، فالمقصود بكلمة (أمي) المذكورة في القرآن الكريم ليس لها علاقة بالقراءة العادية المادية ولكن القراءة الروحية التي ترى مضمون اﻷشياء أي البصيرة ،.فرسول الله كان أميا في القراءة المادية ولكن المقصود بكلمة (أمي) المذكورة في القرآن مصدرها كلمة (أم) ، والمقصود منها (حواء) أم الإنسانية بأكملها . فاسم الكتاب المقدس المسيحي (انجيل) كما شرحنا معناه بشكل مفصل في مقالات ماضية له معنى باللغة اليونانية ( قراءة حواء) . فكلمة ( أمي) تعني أن التكوين الروحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو من تكوين حواء التي استطاعت تطهير نفسها من جميع شوائب تلك الخطيئة التي سببت طرد الإنسان من الجنة لأنها فقدت البصيرة ، ولهذا كان رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين لأن روح حواء الطاهرة في تلك الفترة الزمنية كانت قد استعادت بصيرتها . فالأمة الاسلامية بدأت على هذه الصفة التي يمكن رمزها ب(الأُمّية) والتي تعني الاعتماد على المعلومات الروحية أي البصيرة . ولهذا كان رمز زعيم روح السوء في الإسلام هو ( الأعور الدجال) أي الذي لا يعرف عن القراءة الروحية شيئا أي انه أعمى البصيرة . فكلمة (أمي) مصدرها من (الأم) أي حواء التي اكتسبت البصيرة ، لهذا الحكمة الإلهية تذكر هذه الكلمة في سورة الجمعة (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ٢) فنسبة الذين كان يقرأون ويكتبون في المسلمين لم تكن نسبة قليلة ، ولكن ومع ذلك اختار الله هذه المنطقة لتكوين الدين الاسلامي لأن نسبة كبيرة من أهلها كانوا قد اكتسبوا البصيرة وليس العلوم المادية التي تحتاج إلى معرفة الكتابة والقراءة .

كما شرحنا في مقالات ماضية أن اسم محمد يتألف من قسمين (محى - مد) وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المسؤول عن القسم (مد) وهو القسم الروحي للأمة اسلامية ، أما علي عليه السلام فكان هو المسؤول عن القسم (محى) الذي يمثل القسم المادي للأمة الإسلامية . لهذا إنقسم تاريخ تكوين الأمة الاسلامية بشكل عام إلى قسمين : العصر الأموي ، والعصر العباسي ، فالعصر الأموي يبدو لعلماء المسلمين بأنه تسميته قد حصلت نسبة لبني أمية ، وهذا خطأ فلسفي فادح في تفسير تاريخ الأمة الاسلامية ، لأن حسب رأي العلماء أن مؤسس الدولة الأموية هو معاوية بن أبي سفيان ، ولكن معاوية كان يقرأ ويكتب ولكنه كان أميا في القراءة الروحية أي أعمى البصيرة ، فنسبه لبني أمية له معنى أن تكوين معاوية الروحي كان يتبع التكوين الروحي لحواء المخطئة التي كانت سببا في خروج الإنسان من الجنة ، لهذا كان أسم معاوية يعني الكلبة العاوية ، وقد شرحنا بشكل مفصل في مقالات ماضية عن علاقة روح الكلب بخطيئة حواء . فالذي حصل أنه رغم أن روح السوء العالمية حاولت من خلال استخدامها لمعاوية واتباعه ان تستطيع تكوين دولة تحمل نسبه (أمية) لعرقلة المخطط الإلهي ، ولكن روحيا كانت الأمة الاسلامية تحت سيطرة الروح الأموية (حواء البصيرة) التي زرعها رسول الله في نفوس المسلمين المؤمنين . ولهذا نجد أن الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قد أصبح أشهر خلفاء الدولة الأموية عند المسلمين المؤمنين لأنه إنشق عن روح الكلب ، واتبع الروح الأموية التي يُنسب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم . 

