صراع المصالح والأفكار

وخزة ضمير (23)

صراع المصالح والأفكار

فراس حج محمد /فلسطين

[email protected]

أتأمل حياة الناس وسلوكياتهم، فأراهم وقد أصيبوا بمرض انفصام الشخصية، هذا المرض الذي يجعل الإنسان غير متوازن وغير متوافق مع نفسه وآماله وأفكاره، وقليلون هم من نجوا من هذا الداء العضال، وأصفه بالداء العضال لأنه يخرج الإنسان من حالته الطبيعية إلى حالة السقم والاعتلال، وبأنه مرض مقيم لا يبرح المصابين به، لذلك استحق هذا الوصف!!

أرى الناس وقد انفصلت سلوكياتهم عن قناعاتهم، فهم يعتقدون أفكارا مجردة، ولن يترجموها سلوكيات تعكس تلك الأفكار، فتحقق بذلك واقع الانفصام بين عقل الإنسان ونفسيته، أي الانفصام في جوانب تلك شخصيته.

ما أبرع الناس في التنظير والكلام، والشرح والتوضيح! فيؤلفون لك المؤلفات بسلسلة غير منتهية من توالد المعاني، ولكن عند التطبيق فإنك تجد شيئا مختلفا تماما، هذا ما يحدث يوميا عند الكل إلا من رحم الله.

فلماذا يا ترى تجد هذا الانفصام؟

لا شك بأن الأسباب كثيرةٌ، وكثيرة جدا، ولا تقف عند سبب أو اثنين، ولكنني سأناقش هنا مسألتين مهمتين تتعلقان بهذا.

تنبع المسألة الأولى من القناعة بالأفكار، فلو اقتنع كل واحد بأفكاره وبأنها صحيحة صائبة، واستعد أن يموت في سبيلها، مستبسلا في الدفاع عنها، فإنك لا تجد مثل تلك الأمراض الاجتماعية في انفصال السلوك عن الفكر، ويبدو أن ما يحدث عند الأفراد هو عدم القناعة بتلك الأفكار، وإنما يتخذها زينة يزين بها حديثه في كل مجلس يحل فيه، ليكسب ودا واحتراما مؤقتين وزائفين، وليرضيَ غرور نفسه كونه متحدثا لبقا "يفهم" ما يقول ويعبر بحسن اللفظ عن المضمون، ولم يتبادر لذهنه أنه مبتور في قامة أفكاره تلك، لأنه لم يسع ولو للحظة أن يكونها واقعا عمليا محسوسا، وهكذا أغلب كتابنا ومثقفينا للأسف الشديد.

وأما المسألة الثانية هي استعباد المصالح لصاحبها، فيجري وراءها جري الثعالب ليصطاد بها من ضعيف الفرائس، فالواحد من هؤلاء مستعد أن يتنازل عن كل فكرة آمن بها، إذا تتطلب الوضع أن يتنازل عن تلك الفكرة، بل تراه ينقلب ضدها بين عشية وضحاها، ويظل يتقلب بين الأفكار وتبنيها كلما تغيرت الظروف واستجدت الأحوال، ليصبح مثل الحرباء متلونا، فيغيب لونه الطبيعي، إذ لا لون له يعرف به، وأشد ما ترى ذلك عند السياسيين والاقتصاديين في حال تبدل الأنظمة السياسية، وقد شهدت ساحتنا المحلية والعربية نماذج غير مشرفة من هؤلاء، فسقطوا في وحل العبث، وصاروا أشبه بسوائل عادمة تتشكل في كل مجرى لتخدم مصالحها الزائفة التي لا تساوي شيئا مقابل قناعة فكرية يؤمن بها المرء ويدافع عنها حتى الموت.

هذا هو حال أغلب المثقفين والسياسيين، ومتى كان هذا واقع الطليعة التي يفترض بأنها هي الواعية، فما ظنك بالعوام؟ لا شك بأنهم غير ملومين، فمن بلاء إلى بلاء ومن جنون إلى شقاء، وسنظل نقول: "عاشت الفكرة وماتت الأصنام".

كلام زائف لا جدوى من ترديده!!

تذكروا قول الله تبارك وتعالى في سورة الصف: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.