الخاطرة 15: أحداث من الكون المجاور 3

خواطر من الكون المجاور..

ز. سانا

عندما أتت اﻷوامر من القيادة بتجهيز اللواء بالإستعداد للذهاب إلى منطقة بعيدة عن المناطق السكنية للقيام بالتمارين الحربية إنزعج الجميع لهذا الخبر ﻷن هذا يعني أنه عدا عن اﻷعمال المجهدة التي يجب القيام بها لهذه التجهيزات، يجب أيضا المبيت في المعسكر ﻷيام عديدة حتى إنتهاء هذه التمارين ففي مثل هذه الظروف يجب على جميع أفراد اللواء أن يكونوا في وضع وكأنهم يعيشون تماما في حالة حرب، هذه الحالة التي كانت تناقض تماما كل أفكاري وأحاسيسي،

فحسب إعتقادي لو أن الله كان يريد من المسلمين العرب إستخدام السلاح وشن الحروب لكانوا قد إنتصروا على الجيش اﻹسرائيلي في حرب 1948 ولكن بدلا من أن يحدث هذا اﻹنتصار في ذلك الوقت حدث العكس تماما وكانت هزيمتهم شنيعة وكذلك في حرب الـ /67/ حدث نفس الشيء وأما في حرب الـ /73/ فكان إنتصارهم ﻷيام قليلة دون تحقيق شيء يذكر، واﻵن نجد أن أن دولة إسرائيل قد أصبحت أقوى دولة في المنطقة ليس فقط عسكريا ولكن أيضا إقتصاديا وعلميا ودوليا، بعكس وضع جميع الدول العربية المجاورة لها التي إنهارت من جميع هذه النواحي . فما نراه اليوم ليس إلا علامات إلهية تؤكد تماما بأن سبب تدهور اﻷوضاع في هذه الدول العربية هو إختيار المسلمين طريق العنف والسلاح في حل المشكلة الفلسطينية. ويبدو أن القدر اﻹلهي أراد أن يؤكد لي على صحة آرائي وأحاسيسي بأن الله في عصرنا هذا هو مع اﻹنسان المحب للسلام ﻷن إستخدام السلاح وصنع الحروب اليوم مهما كانت أشكالها هي من صنع روح الشيطان. وفي هذه المقالة أتابع ذكر دلائل التدخل اﻹلهي في مجرى اﻷحداث للتأكيد على هذه الفكرة، وكل هذه اﻷحداث التي أذكرها يمكن بسهولة إثبات صحة حدوثها دون أي موضع للشك. 

 

في تلك اﻷيام وبينما كانت كتائب اللواء تقوم بالتجهيزات للإنتقال إلى مكان حقل التمارين الحربية، طلب الرائد رئيس الشؤون اﻹدارية مني الحضور إلى مكتبه وهناك أعلمني أن قيادة الفرقة طلبت من لوائنا إرسال ضابط إلى مركز تدريب الفرقة بمهمة لمدة 45 يوم ليقوم بتدريب المجندين الجدد هناك ، ورأيت الرائد يقول لي " وﻷنك إنسان طيب ومن أفضل الضباط عندنا في اللواء ، أرى أنك أكثر شخص يستحق هذه المهمة فبدلا أن تتعذب معنا في تمارين عرض حالة اللواء الحربية ، ستذهب هناك كمدرب، الوضع هناك مريح جدا وعملك سيكون مشابه تماما لعمل مدرس في مدرسة ، فإذا كنت موافقا على قبول هذه المهة إحمل نفسك وإذهب اﻵن ولكن إذا كنت ترغب بالبقاء معنا فعندها سأرسل شخص غيرك" . وطبعا وافقت مباشرة و كانت فرحتي لهذا الخبر كبيرة ليس ﻷنني سأتخلص من مشقة تجهيزات التمارين الحربية للواء ولكن ﻷن هذا الخبر كان علامة إلهية أخرى تؤكد لي بأن الله معي وهو يساعدني ﻷبتعد عن طريق العنف وكل شيء له علاقة بالحروب وأن الله عز وجل بمثل هذه العلامات وكأنه يأمرني أن أتابع حياتي على نفس المنطق الذي يقود إلى دراسة وتقوية عاطفة حب السلام في نفوس الناس.

