القدس بين أرض وسماء

القدس بين أرض وسماء

إبراهيم جوهر - القدس

القدس بين أرض وسماء

أيار يلملم أشياءه استعدادا للرحيل .

أيار شهر الرحيل في الذاكرة ، ها هو سيرحل .

اليوم أتاح لي جوّ الأحد مراقبة زرقة السماء وغيومها البيضاء المتراكضة بخفّة حينا ، وكسل حينا آخر ... بين كسل وخفّة قرأت تشكّلاتها في ساعات الصباح والظهيرة ؛ رأيت حمامة مجزوزة الرأس ،

وحصانا مبتور القوائم ،

وتشكيلات غير محددة ،

ودخان حرائق ،

وأشكالا أقرب ما تكون لتلك التشكيلات التي انتشرت في سماء قطاع غزة أوقات الضربات الجوية للفسفور الأبيض في الحرب الأخيرة ،

و( كتكوتا ) ضخما ، وشبحا أبيض ، وسباق أرانب ؛ كان صفّ من الأرانب يجري سباقا والهواء يحركه ويقوده ....

أعجبت بلوحة الفضاء العامرة بكل غريب ، وقريب ، وخيال ... كنت أشاهد المنظر وأدوّن بقلمي ما أرى لكي لا تفوتني الصورة المتشكّلة ، ولا يخذلني اعتمادي على الذاكرة التي أدري أنها ستزدحم بالمشاهد هذا اليوم . وفعلا حصل ما توقعته فتزاحمت الصور والمناظر ...والأفكار .

على أرض الواقع القريب كانت مسيرات الأعلام تطوف حول سور القدس ، وفي سلوان ، وجبل المكبر ، والطور . كانت ابتسامات فرح وسرور ، وكانت غصّة في الحلق ، ووخز في الضمير .

مسيرة أخرى ذات تنظيم وحماية وعربات إسناد وصلت إلى منتزه جبل المكبر المقابل للقدس ؛ ماراثون دراجات هوائية لشبان وشابات وأعلام ، وغناء ، وفرح . مرة أخرى فرح هناك ، وحزن هنا .

القدس اليوم ليست موحدة ،

زاوية النظر هي المختلفة فقط .

حركة طائرات عمودية في الجو للمراقبة والحراسة بدأت منذ ساعات الصباح الباكر . الطائرات تخيف الطيور ، وتشوّه منظر الغيوم وهي تتشكل بجمال وفرح ؛ الطائرات تزرع الموت في الحياة الجوية ، ودوريات المراقبة والحراسة تزرعه في الحياة البرية ؛

موت في كل مكان ، وهواء ، وفضاء .....

قال الشاعر أحمد مطر : ( لعنت كل شاعر ، كفرت بالأقلام والدفاتر ،

لعنت كل كلمة لم تنطلق بعدها مسيرة ،

في زمن الكلاب والشفاه والمخافر .)

اليوم ذكّرتني مجموعة الزيتونة في البريد الالكتروني ب( مجزرة عيون قارة – الأحد الأسود ) سنة 1990 م.؛ حفلة ( تسلية) بأجساد سبعة عمال خرجوا صباحا يحلمون بلقمة خبز وحليب أطفال . بعضهم نجا بفعل جسد رفيقه الذي حماه من رصاص ( المحتفل) وهو يفرغ حقدا أسود رضعه في مدارس الحقد والبغض .

اليوم مرت ثنتان وعشرون سنة على المجزرة ...وقتها رفعت بيوت الفلسطينيين رايات سوداء وأطفئت المصابيح في وقت محدد من الليل .

وصلتني دعوة لحضور لقاء سيجرى غدا في قاعة بلدية البيرة من الاتحاد العام للأدباء والكتاب الفلسطينيين بعنوان ( دور الأدباء العالميين والمحليين في دعم نداء المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل ) .

قرأت غضبا في كلمات لصديقي ( أحمد رفيق عوض ) على الفضائيات التي تزرع الفتنة والضياع والتشويه . واقع الفضائيات القائم قاتم وحالك ورذيل . ( أحمد ) نصح طلابه وقراءه بالقراءة لا المشاهدة ...

المشاهدة جزء من الميل ل

(الثقافة الجاهزة المريحة ) .

الجاهز المتوافر بات ركنا أساسا في بنائنا الثقافي المعرفي القيمي ؛

الشاشة ، و(جوجل) ، وحبوب التخدير ، و ( ليس بالإمكان أفضل مما كان ) .

شاهدت لقاء من برنامج ( مبدعون ) مع الشاعر الروائي ( إبراهيم نصر الله ) صاحب الشرفات ، والخيول على مشارف المدينة ، والحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق ، وبراري الحمّى ، و عو ...

بقدر ما كان المبدع رزينا ، هادئا ، عميقا ، جادا ، كانت المقدّمة – المحاورة ذات لغة ركيكة ، وحركات لا تناسب برنامجا ثقافيا مع قامة عالية .

حزنت هنا ...الكفاءات مغيّبة . لغة الحوار اللائقة غائبة . تناقضات ؛

لغة من ورق ، ولغة بيان .

أرض وسماء .

حزن وفرح .

احتلال واحتفال .

...في التناقض تبرز الحقائق بقوة .