المدينة الفاضلة

د.مصطفى يوسف اللداوي

د.مصطفى يوسف اللداوي

[email protected]

قديماً تخيلوا، وفي أزمنةٍ أخرى تصوروا، وغيرهم كثيرٌ تساءلوا، بين مصدقٍ ومكذب، ومتأملٍ ومستنكر،

تُرى هل يوجد في الأرض مدينةٌ فاضلة، لا شرور فيها ولا خبائث، ولا مؤامرات ولا دسائس،

ولا ظلم فيها ولا جور، ولا اعتداء ولا افتراء، ولا صخب ولا نصب، ولا جوع ولا تعب،

فيها الخير يسود، والعدل يقوم، والرحمة تكون، والشفقة تدوم،

تحكمنا المحبة، وتنمو بيننا الألفة، وتشيع بيننا المودة،

يكون فيها الناس أنبياء في عدلهم، وفلاسفة في فكرهم، ونبلاء في أخلاقهم، وفرسان في حياتهم،

فلا مظلوماً يرفع كفيه قبلة السماء، ولا مكلوماً يبكي ظلم الأحباب، ولا صاحب حقٍ يشكو الحرمان،

ولا ثكلى تنتحب غياب عائلها، أو أماً مفجوعةً بولدها، ولا أباً ابيضت عيناه حزناً على ابنه الذي غاب،

لا يكون معنا جائع، ولا يبقى بيننا خائف، ولا يئن منا مريض، ولا يشكو فينا غريب،

يرحم كبيرنا الصغير، ويحترم صغيرنا الكبير، ويكون فينا الكبير مقدماً، والصغير مقدراً،

لا جرائم سرقة، ولا جنح قتل، ولا اعتداء على حقوق، ولا استباحة لمحرمات،

بل أمنٌ وأمان، وسلامةٌ واطمئنان، وراحةٌ وسلام،

أم هي أضغاثُ أحلام، وكوابيسُ منامٍ، وجنونُ فلاسفة، وخيالاتُ حالمين جهلة،

أم هي أحلامُ فلاسفة سكنوا الكهوف، وانقطعوا عن الناس، وابتعدوا عن البشر، 

أم أنها محاولات خداعٍ للمظلومين، وتسكين للمفجوعين، وإرضاء للجائعين، وتأجيلٍ لحقوقِ المحرومين،

أم هي وعودٌ لا تتحقق، وأماني لا تكون، وأحلامٌ لا تبقى إلا مناماتٌ وخيالات،

أم هي أماني الضعفاء، ودعوات المساكين، وأحلام المحرومين، وتطلعات الفقراء المعدمين،

وهي آمال العاجزين، ورؤى الفاشلين، ومخططات الواهمين الحالمين،

انتبهوا أيها الناس، وكونوا عقلاء واقعيين، وسيروا على الأرض بأقدامكم وكونوا واعين،

فلا مكان في هذه الدنيا للمدينة الفاضلة، ولا لمجتمعاتِ الأخلاق الطاهرة، ولا لتجمعات الخلق من الملائكة،

إنها الدنيا، بخيرها وشرها، وبطيبها وفحشها، وبعدلها وظلمها، وبالتزامها واعتدائها،

إنها الدنيا بمتناقضاتها كلها، وبألوانها على اختلافها،

إنها الدنيا بالعقل الرشيد، والفكر المستنير، والخلق القويم الرفيع،

وهي الدنيا نفسها بالعقل الشارد، والفكر الظلامي، والخلق المعوج الضال،

إنها الدنيا التي تقود إلى الآخرة، ويزرع فيها الخلق ليومٍ يحصدون فيه نتاج ما بذروا في الدنيا،

والتي بسببها يستحق الخلق يوم القيامة جنة أو ناراً، نعيماً أو جحيماً، فردوساً عالياً أو وادياً في جهنم سحيقاً،

لا مكان في الدنيا لمدينةٍ فاضلة، إذا الظلم فيها كبير، والشر مستطير، والعدل غائبٌ بعيد،

وإن كان فيها بعض عدلٍ وبقايا خير، وشيئٌ من النبل، وآثارٌ من ندى،

ولكن كن فاضلاً، أنا وأنت وهو، واستقم بخلقٍ رفيعٍ، وكن صاحب شيمٍ وصانع قيم،

بذا تكون المدينة الفاضلة، نتغنى بها، ونفرح بالعيش فيها، آملاً أن نكون يوماً أهلاً لمدينة الله الفاضلة،

جنان الخلد الباقية، وجنة الفردوس الخالدة.