كان مركز التدريب في منطقة تدعى الحرجلة وتقع أقرب قليلا إلى دمشق من مكان لوائنا. والدوام فيه بالنسبة للضباط مشابه تماما لدوام المدارس من الصباح حتى الظهر. وهذا يعني أن حياتي في دمشق ستستمر كما كانت عليه في السابق تماما، في البداية ظننت أن قدومي إلى هذا المكان كان سببه فقط هو عدم مشاركتي في التمارين الحربية التي سيقوم بها جميع أفراد اللواء، وكذلك بأنها نوع من النعمة ﻷنني سأكون بعيدا عن مشقات هذه التمارين وعذاب اﻷيام التي سيعيشها أفراد اللواء في العراء حتى موعد إنتهائها. ولكن يبدو أن اﻷمر لم يكن فقط لهذه اﻷسباب ولكن لشيء آخر وجب علي أن أفهمه. وسبحان الله أتت اﻷمور منسقة تماما بشكل جعلتني أفهم تماما أن وجودي في هذا المركز التدريبي ليس إلا للمشاركة في معركة تجريبية مشابهة للمعركة التي سيشارك فيها أفراد لوائي ولكن هذه المعركة من نوع آخر. فهذا المركز التدريبي كان بمثابة رمز لما يحدث في العالم بأكمله والذي يمر بحالة صراع بين المنهج العلمي المادي الحديث الذي ينمي في النفوس حب العنف ، والمنهج العلمي الشامل الذي أعتمده في سلوكي وأبحاثي والذي ينمي عاطفة السلام في النفوس .

كان عدد الضباط الموجودين في المركز 16ضابط 5 منهم كانوا من ضباط المركز بشكل رسمي أما اﻵخرين فكانوا مثلي أتوا بمهة من ألوية أخرى لمدة شهر ونصف، وشاءت الظروف أن تجعل كل شخص من هؤلاء أن يحمل شهادة جامعية مختلفة عن الآخر وكأن جميع فروع العلوم المادية واﻹنسانية قد جمعت في هذا المركز ليكونوا معا جبهة واحدة وأنا لوحدي في الطرف المقابل لهم وكان يجب علي أن أن أنتصر عليهم جميعا، فمن اليوم اﻷول عندما علموا أن مدير المركز إذا أعجب بسلوك مدرب ما فإنه يحتفظ به لدورة تدريب أخرى، وﻷن ظروف الخدمة في هذا المركز كانت أفضل بكثير من ظروف الخدمة في اﻷلوية وخاصة تلك الموجودة في لبنان أو على الجبهة مع إسرائيل ،لذلك راح الجميع يحاول أن يظهر جميع مقدراته ليبقى فترة أطول في المركز، وعدا عن هذا كان يوجد ملازم إحتياط مسؤول عن التموين في المركز وكان معروفا عنه أنه على علاقة جيدة مع مدير المركز لذلك حاول جميع الضباط أن يتقربوا من هذا الملازم لعله يساعدهم في البقاء في هذا المركز. بالنسبة لي رغم أن ظروف المركز اﻹيجابية. لم أحاول أن أفعل سوى ما هو الصحيح وما يرضي ضميري وﻷن ملازم التموين من أول يوم من وجودي بالمركز شعرت بأنه إنسان منافق عديم المبادئ لا يهمه سوى مصلحته الشخصية لذلك أهملته نهائيا ولم أتحدث معه نهائيا.

كان مكتب مدير المركز في منطقة منعزلة عن بقية مناطق المركز وﻷن مكان مكتبه يقع بعيدا عن ساحة التدريب لذلك كان يستخدم المنظار ليراقب سلوك كل مدرب أثناء عمله، وجميع الضباط المدربين كانوا يعلمون بهذا لذلك وحتى يكون راضيا عنهم ليحتفظ بهم في المركز، كانوا جميعهم يبذلون جميع جهودهم في التدريب ليراهم، وﻷنهم لا يعرفون بالضبط صفات المدرب التي تعجب مدير المركز، لذلك راحوا يراقبون طريقة تدريب ضباط المركز ليفعلوا مثلهم وبشكل أفضل، وللأسف وبسبب القاعدة الثقافية الفقيرة التي إكتسبوها من الكتب المدرسية والجامعية بدلا من أن يختاروا أفضل مدرب من ضباط المركز ليكون قدوة لهم في طريقة التدريب إختاروا الملازم (م ) أسوأ شخصية على اﻹطلاق.

