عذراً يا حلب، فقد عاد التتار !

م. موفق أبو حمدية

لا صورةٌ يتكرر فيها التاريخ على نحو "تراجيدي" أقوى من "سادية" الظالم ، الذي يقاتل في أرضٍ تبرأ من ترابها ومن ثمارها الإنسيّة ، لأنه يتفنن في مسابقة غيره من طغاة التاريخ للتأهل على عرش "اللآدمية" ، و للأمانة فإن التاريخ هو نفسه بآهاته ودمائه ودمعاته وجثثه المحرقة وبيوته المهدمة وحرماته المستباحة ، لكن "وآه من لكن" فإن لعصر "التكنولوجيا" ميزة  "اقتلني بطرق جديدة ، وفي جعبتك أيضاً طرائق من سبق ، وصمت العالم بل تصفيقه " ، مثلاً "قامت قوات تابعة للنظام السوري بإعدام اثنين وسبعين شخصاً في قرية تابعة لريف حلب، شمال سوريا ، وأفادت الهيئة العامة للثورة السورية، أنها تمكنت من التعرف على هوية 49 شخصاً، فيما لم تتمكن من التعرف على 23 شخصاً آخرين، بسبب إحراق جثثهم"! الخميس 28-2-2013. انتهى الخبر لكن لم تنته المجازر التي تتجندل كضفيرة تاريخية قانية مرت على "حلب" . طغاتها سمّهم ما شئت : تتار ، شبيحة ، ساديون ، مصاصو دماء  ، الاسم لا يهم ما دام الفعل متشابه إن لم يكن متطابق !.  

نحن الآن على أعتاب أسوار حلب ، وحولنا التتار بقيادة هولاكو الذين يقذفون "ما يشبه" البراميل المتفجرة التي كانت تسمى آنذاك بالمناجيق على مدينة حلب ، جاءت الأنباء من أرض ديار بكر أن مدينة "ميافارقين" سقطت بيد التتار بعد حصار استمر عامين متواصلين ، قتل "أشموط" التتري سكانها جميعاً ، ولم يستبقِ سوى الأمير البطل المجاهد محمد الأيوبي الذي أتى به إلى "الشبيّح" هولاكو ليمثّل به ، وينتقم من مقاومته الباسلة ، فقيّده وصلبه على مرمى من أعين أهل حلب ، "ثم بدأ يقطع أطرافه وهو حي رحمه الله ، ثم أجبره على أن يأكل لحمه، فكان يدس لحمه في فمه رغماً عن أنفه، فكان يقطع من جسمه ويضعه في فمه، وظل على هذا التعذيب البشع إلى أن أذن الله عز وجل للروح المجاهدة أن تصعد إلى بارئها" .  كم يفاجؤنا التاريخ بشبيحته ، التي يخيّل لنا أنهم استقوا أفكارهم الثأرية من منبع "شيطاني" واحد ، على كلٍ فلو كان في عصر التتار قنوات تسجيلية "يوتيوبية" فلن نرى شيئاً يزيد قشعريرتنا يوازي أفعال "ورثة التتار الجدد" نسخة شبيحة الأسد !.

كان لمدينة حلب أوفر نصيب من شر "شبيحة القرن الثالث عشر الميلادي" ، فقد هاجمتها جنود ذلك الطاغية "هولاكو" عدة مرات ، "وفي كل مرة تدك حصونها وتهدم منازلها وتحرق معابدها ومعاهدها العلمية وتزهق أرواح أهلها وتفعل فيها من الفظائع والعظائم ما يرتعد القلم لذكره ... فغدت هذه البلدة العظيمة القديمة بأن تكون خراباً يباباً وأن تقفرّ من أهلها الذين أصبحوا ما بين قتيل وأسير ومشرّد وهائم على وجهه لا يعرف إلى أين انتهى ولا في أي هاوية كان مقره ومصيره" .

يومها كان شبيحة التتار "بعبعاً" اضطرب الشرق كله أمامه ، هرب الرجال  ، استسلم الآخرون ثم ذبحوا ، قلة ثبتوا وقاتلوا ، وهؤلاء لم تندثر جيناتهم الحرة ،  بدليل أن أفكارهم عاشت في قلوب أحفادهم ، يرقبون النصر بعين الواثق ، الذي يعلم أن التاريخ كما يعيد حزنه يكرر فرحه ، و لا يبقى المهدّم يباباً ، بل يقف ببركة الهمم المتوقدة ، التي لا ترضى بكائيات الأطلال وقلة حيلتهم التي تمثل بها الملك الناصر لما سار إلى حلب بعد الدمار "التتريّ" ، فلما عاينها وما حل بها وبأهلها بكى وتألم وأنشد:

سقى حلب الشهباءَ في كل بُقعة ... سحائب غيثٍ نوؤُها مثل أدْمعى

ولما بعد عنها قليلاً أنشد:

ناشدتك الله يا هطالة السُحُبِ ... إلا حملتِ تحيَّاتى إلى حلبِ

لا عُذْر للشوق أن يمشى على قدرٍ ... ماذا عسى يبلغ المشتاق في الكُتب

أحبابنا لو درى قلبي بأنكم ... تدرون ما أنا فيه لذ لى تعبى

ثم بكى بكاء طويلاً وأنشد:

يعز علينا أن نرى ربعكم يَبْلَى ... وكانت به آيات حسنكم تُتْلَى

لقد مرّ لي فيها أفانين لذّة ... فما كان أَهْنَى العيش فيها وما أَحْلَى

أأحْبابنَا والله ما قلتُ بعدكم ... لحادثة الأيام وقفاً ولا مَهْلاَ

اقتلعت شأفة التتار بعد هبة النصرة القطزية ،  مات هولاكو  وشبيحته ، والمتخاذلون ، وعاشت حلب ، وجامعها الأموي ، وبنيت من جديد ، و ورثّت لأهلها حتى اليوم عزيمة وهمة لا تقبل الضيم  ، مثلها دمشق وحماة وحمص وكل بلاد الشام المباركة .

مراجع  تاريخية :

التتار من البداية  الى عين جالوت راغب السرجاني

نهر الذهب في تاريخ حلب لكامل الغزي

عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان بدر الدين العيني