إن اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية ليكون أحد كتّابه ، هو حكمة إلهية تؤكد على أن معاوية كان يجيد القراءة والكتابة بشكلها المادي، أما بشكلها الروحي فقد كان أعمى البصيرة ، لهذا عارض علي عليه السلام وفعل ما فعل . لذلك يجب على علماء السنة والجماعة أن يفرقوا بين النوعين من الأمية ، وألا يسيئوا تفسير الحكمة الإلهية في اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاوية ككاتب عنده . 

- الحقيقة الثانية التي وضعها الله في تاريخ تكوين الأمة الاسلامية وهي نقل علي عليه السلام للعاصمة من المدينة إلى الكوفة ، العلماء المسلمين لم يعطوا أهمية لهذه الحادثة التاريخية ولم يحاولوا تفسير مضمونها وعلاقتها بمراحل التطور الروحي للإنسانية . فمدينة الكوفة تقع على نهر الفرات في منطقة قريبة أيضا من نهر دجلة ، هذه المنطقة بشكل عام كانت تسمى بلاد ما بين الرافدين ، وهي أول منطقة في تاريخ الإنسانية تظهر فيها المبادئ الأولية لمفهوم كلمة (حضارة) . وقد تكلمنا عن هذا الموضوع في سلسلة مقالات "حقيقة قصة نوح" ، فسلالة نوح كرمز قد انتقلت إلى بلاد الرافدين وهناك أنشأت أول دولة بمعناها الحقيقي . هذه البلاد قديما كانت تسمى (بابل) والتي حدثت فيها القصة الدينية (برج بابل) المعروفة والتي أدت إلى ظهور لغات عديدة كما هو مذكور في سفر التكوين في الإصحاح الحادي عشر (١- وَكَانَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا لِسَانًا وَاحِدًا وَلُغَةً وَاحِدَةً. ٢- وَحَدَثَ فِي ارْتِحَالِهِمْ شَرْقًا أَنَّهُمْ وَجَدُوا بُقْعَةً فِي أَرْضِ شِنْعَارَ وَسَكَنُوا هُنَاكَ. ٣- وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «هَلُمَّ نَصْنَعُ لِبْنًا وَنَشْوِيهِ شَيًّا». فَكَانَ لَهُمُ اللِّبْنُ مَكَانَ الْحَجَرِ، وَكَانَ لَهُمُ الْحُمَرُ مَكَانَ الطِّينِ. ٤- وَقَالُوا: «هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ» ٥- فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا. ٦ - وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. ٧ - هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ». ٨ - فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ، ٩ - لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «بَابِلَ» لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ. وَمِنْ هُنَاكَ بَدَّدَهُمُ الرَّبُّ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ.) . الكثير من علماء اللغة نظروا إلى هذه القصة وكأنها خرافة من الكتب المقدسة ، وللأسف بعض علماء المسلمين استخدموا آراء علماء اللغة للطعن في صحة معلومات كتب التوراة . ولكن الحقيقة أن هذه القصة الدينية هي قصة رمزية تفسر لنا أسباب ظهور الاختلافات بين الأمم والطوائف والمذاهب ، لهذا كانت كلمة (بابل) لها معنيان وليس معنى واحد ، المعنى الأول مصدره كلمة (بلبلة) وتعني الفوضى والإضطراب ، اما المعنى الثاني فمصدره من كلمتين (باب - إل) وتعني (باب الله) ، وكما تقول الآية القرآنية على لسان يعقوب عليه الصلاة والسلام وهو ينصح أبنائه في سورة يوسف (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ . ٦٧) . فالذي حصل في مدينة بابل كما تذكر القصة الدينية ، أن القوم أختاروا بابا واحدا في محاولة تفسير ما يحدث حولهم ، ولكن لفهم الحقيقة الكاملة تحتاج إلى أبواب عديدة ، حيث كل باب يمثل علم واحد يرى الشيء المدروس من زاوية تخصصه ، ومن خلال استخدام جميع الأبواب يتم دراسة الشيء من جميع زواياه وعندها فقط نحصل على حقيقته الكاملة . وبما أن الدين الاسلامي كان آخر الديانات السماوية لهذا كانت الحكمة الإلهية أن تدفع علي عليه السلام أن ينتقل إلى بلاد بابل ويختار مدينة الكوفة كعاصمة للأمة الاسلامية ، ليكون هذا الانتقال رمزا له معنى أن الاسلام الذي هو الديانة السماوية الأخيرة قد أصبح يستخدم جميع الأبواب ليحصل على المعنى الحقيقي للشيء المدروس . لهذا نجد أن معنى اسم المدينة (كوفة) لها جميع المعاني التي تتعلق بقصة برج بابل وكذلك بما يتعلق بدور الاسلام . فمصادر كلمة كوفة لها هذه المعاني : كوَّفه : جمعه . والتكَوُّف : التجمع ، وهذا المعنى له علاقة بدور الاسلام اي جمع جميع الأبواب ثانية. وهناك مصدر أخر لكلمة (الكوفة) من كلمة قديمة وهي الكُوفان : فجملة " تَرك القومَ في كَوفان " أي ترك القوم في فوضى وكأنهم في دائرة مفرغة . 