الملازم ( م ) كان خريج كلية اﻹجتماع. ويبدو أن كل المعلومات التي إكتسبها من هذا العلم كانت على منطق العلم للعلم وليس لخدمة اﻹنسان وتطوير المجتمع إلى اﻷفضل، لذلك بدلا من أن يساهم في تحسين العلاقات اﻹجتماعية بين أفراد المركز ويجعلها علاقات إنسانية راقية كان قد حولها إلى علاقات مشابهة لمجتمع الغاب الحيواني، فقد كان إنسانا قاسيا جدا مع المجندين ،والغريب أنه عندما كان يتكلم مع زملائه الضباط كان صوته ونظراته تبدو طبيعية ولكن بمجرد أن يرى أمامه مجند كانت نظراته تتغير وتبدو وكأن الشرر يتطاير منها وصوته يأخذ نبرة جديدة وكأنه يخرج من حنجرة حديدية، وكان أثناء تدريب المجندين يصرخ ويشتم فكانت أسماء المجندين عنده تتألف من جميع الصفات التي ترمز إلى الغباء أو الحقد كـ (حمار...بغل. .جحش..كلب...غبي...مسطول. .بهيمة..) وفي أحيان ٍكثيرة كان يفقد أعصابه فيركل مؤخرة المجند الذي لا ينفذ التمارين بشكل صحيح بضربة قوية من رجله، أو بصفعة من يده على القسم الخلفي من رقبة المجند، والمجندين المساكين لم يكن عندهم أي وسيلة ليدافعوا عن أنفسهم ﻷنهم في وسط غريب عنهم وﻷنهم سمعوا أن أي إعتراض أو الشكوى ستجعل من حياتهم في العسكرية جحيم ﻷن أول قانون في النظام العسكري هو تنفيذ اﻷوامر دون أي إعتراض أو تذمر، للأسف طريقة تدريب الملازم ( م ) الوحشية هذه راحت تنتقل مثل عدوى الكوليرا إلى بقية الضباط الجدد، فذهبوا هم أيضا وبشكل تدريجي يستخدمون نفس اﻷساليب القاسية من صراخ وشتم ومن ثم إلى ركل وصفعات، وخلال أيام قليلة تحول المكان من مركز عسكري لتدريب المجندين إلى ما يشبه مركز تعذيب وإهانة كرامة المجندين، بالنسبة لي فكنت كلما رأيت إزدياد قساوة المدربين كانت ردة فعلي هو أن أصبح أكثر عطفا على أفراد فصيلتي، وكذلك طلبت من معاوني الرقيب أن يستخدم نفس إسلوبي في التدريب ، والحمدلله كان هو أيضا طيب القلب فكان أثناء غيابي يعامل أفراد الفصيلة بشكل إنساني.

بعد حوالي إسبوع من بدء التدريب طلب مني معاون مدير المركز الملازم اﻷول عزام أن أحضر إلى مكتبه وهناك أخبرني أن مدير المركز مزعوج مني كثيرا ﻷنه في كل مرة ينظر فيها إلى ساحة التدريب ، في حين أنه يرى أن بقية الفصائل يتابعون تدريبهم بكامل الجدية، يراني أمزح مع أفراد فصيلتي وأجعلهم دائما يضحكون، وأخبرني بإنه يتساءل فيما إذا كنت أقوم بتدريبهم أم بإلقاء النكت والقصص المضحكة عليهم. 

