خواطر من الكون المجاور ..الخاطرة 108 : فلسفة فن السينما

بالرغم من مرور ما يقارب الـ 120 عاما على أول عرض سينمائي حدث في تاريخ اﻹنسانية ولكن لا تزال حتى الآن حقيقة هذا الفن مجهولة عند جميع العاملين به ، في هذه المقالة سنحاول توضيح أسباب ظهوره الفجائي وكذلك علاقته بتكوين اﻹنسان الروحي وتأثيره في تطور المجتمعات اﻹنسانية ، و حتى نستطيع فهم هذه الفكرة لا بد أولا من توضيح طبيعة البيئة الروحية التي كانت تحيط بهذا الفن في بداية ظهوره ،ﻷن ظهور فن السينما في حياة اﻹنسانية لم يكن حدث عشوائي نتج بالصدفة ولكن كان ظهوره ضمن خطة إلهية تكشف للإنسانية أشياء عجزت عن فهمها بسبب دخولها في نوع من أنواع اﻹنحطاط الروحي.

في بداية القرن التاسع عشر وبعد إنتهاء عصر النهضة كانت اﻹنسانية تستعد لدخولها في مرحلة جديدة وبنوعية جديدة من مراحل تطورها، تماما كإنتقال الحياة من كائنات تعيش على اليابسة إلى كائنات لها أجنحة تطير في السماء. ورغم أن علماء وفلاسفة عصر النهضة كانوا قد مهدوا الطريق بشكل تدريجي لتدخل اﻹنسانية بهذه المرحلة إلا أن اﻷمور وبسبب روح السوء العالمية سارت بشكل مناقض تماما، حيث بدأت تظهر آراء علمية وفكرية تستند على حجج قوية كان هدفها الحقيقي هو تدمير كل معلومة أو إحساس يساعد على تقوية شعور اﻹنسان بذلك الجزء من روح الله في داخله ، الشيء الذي أدى باﻹنسانية دخولها في أكبر خدعة مرت بها خلال تاريخها الطويل.

لعل أهم هذه الخدع هي تلك التي أطلقها تشارلز داروين من خلال نظريته عن تطور الحياة والتي ظهرت عام 1859 في كتابه (أصول اﻷنواع ) والتي كان مغزاها الحقيقي فكرة ( أصل اﻹنسان قرد )، ورغم أن هذه النظرية لاقت نفورا من قسم كبير من المفكرين في بداية ظهورها ولكن حجج داروين التي قدمها ليدعم نظريته كانت قوية جدا أقوى بكثير من المستوى العلمي لتلك الحقبة لذلك إستطاعت مع مرور الزمن إقناع أغلب العلماء لتصل إلى شكلها الحالي اليوم حيث تدرس في معظم مدارس وجامعات العالم ، إن فكرة (أصل اﻹنسان قرد ) في ذلك الوقت كانت أشبه بالمفتاح السحري الذي فتح آفاق واسعة للعديد من المفكرين ذوي العقول الفاسدة والأرواح التائهة أولئك الذين كانوا يبحثون عن طريقة ناجحة يستطيعون بها منع اﻹنسانية من التطور لتعرقل وصولها إلى الكمال الروحي والجسدي.

أول الذين إستفادوا من نظرية داروين كان الفيلسوف المطفف كارل ماركس والذي إستخدم مبادئ نظرية داروين في محاولة إثبات أن الله غير موجود وأن قصص اﻷنبياء المذكورة في الكتب المقدسة ليست إلا مجموعة من الخرافات ، حيث شن هجوما عنيفا ضد اﻷديان وخاصة الديانات السماوية حيث قال عبارته الشهيرة (الدين أفيون الشعوب وزفرة العقول اليابسة ).