كما ذكرنا أن مدينة الكوفة تقع في بلاد ما بين النهرين على نهر الفرات وقريبة من نهر دجلة ، كلمة (فرات) تعني شديد العذوبة ، وهذا النهر هو رمز العلوم الروحية ، أما أسم النهر الثاني فله معنيين حسب مصدر أسمه ، فإذا أخذنا الكلمة من مصدرها العربي اي الآسيوي (دجلة) فهذه الكلمة تعني ( الدجل والخداع) أما إذا أخذنا المصدر الأوربي في التسمية وهي (Tigris) فمعناه النمر ، والنمر هو رمز ثاني لروح الأسد التي تمثل رمز روح علي عليه السلام وقد تحدثنا عنها في المقالات الماضية، ولهذا نجد أن علي عليه السلام قد اختار مكان العاصمة على نهر الفرات ليكون لها معنى أن الروح النباتية التي هي رمز النبي صلى الله عليه وسلم هي الروح المسيطرة على تكوين الأمة الاسلامية وأن روح الاسد هي الروح المساعدة .

لهذا كان العصر الأول في تكوين الأمة الاسلامية يسمى العصر الأموي نسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ازدهرت فيه علوم الدين كعلم الفقه وعلوم تفسير القرآن والحديث ، وعلوم اللغة ..إلخ ، أما العصر الثاني فكان اسمه العصر العباسي، حيث اسم (عباس) يعني أسد الأسود ، أي زعيم الأسود الذي تخاف منه الأسود ، والمقصود منه هو علي عليه السلام ، وليس العباس بن عبد المطلب وسلالته ، في هذا العصر ازدهرت فيه العلوم المادية كالطب والجغرافيا والكيمياء ...إلخ . فإذا تمعنا في تاريخ الأمة الإسلامية سيبدوا لنا ظاهريا ان بني أمية وبني العباس كانوا هم المسيطرون على تكوين الأمة الاسلامية ، ولكن في الحقيقة كانت روح محمد صلى الله عليه وسلم (الروح النباتية) وروح علي عليه السلام ( روح الأسد) تسيطران بشكل كامل على تكوين الأمة الاسلامية .لهذا نجد أن في منطقة إتحاد نهر الفرات (رمز الروح النباتية) ونهر دجلة (رمز روح الأسد) تقع مدينة أسمها (البصرة ) هذا الأسم ليس صدفة ولكن حكمة إلهية فلفظ هذه الكلمة هو قريب من كلمة (بصيرة) ، فظهور الحضارة الإسلامية وازدهارها كانت نتيجة اتحاد العلوم الروحية والعلوم المادية والتي أدت إلى سيطرة (البصيرة) على علماء الأمة الاسلامية الذين كانت نفوسهم قد اتبعت علوم أئمة أهل البيت الروحية والمادية . 