وكانت تلك المرة اﻷولى التي أتحدث فيها مع الملازم اﻷول عزام بشكل منعزل عن اﻵخرين، فرأيتها فرصة أن يفهم ويُفهِم مدير مركز التدريب عن طبيعتي وعن رأيي في أسلوب التدريب فقلت له (عفوا سيدي أنا أتيت هنا بمهمة تدريب المجندين وهذا ما أحاول أن أفعله بأفضل شكل ممكن، كل إنسان له أسلوب وأنا متأكد تماما من صحة أسلوبي .....ظروف التعليم هنا تختلف نهائيا عن ظروف التعليم في المدارس ، ففي المدارس هناك يوجد نوعا ما تقارب في مقدرة اﻹستيعاب عند الطلاب ﻷنهم مروا بنفس المراحل التعليمية، ولكن هنا اﻷمر مختلف نهائيا فبين أفراد فصيلتي يوجد تفاوت كبير في مقدرة اﻹستيعاب والتعلم. بعضهم أميون رعاة غنم لا يعلمون شيئا عن الدنيا سوى معلومات بسيطة عن قريتهم وعن غنمهم، فمنهم لا يعلم حتى لماذا يجب أن يتعلموا هذه التدريبات العسكرية ﻷنهم لا يعلمون ما هي الدول المجاورة لدولتهم ...مثل هؤلاء المجندين كانت جميع سنوات حياتهم عبارة عن يوم واحد رعي الغنم والنوم و لا شيء آخر ، لذلك لا يوجد لديهم خبرة أبدا في تعلم المعلومات الجديدة، مثل هؤلاء إذا صرخت بهم أو شتمتهم أو ضربتهم سيتوقف عقلهم عن تعلم أي شيء وأنا متأكد بأنه إذا حدث هذا مع هؤلاء فإنه سيؤدي إلى توقف سرعة التعلم عند جميع بقية أفراد الفصيلة، ﻷن القلق سيغمر قلوبهم، كذلك فهناك أشخاص آخرون كما يبدو من سلوكهم أنهم أذكياء وأنهم من الناس الذين لم يسبق أن صرخ أو شتم آباءهم أنفسهم عليهم ، وأن ما يحدث معهم من كل سلوك سلبي هنا سيؤدي بهم بدل حب الوطن والدفاع عنه إلى الحقد على الوطن وعلى جيش هذا الوطن وهذا الشعور سيؤدي بهم بشكل لا إرادي إلى إنخفاض مقدرة التعلم عندهم ،لذلك بإسلوبي هذا في التدريب أحاول أن أوفق بين جميع المستويات . ....هذا هو رأيي وأنا لا أستطيع أن أغير أسلوبي في التدريب ﻷنني إذا غيرته فأنا متأكد بأنني سأفشل فشلا ذريعا..... وأنا مع كامل إحترامي لم أضرب ولم أشتم أحد في حياتي ولم آتي إلى هنا لتعلم الشتم والضرب . فإذا كان رأي مدير المركز بأني لا أصلح كمدرب هنا فما عليه سوى أن يرسلني إلى لوائي ويأتي بشخص آخر غيري.

 

و في إحدى المرات كان الملازم أول عزام عائد من مكتب المدير بعد اجتماع تحية العلم الصباحية وأتى إلي وأخبرني بأن الرائد مدير المركز مزعوج جدا مني ﻷني خرجت إلى تحية العلم بدون قبعة ، ورأيت الملازم أول ينظر إلي مستغربا ويسألني "كيف تخرج إلى تحية العلم بدون قبعة "؟ فأخبرته بأنني عندما خرجت إلى الإجتماع كانت القبعة على رأسي ، فنظر إلي وقد زاد إستغرابه " إذا كيف وأين اختفت القبعة"؟ فأخبرته بأنه قبل إعطاء اﻹيعاز بدقيقة واحدة فقط أتى إلي مجند من فصيلة الملازم (م ) وهو يرتعد من الخوف وأخبرني أن أحدا ما سرق منه قبعته وهو نائم ، وراح يتوسل إلي أن أساعده ﻷن الملازم (م ) إذا رآه بدون قبعة فسيعذبه طوال اليوم ، لذلك لم يكن بوسعي مساعدته في هذا الزمن القصير جدا سوى أن أعطيه قبعتي ليهدأ قليلا.

في مرة أخرى رأيت أحد أفراد فصيلتي حزينا ومرهقا جدا فسألته عما أصابه فأخبرني أن أحد صف الضباط قد عاقبه عقابا قاسٍ جدا ولما أخبرني عن سبب العقوبة رأيته سببا تافها جدا، فذهبت وطلبت من جميع صف الضباط أن يحضروا إلى قاعة الضباط وهناك وأمام جميع الضباط أخبرتهم بأنني لا أسمح ﻷي شخص مهما كانت اﻷسباب أن يعاقب أحدا من مجندي فصيلتي إلا بإذن مني ﻷنني أنا المسؤول عنهم ويجب أن أعرف ماذا يحدث مع كل واحد منهم أثناء غيابي. 

