خواطر فؤاد البنا 852

لو قمنا بالبحث عن جذور فكرة (نهاية التأريخ) التي يعتنقها اليمين الغربي المتطرف، ولو حاولت في سبيل ذلك أن أتقمص شخصية واحد من هؤلاء المتطرفين فسأقول: إن النموذج الحضاري السائد في الغرب قد حاز أوجُه العظمة المطلقة كلها؛ لأنه ثمرة للتفاعل العبقري بين عدد من الكمالات والعوامل، وأهمها الكمال الديني الذي يتمثل في المسيحية ذات الكنيسة الغربية، والكمال الفكري المتمثل في الإصلاح الديني الذي قاده مارتن لوثر وجون كالفن، والكمال العرقي المتجسّد في الرجل الأبيض الذي يتفوق بمراحل على سائر الملوّنين من سائر الأجناس البشرية، والكمال العقلي المتمثل في الفلسفة اليونانية التي بلغت الذروة، وفي تيارات عصر النهضة التي قدحت شرارة النهوض الحضاري، والكمال العلمي الذي برز من خلال الرحلات الاستكشافية والمنهج التجريبي اللذين خرجت من رحمهما الثورة العلمية، والتي أنتجت بدورها الثورة الصناعية التي ينعم البشر بخيراتها. ومن ثم فإنه  لا مناص لأي أمة تريد الالتحاق بالركب الحضاري وامتطاء قطار التقدم المدني، من اعتناق الليبرالية كمنظومة متكاملة في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع؛ وهذا يستوجب عولمة الحضارة الغربية والقضاء على ما بقي من جيوب مقاومة في الثقافات الأخرى وفي مقدمتها الثقافة الإسلامية!

********************************************

كل من يعاني من قصر نظر يرتدي نظارة لرؤية البعيد، ولو أن كل من يعاني من قصر تفكير يرتدي نظارة لرأيت الغالبية العظمى من الناس ترتديها. وفي هذا المقام فإننا نتمنى أن ينجح المربون وعلماء النفس والاجتماع في ابتكار نظارات لتصحيح البصيرة كنظارات تصحيح البصر؛ فستكون تجارة مربحة جدا، إذ يحتاجها معظم البشر!

********************************************

إن النقد أحد الشروط الأساسية لنجاح أي عمل مهم أو مشروع كبير، بجانب التخطيط الدقيق والعمل الدائب، لكنه النقد البنّاء الذي يُصلح ما فسد، ويُقوي ما ضعُف، ويُقوّم ما اعوج، وليس الذي يعمد صاحبه إلى جلد الذات، حيث ينطلق من تقدير للذات لا من عقدة نقص مخيفة، وينظر إلى أوضاعنا بطريقة واقعية ترى نقاط القوة ونقاط الضعف لا بنظرة سوداء ورؤية عدمية، إن الناقد الحق كمن يعالج شخصا مريضا لا كمن يعدمه، وهو الذي يكون لسان حاله ما قاله أحد الشعراء العرب:*

    شهد الله ما انتقدتك إلا

              طمعاً أن أراك فوق انتقاد!

********************************************

ألقى الزعيم الثاني للصهيونية العالمية حاييم وايزمن كلمة في حفل أقيم بمناسبة افتتاح الجامعة العبرية في القدس سنة ١٩٢٤م، قال فيها: (الآن تم بناء الدولة). ومن المعلوم أن دولة صهيون لم تقم إلا بعد نحو ربع قرن من هذه المناسبة أي في سنة ١٩٤٨م. ويشير وايزمن بعبارته هذه إلى أن تربية الإنسان الذي يحمل بين ضلوعه مشروع الدولة ويمتلك المعرفة والدراية اللازمتين لإقامة الدولة، يكون هو الضمانة الأساسية لبناء الدولة. ويستوي في هذا الأمر المسلمون وغيرهم، ولذلك قال المرشد الثاني للاخوان المسلمين حسن الهضيبي لأتباعه: (أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم في أرضكم). ورغم ذلك ما زال كثيرون يطالبون بإقامة دولة إسلامية في واقعهم بينما هي غير موجودة في قلوبهم أو لا سلطة لها على سلوكياتهم!

وسوم: العدد 852