- الحقيقة الثالثة : العلماء المسلمين اليوم سواء علماء دين أو علماء تاريخ ينظرون إلى تاريخ الامة الاسلامية نظرة سياسية وليس نظرة روحية ، لهذا لم ينتبهوا إلى الحكمة الإلهية من نشوء المذاهب . فبسبب تشويه تعاليم الاسلام في طريقة إنتقال الخلافة وتحولها من نظام الشورى إلى نظام ملكي مورث والذي أسسه معاوية بن أبي سفيان . هذا النظام الجديد خلق وضع ديني جديد . فكان أكبر خطر يهدد السلطة الحاكمة هم أتباع أهل البيت تلك الفئة منهم الذين اتبعوا الاسلام السياسي . لذلك حاولت السلطة الحاكمة بشتى الوسائل إضطهاد كل من يقترب من أهل البيت او يمدح بهم ليمنعوا إنتشار محبة أهل البيت إلى جميع مناطق البلاد الاسلامية. هذا الوضع الجديد أدى إلى إخفاء العلماء ذكر مصادر علومهم حتى لا يتم اتهامهم بأنهم من اتباع أهل البيت ، فكان معظم العلماء يقولون الجملة الشهيرة في ذلك الوقت (ماذا نفعل مع علي ، إن أحببناه قُتلنا ، وإن أبغضناه هُلكنا) . فهذا الوضع الجديد أجبر العلماء المسلمين المؤمنين على إتباع اسلوب جديد في البحث الديني . فكما ذكرنا في المقالة الماضية ان الأئمة الأربعة في طائفة السنة كان أصل مصادر علومهم من أئمة أهل البيت ، ولهذا نجد أن الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد عانوا من اضطهاد السلطات الحاكمة ، فجميعهم قد دخلوا السجن وتم تعذيبهم ، فالامام أحمد بن حنبل رضي الله عنه توفي في السجن بسبب موقفه من أهل البيت . 

لذلك كانت الحكمة الإلهية أن تنقسم الأمة الاسلامية بشكل عام إلى طائفتين : سنة وشيعة ، وهنا لا نقصد طائفة السنة كما هي اليوم ولا طائفة الشيعة كما هي اليوم ، فجميع مذاهب اليوم تتبع الاسلام السياسي الذي أسسه معاوية وأتباعه من بعده . أما طائفة السنة وكذلك طائفة الشيعة في فترة تكوين الأمة الاسلامية فكانت تتبع دين الاسلام كما انزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . طائفة السنة أخذت دور الحسن بن علي عليه السلام، أما طائفة الشيعة فأخذت دور الحسين عليه السلام ، طائفة السنة اتبعت السلوك الروحي للحسن والذي أخذ دور أمه فاطمة التي رمزها روح الكائنات النباتية ، لهذا كان عدد مذاهب السنة أربعة مذاهب ، الرقم (٤) ليس صدفة ولكن حقيقة إلهية تفسر لنا طبيعة السلوك الروحي لطائفة السنة ، فالرقم (٤) يمثل عدد الأصابع الأربعة الأمامية في يد الإنسان ( السبابة ، الوسطى ، البُنصر ، الخُنصر) ، أما طائفة الشيعة فتمثل روح الأسد ورمزها الأصبع الخامس ( الإبهام) . الحكمة الإلهية وضعت هذا الرمز في قانون تعدد الزوجات ، فالرجل المسلم يحق له أن يتزوج فقط أربع نساء ، فالرجل يمثل اصبع الإبهام ، أما النساء الأربعة فتمثل الأصابع الأربعة. وإذا تمعنا جيدا في اصول المذاهب الأربعة نجد أن مصدرها من سلوك الروح النباتية التي تمثل روح حواء والتي نجدها في فضائل وصفات الحسن عليه السلام ، فكما يقول الحديث الشريف عنه ( إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ) ، فسلوك الحسن عليه السلام كان مشابه تماما لسلوك الأم ، فكما هو معروف عن طبيعة الأم أنها تحاول توحيد أفراد العائلة لهذا فهي تنظر إلى جميع الأمور التي تحدث في العائلة بنظرة إيجابية لكي لا تقع العائلة في مشاكل تؤدي إلى تنمية العداوة بين أبنائها ، لهذا تحاول الأم أن تسامح وأن تخفي أخطاء أبنائها لتبقى الأسرة كعائلة متحابة ومترابطة لا يفرق بينهما أحد . فلهذا نجد أهم تعاليم المذاهب السنية الأربعة كانت تعتمد الاحساس الروحاني الذي يعتمد على الفطرة الإلهية في تفسير الأمور ، ولهذا كانت المذاهب الأربعة ترفض أي اجتهاد قد يؤدي إلى حدوث فتنة بين المسلمين بعكس الخوارج تماما . وإذا تمعنا جيدا في أصول تعاليم مذاهب السنة نجد أنها كانت تعتمد هذه النقاط الأساسية :

