الصعود إلى أرض الأيائل

حسن عبد السلام أبودية

(1)

الطريق يتلوى نزولاً إلى أرض الخسف، حيث البحر بلا حياة، وكأنَّ الجو بحرارته الملتهبة يشي بعذاب من كانوا يرتكبون الفاحشة هنا حتى جاءتهم الملائكة بعذاب ربهم..

(2)

عيناي تبحثان في المدى عن باب الجنة التي لطالما حلمت بها، ورحتُ 

على الرصيف المرّ أمشي صامتاً

أجترّ آلام السنين..

تجتاحني النظرات والهمسات 

وأمواج ذكرياتٍ

فأظلّ أسبح في المدى الممتد كالعمر الحزين

(3)

لكأني أقرأ سِفر التكوين من جديد...إذ كانت الشمس مليئة بالتجاعيد، حبلى بالقلق، تفور به تائهة في الممرات السحيقة، جاءت الولادة. توائم تتسابق ثم تصطف بانتظام حول الأم.

كان الخلق الأول، وكانت الأرض طفلة صغيرة .. تتأتئ ، تبكي، تكبر ، كان بكاءً وكان مطراً، وكان حنّوناً ونبعَ ماءٍ تأوي إليه الأيائل، فانطلقَ صوتٌ يملأ الآفاق: مباركة أنت يا ( أيلون) .

(أيلون).. وتهبّ عليّ أحلامي باللقاء .. لم تتركني أمي وحيداً في عراء الغربة، كانت تدثرني بحكايا الأجداد وراياتِهم وترانيمهم.. وربما كانتْ خِلسةً تتلو عليَّ دعواتِ أجدادهِا (المسالمة) لتحفظني..

(4)

أنا الآن أتوهج ... قدماي تطأان أرض كنعان .. أصعد إلى أرض الأيائل لكأني أعرج إلى سدرة المنتهى..إلى (يالو) تسابقني روحي ... من سيصل أولاً ... أنظر إليها من بعيد .. لا أشعر بأشواك الطريق..كان الجو حاراً ... لكن أرواح أجدادي كانت تفيئني .. كأنني نبي عائد بترانيمه، أتلو سورة العودة.

 

(5)

لم تكن القرية مهيأة لزيارتنا، الفوضى تعم المكان ، تماماً كأن تُفاجأ أنثى للتّو أفاقت من نومها بزائريِن، ورغم ذلك كانت بهية ، عين العاشق انتقائية في التفاصيل..وإذ لامست قدماي أرض القرية خلعت نعليّ.. توضأت .. رأيت ( جمجومها ) و (محمود طالب) يفتحان ذراعيهما لعناقي..

(6)

عمرٌ ضائع في المنفى والغربة ... ها أنا أستحم منها بماء (البيارة )... هل أتطهّر من أدران الغربة؟؟

(7)

كنت أسمع وشوشات الأشجار، الأشجار تتناسل في الوطن كما نتناسل في الغربات ... وكلانا يورّث أبناءه حلم العودة..

حدثتني الأشجار عن عذارى كنّ يتفيأن الظِلال، يرسمن أشواق الجسد الحالم تطريزاً فوق الأثواب ويحلمن بلبسها ذات يوم، وحدثتني .. أن زفراتٍ كن يكتمنها شوقاً كانت تتساقط مع ماء الجِرار في درب لايزال يحفظ خُطى الحسناوات ويختزن في ذاكرته أحاديثهن العذبة وضحكاتهن الصافية..

وأسمعتني أهازيج الفلاحين في المواسم ، الأشجار أضحت راوٍ لوجود أجدادي هنا، تحرس ظلالهم، تمسح عن جبينهم حبات العرق بنسائمها، هم لم يغادروا، وقبورهم تملأ المكان حياة..

وكانت حجارة البيوت المهدمة تروي تفاصيل حكاية المأساة، ودماء من دُفنوا تحتها تنتظر عودة الأحفاد ليواروها التراب.

كنت أرى نظرات الرعب والحيرة لم تزل معلقة فوق أغصان الشجر وصخور الطريق.. 

(8)

في أعلى التل ... رحت أتسلق نخلة لأصل للقمر وأفكّه من تعويذة ألقيت عليه من الضباب وقيّدت قدميه فوق السهل.

(9)

ألج (مغارة الصفرا ) وأتساءل هل هجّر الاحتلال جنّها كما هجّرونا... أسمع أحد الجنّ مازال يغني منذ ذاك الزمن البعيد ( ما سباني ماسباني إلاّ بنت المسلماني، إن دخلت باسم الله، وإن طلعت بالرحمن ) آه ليتني كنت جنيا...

(10)

في القرية ... رأيت سورها .. ورأيت الغزاة يندحرون وراءه خائبين، قرب الأعلى السماوي راحت كفاي تتحسسان جسد السور، كان الحراس لايزالون في الأعلى ، أسمع خطوهم ، وصوتهم، وتحت قدميّ كان دم الغزاة لم يزل لزجاً رفض التراب تذوقه ...

(11)

هناك ماءٌ مقدّس يفيض من ماء الجبار ليصبّ في البيارة ... لم لاترتوي البيارة إلاّ إن كان هناك فيض الأن الجبار فحلٌ والبيارة فرسٌ أصيلة تطلق صهيلها عبر أوردة الأرض .

(12)

في الطريق إلى (يالو) مررنا بدرب (عقّاد) ، شممت رائحة الضبع الذي ملأ ذاكرتنا بالخوف، لكني في تلك اللحظة كم تمنيت أن أراه، حتى الضبع الذي ولج أساطير( يالو) المعتقة وحكايا الأجداد أصبح حلماً ..

(13)

هنا قرب (بئر الجبار) وُلدت حكاية جبينة، تجوب عيناي أفقاً سرمدي المدى.. أبحث عن شجرة الدوم وقصر الغول .. أترانا جبينة إذ نعيش في قصر غول المنافي .

(14)

كأني أقرأ فصول رواية لم ينته كاتبها بعد....

(15)

لن أغضب إن أطلّت أنيابٌ من الغيب وافترستني الآن... ربما لم أشعر من قبل أني متهيئ للموت .....

(16)

قال لي سائق سيارة أجرة في عاصمة عربية: كم أشعر بغصّة كل خميس وأنا أرى الجموع تعود لقراها ...أنا لست نبتاً شيطانياً ... لي وطن .. ولي قرية .. ما أصعب ألاً أزورها..

قلت له ... ياصديقي ... الأصعب أن تذهب لوطنك زائراً .. ستحسّ وكأنك تحمل أكفان الغربة معك..