آداب الحوار وأخلاقيات الاختلاف
يعدّ الحوار سلوكًا حضاريًا وضرورة إنسانية، لا تستقيم حياة الناس الفكرية والاجتماعية إلا به. فهو أداة تفاهم بين المختلفين، ووسيلة تقارب بين المتباينين، ومنطلق لبناء أرضيات مشتركة. غير أن الحوار يفقد جوهره متى اختلت آدابه، وانحرفت نواياه، وانعدم احترام الآخر.
أولًا: نبذ التعصب والانغلاق
لا يليق بالعاقل أن يتعصب لرأيه، أو يظن الصواب حكرًا عليه، خاصة في المسائل الاجتهادية التي تحتمل التعدد. فكما قال الإمام مالك: "كلٌ يؤخذ من قوله ويُرد إلا صاحب هذا القبر"، مشيرًا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم (الذهبي، سير أعلام النبلاء). ومتى حوّل المرء الحوار إلى معركة إثبات وانتقام، انتفت الحكمة وفقد الحوار روحه.
ثانيًا: حفظ كرامة المحاور
من كمال الأدب أن يُصان عرض المخالف، وألا يُنيل منه بألفاظ جارحة أو إيحاءات مهينة. قال الله تعالى:
{وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125]،
وهي دعوة قرآنية لخلق رفيع، يتجاوز النزاع إلى الإقناع، ويحتكم إلى الإنصاف لا الانتصار.
ثالثًا: احترام التخصص والكفاءة العلمية
من السقوط في الحوار أن يتناول موضوعًا علميًا دقيقًا من ليس له فيه قدم راسخة. وقد قال الشاطبي: "لا يقدر على النظر في العلم نظرًا صحيحًا إلا من استكمل آلته" (الموافقات). فالنقاش الجاد يقتضي أهلية فكرية لا مجرد رأي.
رابعًا: التزام القواسم المشتركة
لا حوار مثمر دون أرضية مشتركة. وكم هو نافع أن يبدأ المحاور من المشترك، ليبني عليه المختلف فيه. يقول ابن رشد: "اتفق الحكماء على أن الغرض من الحوار بلوغ الحقيقة، لا الانتصار للنفس" (تهافت التهافت). وهذا ما يغيب حين يُختزل الحوار في تصفية حسابات شخصية.
خامسًا: نبذ الهجر والقطيعة بسبب الخلاف
الخلاف سنة كونية، ولكنه لا يستدعي قطيعة. روى الذهبي عن يونس الصدفي قوله: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا ثم افترقنا، فلقيني فأخذ بيدي وقال: ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟" (سير أعلام النبلاء). فشتان بين من يختلف فيبني، ومن يختلف فيهدم.
سادسًا: الأخلاق الرفيعة في المناظرة
قصة الإمام الشافعي مع تلميذه يونس بن عبد الأعلى تُخلّد مثالًا رفيعًا في أدب الخلاف، حين قال له الشافعي:
"يا يونس، لا تحاول الانتصار في كل الاختلافات، فكسب القلوب أولى من كسب المواقف... انتقد القول، لكن احترم القائل، فإن مهمتنا أن نقضي على المرض لا على المرضى" (الذهبي، السير).
كم نحتاج إلى إحياء هذه الروح، ونحن نشهد استسهال التكفير والتبديع، وتسفيه المخالف بدل محاورته. وقد علمنا السلف أن الحق لا يُعرف بالرجال، وإنما يُعرف الرجال بالحق.
فهرس المراجع:
- الذهبي، شمس الدين. سير أعلام النبلاء. مؤسسة الرسالة، بيروت.
- الشاطبي، إبراهيم بن موسى. الموافقات في أصول الشريعة. دار المعرفة.
- ابن رشد، محمد بن أحمد. تهافت التهافت. دار الجيل، بيروت.
- القرآن الكريم، سورة النحل، الآية 125.
وسوم: العدد 1126