- مذاهب السنة استخدمت نظام الشورى والإجماع على الرأي لضمان وحدة الأمة الاسلامية .

- وكذلك نجد أن المذاهب الأربعة قد أعطت أهمية خاصة لفضائل الصحابة ، فطالما الأية القرآنية تذكر "وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ " فكان من المهم بالنسبة لمذاهب السنة أن يمنعوا الناس من الإجتهاد بشكل عام في شخصيات الصحابة وعدم شتم أحدهم أو تكفيره ، لأن العلوم الإنسانية في ذلك الوقت لم تكن على مستوى يسمح لها للقيام بهذا الدور بشكل صحيح ، لهذا كان حسب منهج السنة أن أي محاولة في نقض الصحابة قد تؤدي إلى ظهور الفتنة بين المسلمين والتي قد تؤدي إلى عرقلة تكوين الأمة الاسلامية وتمزيق وحدتها . 

- من الأمور الأخرى أيضا التي حاولت مذاهب السنة أن تتبعها هي الوسطية والإعتدال في الدين ، لهذا لا يجوز في منهج السنة الغلو في أصول الدين ولا التقصير فيه ، لتسمح الأمور إلى تكوين أمة متجانسة خالية من التطرف الذي قد يؤدي إلى تمزيق الأمة ، ولهذا نجد أن مذاهب السنة لا تسمح بتكفير أي مسلم ، وتترك امر إيمان كل مسلم إلى رب العالمين فهو الأعلم بما في الصدور . 

من خلال ما شرحناه عن مذاهب السنة يتبين لنا أن دور مذاهب السنة كان تأمين تكوين أمة اسلامية لها هوية خاصة بها تستطيع أن تصمد في وجه بقية الأمم التي كانت تحاول القضاء عليها منذ بداية ظهورها ، فاتباع مذاهب السنة في تلك الفترة قد يبدو عليهم ظاهريا بأنهم يختلفون عن أتباع اهل البيت لأنهم أتبعوا أئمة غير أئمة أهل البيت ، ولكن في الحقيقة كانوا هم أيضا من أتباع أهل البيت وكانوا يعملون معهم وكأنهم يد واحدة في تحقيق أمة تستطيع أن تقود الإنسانية إلى آخر مرحلة تطور روحي ستمر بها . 

