أكانت مريم عليها السلام نبية أم صدّيقة؟

من تفسير القرطبي ( بتصرف)

﴿وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَـٰمَرۡیَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاۤءِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين [آل عمران ٤٢]

أصطفاك الأولى لأمومة عيسى عليه السلام والثانية إعلاءٌ لمكانتها.

  • أما اصطفاؤها (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) فقد قالوا: على عَالَمِ زَمَانِهَا، قاله الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْج ٍ وَغَيْرُهُمَا.
  • وَقِيلَ: (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) أَجْمَعَ إِلَى يَوْمِ القيامة، وهذا هو القول الصحيحُ. وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ.
  • وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:(كمُل مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ غَيْرُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ
  • (قَالَ عُلَمَاؤُنَا- ما نزال نروي عن القرطبي- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: الْكَمَالُ هُوَ التَّنَاهِي وَالتَّمَامُ، وكمال كل شي بِحَسْبِهِ.
  • وَالْكَمَالُ الْمُطْلَقُ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً. وَلَا شَكَ أَنَّ أَكْمَلَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ يَلِيهِمُ الْأَوْلِيَاءُ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
  • وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْكَمَالَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ يَعْنِي بِهِ النُّبُوَّةَ ،فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ وَآسِيَةُ نَبِيَّتَيْنِ، "وَقَدْ قِيلَ بِذَلِكَ". وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَرْيَمَ نَبِيَّةٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهَا بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ كَمَا أَوْحَى إِلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ كما جاء بَيَانُهُ أَيْضًا فِي "مَرْيَمَ".
  • وَأَمَّا آسِيَةُ فَلَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهَا دِلَالَةً وَاضِحَةً بَلْ عَلَى صِدِّيقِيَّتِهَا وَفَضْلِهَا، عَلَى مَا أتى بَيَانُهُ فِي "سورة التَّحْرِيمِ
  • ". وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ قَالَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: (خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَرْبَعٌ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ). وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: (أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ).
  • وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ عن ابي هريرة( سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَعْدَ مَرْيَمَ فَاطِمَةُ وَخَدِيجَةُ ). فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ مَرْيَمَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ نِسَاءِ الْعَالَمِ مِنْ حَوَّاءَ إِلَى آخِرِ امْرَأَةٍ تَقُومُ عَلَيْهَا السَّاعَةُ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ بَلَّغَتْهَا الْوَحْيَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّكْلِيفِ وَالْإِخْبَارِ وَالْبِشَارَةِ كَمَا بَلَّغَتْ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ، فَهِيَ إِذًا نَبِيَّةٌ وَالنَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْوَلِيِّ فَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ النِّسَاءِ: الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مُطْلَقًا. ثُمَّ بَعْدَهَا فِي الْفَضِيلَةِ فَاطِمَةُ ثُمَّ خَدِيجَةُ ثُمَّ آسِيَةُ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَةُ ثُمَّ خَدِيجَةُ ثُمَّ آسِيَةُ).وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ.
  • وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ مَرْيَمَ بِمَا لَمْ يُؤْتِهِ أَحَدًا مِنَ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ روح الْقُدُسِ ظهرلها، وكَلَّمَهَا، وأعلمها أنه رسول الله إليها ،وَنَفَخَ فِي دِرْعِهَا وَدَنَا مِنْهَا لِلنَّفْخَةِ، فَلَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ مِنَ النساء. وصدّقت بكلمات ربها، ولم تسأل آية عندما بُشِّرَتْ كَمَا سَأَلَ زَكَرِيَّا ﷺ آية ( قال: ربِّ اجعل لي آية)آل عمران 41 وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا اللَّهُ فِي تنزيله صديقة فقال: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ [المائدة: ٧٥](٤). وَقَالَ: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ﴾ [التحريم: ١٢](٥) فَشَهِدَ لَهَا بِالصِّدِّيقِيَّةِ وَشَهِدَ لَهَا بِالتَّصْدِيقِ لِكَلِمَاتِ الْبُشْرَى وَشَهِدَ لَهَا بِالْقُنُوتِ.
  • وَإِنَّمَا بُشِّرَ زَكَرِيَّا بِغُلَامٍ فَلَحَظَ إِلَى كِبَرِ سِنِّهِ وَعَقَامَةِ رَحِمِ امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامَ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ، فَسَأَلَ آيَةً، وَبُشِّرَتْ مَرْيَمُ بِالْغُلَامِ، فَلَحَظَتْ أَنَّهَا بِكْرٌ، وَلَمْ يَمْسَسْهَا بَشَرٌ فَقِيلَ لَهَا: ﴿كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ﴾ [مريم: ٢١،فَاقْتَصَرَتْ عَلَى ذَلِكَ، وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا. وَمَنْ لِامْرَأَةٍ فِي جَمِيعِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ مَا لَهَا مِنْ هَذِهِ الْمَنَاقِبِ!.
  • وَرُوِيَ أَنَّهَا سَبَقَتِ السَّابِقِينَ مَعَ الرُّسُلِ إِلَى الْجَنَّةِ، جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنْهُ ﷺ:(لَوْ أَقْسَمْتُ لَبَرَرْتُ ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَبْلَ سَابِقِي أُمَّتِي إِلَّا بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ (. وَقَدْ كَانَ يَحِقُّ عَلَى مَنِ انْتَحَلَ عِلْمَ الظَّاهِرِ وَاسْتَدَلَّ بِالْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْبَاطِنَةِ أَنْ يَعْرِفَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ) وَقَوْلَهُ حَيْثُ يَقُولُ: (لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِيَدِي ،وَمَفَاتِيحُ الْكَرَمِ بِيَدِي، وَأَنَا أَوَّلُ خَطِيبٍ وَأَوَّلُ شَفِيعٍ، وَأَوَّلُ مُبَشِّرٍ، وَأَوَّلُ وَأَوَّلُ). فَلَمْ يَنَلْ هَذَا السُّؤْدُدَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا لِأَمْرٍ عَظِيمٍ فِي الْبَاطِنِ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ مَرْيَمَ ،لَمْ تَنَلْ شَهَادَةَ اللَّهِ فِي التَّنْزِيلِ بِالصِّدِّيقِيَّةِ وَالتَّصْدِيقِ بِالْكَلِمَاتِ إِلَّا لِمَرْتَبَةٍ قَرِيبَةٍ دَانِيَةٍ.
  • وَمَنْ قَالَ لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً قَالَ: لا تكون المرأة نبية ، وقالوا:إِنَّ رُؤْيَتَهَا لِلْمَلَكِ كَمَا رُئِيَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِفَةِ دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ حِينَ سُؤَالِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَلَمْ تَكُنِ الصَّحَابَةُ بِذَلِكَ أَنْبِيَاءَ، ونسي هؤلاء أن الصحابة رأوا جبريل دون أن يعرفوا أنه ملَكٌ مرسل،وخاطب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ولم يكلمهم، ودخل جبريل عليها وكلمها وعرّفها بنفسه.
  • ويدعم قولَ من نفى النبوة عنها أننا نجد في القرآن آيات واضحة تؤكد أن النبوة تنحصر في الرجال( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى..) سورة يوسف 109 ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم) الأنبياء 7.
  • ولعل الطرفين نسوا أنه كان فيمن قبلنا محدثون ، تحدثهم الملائكة ،فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناسٌ محدَّثون، فإن يكُ في أمتي أحد فإنه عمر" رواه البخاري ،وقصة الذي سمع صوتا في السماء يقول: اسق حديقة فلان حديث صحيح ، والمحدثون ملهمون كما قال بعض العلماء ، وقال بعضهم إن الملائكة تحدثهم فعلاً ، وأم موسى أوحي إليها أن ترضع ابنها فإن خافت عليه ألقته في النيل وهي ليست نبية ن هي محدَّثة ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم..).وموسى نفسه عليه السلام حين قتل القبطي قال ( ربِّ اغفر لي، فغفر له إنه هو الغفور الرحيم،قال رب بما أنعمت عليَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين) فكيف علم أن ربه غفر له ؟وهذا قول من قال: لم يكن نبياً بل كان محدَّثاً ، وصار نبياً ورسولاً وهو عائد إلى مصر حين كلمه الله عز وجل، وأظن أنه كان نبياً حين قتل القبطي ثم صار رسولاً حين كلمه ربه ، والله أعلم.

وسوم: العدد 925