الجدان

كلما مرت الأيام إلا وازددت ُ اقتناعا أن الجيل الذّي سبقنا جيل مميّز، يفيضُ بالخبرات الاجتماعية والإنسانية. ورغم أننا دخلنا المدارس ، وطفولتنا بدأت مع التلفزيون ، وقرأنا الكتب والمجلات ، وتصفحنا الصحف ، واليوم بإمكاننا أن نطوف العام بأكمله ، الحقيقي والافتراضي بهواتفنا ، إلا أننا لم نستطع أن ندرك أجزاء قليلة من خبراتهم وتجاربهم الثرية .

جيلٌ لم يعرف إلا الأسواق الأسبوعية، مآتم الجنائز، و ولائم الأعراس، ورغم ذلك له من التجارب الغنية والمتنوعة الكثير!

قمتُ بختان ابني ، وأولمتُ ، فدعوتُ جيراني وأصدقائي وأقاربي وبعض زملائي في العمل .

وحضر الوليمة شخصان رائعان ومميّزان جعلا من الوليمة تحفة إنسانية لا تنسى؛ وهما الجدان، الأول جدي أنا من جهة أمي، وقد جاوز الخامسة والثمانين من عمره، والثاني جد زوجتي من جهة الأم أيضا، وقد بلغ الثلاثة وسبعين سنة..

يعرفان بعضهما ، منذ زمن طويل ، قبل أن أتزّوج أنا ، وطالما كان يلتقيان في سوق الأربعاء الأسبوعي في مدينتنا الصغيرة ، أو في المدن الأخرى المجاورة مثل فرندة و السوقر ، وكذلك في مواسم الحصاد أو البذّر...

خيم الصمت على الصالة، الجميع يُصغي باهتمام وانتباه إليهما وهما يتناوبان في الحديث عن تاريخ مدينتنا الصغيرة ، وعروش المنطقة ، الدهالسة ، السر سو والغوادي ، وعن مدينة فرندة منذ أيام الاستعمار والبدايات الأولى للاستقلال ...

ما أمتعه من حديث، وما أثراها من ذكريات ! كل واحد من المدعوين تمنى أن لا تنتهي. جدي يسأل وجد زوجتي يجيب. هل تعرف فلان بن فلان ؟ فيحكي الأخر جزءا قد يطول أو يقصر عنه، عن آباءه وأجداده.. ثم ما يبلثُ عن يشرعا في تبادل الحكايات ، بطولية أثناء الثورة التحريرية ، أو إنسانية في المعاملات التجارية ، فيتحدثون عن الأعيان ، وعن المجاهدين الأبطال ، وعن أولياء الله الصالحين ، وعن طلبة العلم وحفظة القرآن الكريم ، وحتى عن بعض الصبايا الحسناوات وكيف تزّوجن ...

في قرارة أنفسنا ، نحن الشباب أو بعض الكهول كُنا نغبطهما عن تلك التجارب والذاكرة الوفية !

وبعد أن شبعنا كسكسى بالمرق واللحم، شربنا القهوة والشاي، ثم تليتْ الفاتحة ورفعت الأيدي تدعو الله الثبات ودوام النعم، تفرق الضيوف، أما الجدان فقد عقدا العزم أن لا يناما تلك الليلة وإنما يستمرا في الحديث، والتفتيش في صندوق الذكريات...

رغبتُ في أن أسهر معهما ، غير أني بعد أن مرت نصف ساعة شعرتُ بالنعاس ، فنهضت وتركتهما يتحدثان بمتعة لا تريد أن تفتر !

وسوم: العدد 1022