هذا الحدث وكذلك إختلاف طريقتي في التدريب ومعاملتي للمجندين أدت إلى إنزعاج بقية الضباط، فجميعهم كانوا قد وضعوا محاولة تأمين بقائهم في المركز فوق جميع مصالح ومشاعر المجندين، بينما بالنسبة لي فكان حفظ كرامة المجندين وتأمين الوضع النفسي المريح لهم فوق جميع المصالح اﻷخرى . فأسلوب حياتي منذ الصغر والذي إعتمد على مراقبة سلوك أصدقاء الطفولة واﻵخرين وتحليل نفسياتهم ونوعية ردود أفعالهم على كل شيء يحدث حولهم وطريقة تغييرها مع مرور الزمن، قد نمًى عندي نوعا من الخبرة في فهم السلوك الروحي لهم ، وهنا أقصد السلوك الروحي وليس السلوك العقلي أو النفسي، فقد كان من العادة عندي أنه كلما رأيت شخصا وبمجرد أن أسمع نبرة صوته وطريقة كلامه و نوعية ردود فعله لشيء حصل معه ، كانت لدي القدرة أن أنزع من شخصه ذهنيا جميع الشوائب التي دخلت فيه عبر السنين وأصل إلى صورته وطبيعته عندما كان طفلا صغير واتكهن تلك اﻷسباب التي جعلت سلوكه يتجه بهذا اﻹتجاه أو ذاك. وبنفس هذه الطريقة كنت أنظر إلى المجندين في المركز لذلك كنت أرى في كل مجند طفل وهذا الطفل كان بحاجة إلى المساعدة في هذه الظروف حيث القوانين العسكرية فيها أجبرته بأن يتحول إلى كائن ضعيف مثل الطفل حيث كل شخص أعلى منه بالرتبة كان يحق له أن يعاقبه بسبب أو بدون سبب وبدون أن يستطيع هو أن يعارض أو يشتكي. وإلى جانب هذا الطفل الموجود داخل المجند كنت أشعر بأن أمه تنظر الي وتتوسل لي أن أهتم بإبنها وأحميه من أولئك المدربين الساديين الذين يشعرون بلذة وهم يعاقبون أو يستهزئون من المجندين سواء كان لسبب أو بدون سبب. وللأسف مثل هؤلاء المدربين من صف ضباط وضباط عددهم ليس بقليل في أي جيش من جيوش العالم.

اﻷمور لم تتوقف هنا بصدامي مع الضباط وصف الضباط للدفاع عن أفراد فصيلتي ولكن وصلت إلى أن أواجه مدير المركز نفسه ،ففي إحدى اﻷيام أتى والد أحد مجندي فصيلتي ومعه زوجة المجند وإبنته الصغيرة ، وبعد دراستي للوضع أعطيت المجند إجازة مسائية ليمضي يومه مع زوجته وابنته، وأن يعود صباحا في اليوم التالي، ولكن كانت من إحدى أهم قوانين المعسكر هو منع أي مجند من مغادرة المعسكر مهما كانت اﻷسباب إلا بإذن خطي من مدير المركز نفسه فقط ولا أحد غيره على اﻹطلاق، وفي اليوم التالي وأثناء ساعة التدريب سمعت من ميكرفون المركز يذكر إسم المجند ليذهب إلى مكتب مدير المركز، فطلبت منه أن يذهب ليرى ما اﻷمر، وبعد دقائق رأيته يعود حزينا وأخبرني أن مدير المركز عاقبه بثلاث أيام سجن بسبب مغادرته المعسكر في اﻷمس ، في تلك اللحظة رأيت شيئأ في عيون جميع أفراد فصيلتي ما أعجبني جدا وجعلني أؤمن تماما بانني إستطعت أن احقق ما أريده من كل مجند من فصيلتي، وهو الترابط الروحي فيما بينهم أي أن يشعر كل واحد منهم بما يشعره الآخر تماما، فجميعهم تأثروا جدا لحزن المجند المعاقب. وهذا ما دفعني أن أطلب من معاوني الرقيب أن يستلم بدلا مني تدريب الفصيلة ، وذهبت مباشرة إلى مكتب مدير المركز.