ولكن الذي حصل فيما بعد عندما وصلت هذه المرحلة من التطور الروحي إلى نهايتها أي بعد مرور ستة قرون على ظهور الاسلام ، بدأ يظهر علماء مسلمين من السنة لم يفقهوا شيئا عن تلك الإستراتيجية التي اتبعها ائمة وعلماء مذاهب السنة في تحقيق المخطط الإلهي لتكوين الأمة الإسلامية ، ومن أهم هؤلاء العلماء المطففين كان ابن تيمية والعلماء الذين أخذوا منه ، حيث نجد ابن تيمية في معظم كتبه يطعن بشكل غير مباشر في شخصية علي عليه السلام ليرفع من مكانة معاوية بن ابي سفيان في نفوس المسلمين ، فاذا قارنا ما كتبه ابن تيمية عن معاوية مع ما كتبه الأئمة الأربعة نجد هناك فرق شاسع بينهما ، فكتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، يذكر حديث شريف واحد فقط عن معاوية " اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب " فهذا الحديث هو مجرد دعاء فقط وكأن رسول الله يتمنى لمعاوية أن يصلح نفسه ليكون من المؤمنين ، ولكن الذي حصل أن معاوية رفض إصلاح نفسه . ولهذا نجد علماء السنة في فترة الحضارة الإسلامية كانوا يتبعون منهج الأئمة الأربعة في تقييم معاوية ، فقد روى الذهبي وابن خلكان والمقريزي وغيرهم، أن الإمام أحمد بن شعيب النسائي خرج من مصر إلى دمشق التي كان فيها العديد من محبي معاوية ، فصنف كتاب تهذيب خصائص الإمام علي لعله من هذا الكتاب أن يهديهم الله عز وجل، فسئل هناك عن فضائل معاوية فقال: أي شيء أخرّج؟! ما أعرف له من فضيلة إلاّ حديث: اللهم لا تشبع بطنه! فضربوه في الجامع الأموي على خصيتيه وداسوه حتى أُخرج من الجامع الأموي، ثمّ حمل إلى الرملة فمات شهيدا . هذه الحادثة المشهورة يذكرها الكثير من العلماء المسلمين ولكنهم ينظرون إليها وكأنها قد حدثت بالصدفة ، ولكن في الحقيقة أن هذه الحادثة هي حقيقة إلهية تؤكد على ما ذكرناه لكم عن علاقة مذاهب السنة مع روح الأم (حواء) ، فاسم العالم الذي ضربه اتباع معاوية هو النسائي ، وكلمة (نسائي)لها معنى أن نسبه يعود إلى النساء ، فهذا الأسم في هذه الحادثة هو رمز روحي يعبر عن حقيقة مذاهب السنة التي أخذت سلوكها من (الأم حواء) ، وأتباع معاوية ضربوه على خصيتيه (رمز الرجولة) ليقتلوه وكأنهم بهذه الطريقة ينكرون هذه الروح ويقولون للنسائي بأنه ليس رجلا طالما انه قد أتبع هذه المذاهب .

مثلما كان رأي الإمام النسائي في معاوية ، هكذا كان رأي أغلب علماء السنة في فترة الحضارة الاسلامية عن معاوية ، ولكن ابن تيمية هو الذي قلب الأمور رأسا على عقب فتحولت طائفة السنة إلى طائفة مختلفة نهائيا عن طائفة السنة الأولى ، ولهذا اختفى نور الله من البلاد الاسلامية فدخلت في عصر الإنحطاط ولا تزال حتى اليوم ، ولهذا نجد في الفترة الأخيرة بعد الإنفتاح العلمي أن العديد من علماء مذاهب السنة بدأوا يطعنون في شخصية معاوية ويرفضون صحة جميع تلك الأحاديث المدسوسة في فضائله لأنهم رأوا أن سلوكه العام كان سلوك مسلم منافق . يجب أن يعلم مسلمي السنة اليوم أن جميع العلماء المسلمين الذين مدحوا معاوية بن ابي سفيان هم الذين ساهموا في إنحطاط الأمة الاسلامية ، وأفضل مثال على هؤلاء كما ذكرنا هو ابن تيمية ، فبفضل هذا العالم المطفف وتلامذته تحولت مذاهب السنة إلى مذاهب مشابهة لمذهب الخوارج فلم يعد علماء هذه الطائفة ينظرون إلى المسلمين كما تنظر تلك الأم لأفراد عائلتها ولكن كما ينظر أب قاسي القلب إلى أبنائه، فظهور حزب أخوان المسلمين والمنظمات الإرهابية وداعش من طائفة السنة ليس صدفة ولكن حقيقة إلهية تعبر تماما عن حقيقة هوية طائفة السنة كما هي اليوم .

في المقالة القادمة إن شاء الله سنتحدث عن حقيقة مذاهب الشيعة وعما حصل من تغيرات في اصول تعاليم مذاهبها والتي جعلتها اليوم هي أيضا مذاهب خالية من نور الله .

وسوم: العدد 830