عندما دخلت المكتب وعلم الرائد انني أتيت إليه من أجل المجند المعاقب، قال لي مباشرة " انت إنسان طيب، ولكن لا تترك المجندين يستغلون طيبة قلبك ليفعلوا ما يحلوا لهم ، لذلك دعه يعاقب في السجن ليتعلم هو زملائه ولكي لا يتجرأ أحد مرة أخرى على مخالفة القوانين العسكرية في المركز" فكان جوابي له "عفوا سيدي أنا قمت بتعليم جميع أفراد فصيلتي بأن يحترموا قوانين المركز ويطبقوها بحذافيرها ، فهذا المجند المعاقب عندما أتى والده وزوجته وإبنته لزيارته ،هو نفسه توسل لي أن أرفض طلبهم في الحصول على إجازة مسائية له ﻷنه يعلم تماما أن ذلك معارض لقوانين المعسكر . ولكني أنا الذي أعطيته أمرا عسكري بالنزول معهم. فإذا كان هناك من عارض القوانين العسكرية هنا فهو أنا وليس هذا العسكري فهو قام بتنفيذ أمر عسكري من ضابط فصيلته وليس من العدل أن يعاقب العسكري ﻷنه نفذ أمر عسكري" فسألني الرائد مستغربا " طالما انه لم يكن يرغب بالنزول فلماذا أعطيته أنت إجازة ؟" فأجبته " ﻷنني اضطررت إلى ذلك فإبنته الصغيرة كما رأيت كانت تعيش حالة قلق نفسي بسبب غياب أبيها الفجائي الطويل، فيبدو أنها ظنت بأن أباها قد هجرهم إلى اﻷبد ولن يعود إليهم ثانية، لذلك أتى بها جدها إلى المركز لترى أن أبيها يخدم العسكرية وأنه عندما ينتهي منها سيعود إليهم بشكل دائم. وأنا أعطيته أمرا بالنزول ليبقى معها ليلة واحدة لتعلم الطفلة أن والدها لم يهجرهم ولكن لديه عمل وأنه بمجرد إنتهائه من هذا العمل سيعود إليهم ثانية " وأنهيت كلامي قائلا " يا ليتني كنت أستطيع أن أشرح لها سبب غياب والدها بشكل تستطيع فهمه ولكنها كانت طفلة بعمر أربع سنوات فقط ومهما شرحت لها فعقلها الصغير لن يفهم ما أعنيه لذلك لم أجد حلا آخر يهدأ من قلق روح هذه الطفلة سوى أن يذهب والدها ويمضي معها بضع ساعات". ويبدو أن وصفي للحالة النفسية التي كانت تمر بها الطفلة أثرت في عواطف الرائد فرأيته ينظر إلي وكأنه تذكر جميع إجاباتي التي أستخدمتها لتبرير تصرفاتي الغريبة منذ قدومي إلى المركز ،ثم قال لي "كان عليك أن تدرس المحاماة بدل العلوم الزراعية ، ﻷنك كنت ستنجح بها أكثر ولن تخسر أي قضية ". وطبعا بعد هذا النقاش تم إلغاء عقوبة المجند والد الطفلة.

عندما عدت إلى الفصيلة وعلم المجندون أنني إستطعت إلغاء عقوبة مدير المركز نفسه بحق زميلهم شعروا جميعهم بفرحة عارمة تدخل صدورهم، وعندما طلبت من مجند بدين الجسم أن يذهب ويبلغ المجند المعاقب بأن يعود إلى فصيلته ،رأيته ينهض ويجري مسرعا وكأنه في سباق جري، رغم أن هذا المجند البدين في أول أيامه في المعسكر كان يلهث بعد عدة خطوات من الجري. وهذا أثر في نفسي كثيرا وجعلني واثقا تماما بأنني قد إستطعت أن أجعل جميع أفراد فصيلتي أن يشعروا وكأنهم إخوة أعزاء يعرفون بعضهم منذ سنوات طويلة وليس منذ بضعة أيام فقط.. وهذا كان بالنسبة لي أهم شرط من شروط نجاح تدريب الفصيلة، فهناك فرق كبير بين أن يشعر اﻹنسان بأنه بين إخوة له يحبونه وبين أن يشعر أنه مع شلة من الغرباء يكرهونه و كذلك من جماعة يشعرون أنهم إخوة يمكن أن تصنع منهم فريقا يعمل كيد واحدة، ولكن من جماعة لا يشعر أفرادها بألم الآخر فإنهم سيعملون بشكل متفرق و مشتت، وفي العسكرية وخاصة في مركز تدريب المجندين كان كل شيء يعتمد على مهارات جماعية وليس مهارات فردية.

 

كان أفراد فصيلتي يشعرون أنهم محظوظين جدا ﻷنهم ينتمون إلى فصيلتي وكانوا يفرحون جدا لكل شيء أقوم به من أجلهم وكانوا من شدة إعجابهم بما أفعله يذكرون كل شيء لزملائهم من بقية الفصائل،وهذا ما جعل جميع مجندي المركز يشعرون بكامل اﻹحترام والمحبة نحوي، لذلك كان كل مجند لديه مشكلة يأتي إلي ويطلب مساعدتي وكنت دوما ألبي جميع طلبات المجندين ، وهذا ما جعل المجندين في المركز يلقبون الملازم ( م ) بشيطان المعسكر ،أما أنا فكانوا يلقبوني بملاك المعسكر، لذلك كان واجب علي أن أثبت أن طريقة تدريب الملاك التي تعتمد المعاملة الحسنة أنجح بكثير من طريقة تدريب الشيطان التي تعتمد على الصراخ والسب والشتم والضرب ........يتبع......