للأسف آراء ماركس ونظرية داروين سمحت لأشخاص منحطين روحيا بالظهور على الساحة اﻷدبية والفنية ، ففي الساحة اﻷدبية لعل أفضل مثال على ذلك هو الكاتب (أميل زولا)، وللأسف من يقرأ اليوم آراء النقاد عن روايات هذا الكاتب قد لا يشعر بشيء غريب عنه ﻷن عقول الكثير من المفكرين اليوم قد مرت بعملية غسيل الدماغ أثناء دراستهم في المدارس والجامعات فجعلتهم لا يفرقون بين القاتل والضحية وبين الحضاري والهمجي. فنجد أحد النقاد العرب يكتب عن أميل زولا قائلا " شجاعة فكرية ونصاعة التعبير فرض زولا نفسه واحدا من حماة الحقيقة والحرية عبر الكتابة" فمثل هذا الكلام والتشبيه كان نابعا من رؤية سطحية فقيرة تماما مثل رؤية ماركس التى لا ترى سوى القشور أما عن المضمون فلا تعلم عنه شيئا. فالحقيقة هي أن أميل زولا هو الذي جعل حرية التعبير ( الديمقراطية ) سلاح في يد كل إنسان منحط روحيا وكل فاسق شاذ أن يستخدم الديمقراطية ليسمح لنفسه أن يكتب ما يشاء دون أي ضمير يردعه أو يحاسبه على ما يكتب فتحول الفن واﻷدب إلى عنف ووحشية ودعارة . فأميل زولا كان قد تأثر بشدة بآراء داروين العلمية فكان يستخدمها لتكون حجة تساعده على كتابة كل ما يشاء فكان يعلل أسلوبه الذي جعله في تلك الفترة من الأدباء الرجعيين أو المثقفين غير الوقورين، بأن يكتب بأسلوب علمي يصف الواقع اﻹجتماعي بدقة بدون أي تجميل.أنظروا مثلا إلى إحدى حوارات بطلات رواياته ( السكير ) في هذا الحوار نقرأ " إن المنطقة كلها تعيش في حمأة من الجنس، الرجال والنساء والآباء واﻷبناء والبنات يعيشون كالحيوانات فيتمرغون في الوحل ، ليس فيهم رجل واحد نظيف أو إمرأة واحدة شريفة ، رائحة الجنس تفوح من كل بيت ، الفقر يكوم الرجال على النساء في إستهتار غريب ، ولو أنك صنعت من هؤلاء الرجال والنساء خليطا ،لحصلت على كمية من الروث تكفي لتغطية شوارع باريس بأكملها". جميع روايات أميل زولا مكتوبة بروح أشبه بروح الخنزير ، روح تبحث في كل شيء قذر، في كل شي منحط ،في كل شيء لا يصل إليه نور السماء . فعناوين أهم رواياته تدل على محتواها. ..الوحش داخل إنسان. ..الوحش البشري. .. السكير. ..غانية باريس...... أبطال رواياته ومعظمهم من النساء جميعهن بلا ضمير و شخصيات مضطربة سلوكهن أقسى من الرجال وكأنهن قردة وضع برأسهن ذكاء إنسان فرأين اﻹنسان كم هو أفضل منهن فينفثن سموم حقدهن عليه وعلى مبادئه السامية وعواطفه النبيلة ، غرائزهن الحيوانية تسيطر على كل خطوة من سلوكهن جرائم قتل..إنتقام. . خمر. .زنا. . عنف. .خداع... كذب. ..نفاق..،فسق..عالم مقرف، دراما مظلمة تجعل القارئ يحتقر إنسانيته ليشعر بأن أصله فعلا قرد وأن في أعماقه لا يوجد إلا الفراغ ،ولا أي وجود لروح الله في هذا الفراغ. فليس من الغرابة أن أشهر أقوال أميل زولا كانت " لن تكتمل الحضارة حتى يسقط آخر حجر في آخر كنيسة على رأس آخر قسيس " بمعنى آخر أنه حسب رأيه الطريق إلى السعادة اﻹنسانية مشابه تماما لرأي ماركس لا تتحقق إلا بالقضاء على جميع الديانات أو بمعنى أوضح القضاء على روح الله في كل إنسان.

اليوم نجد أن معظم النقاد يكتبون عن دور أميل زولا في حركة التمرد التي قام بها ضد الوضع السياسي الذي كان يسود في تلك الفترة في فرنسا وأوروبا بأكملها من ثورات وإحتجاجات وإنتفاضات شعبية ، بهذه الخدعة ( الدفاع عن حقوق الشعب ) إستطاع كل من ماركس وزولا إدخال أفكارهما إلى عقول الكثير من المفكرين الذين لم يفهموا أن آراؤهما كان هدفها الحقيقي هو القضاء على روح الله في كل إنسان ليتحول إلى كائن حيواني يشعر بحقوقه هو فقط دون أن يشعر بأي واجبات عليه نحو اﻵخرين.

على الصعيد الفني نجد أن بول سيزان الصديق الحميم ﻷميل زولا قام بدوره على أكمل وجه ليقضي على روح الله من خلال فن الرسم ، فبينما كان فن عصر النهضة الذي كان يمثله أسلوب ليوناردو دافنشي حيث رهافة اﻹحساس وسمو المشاعر ، والذي ينتقل من خلال إنسجام الخطوط واﻷلوان ولعبة الضوء والظل في ملامح وجوه اﻷشخاص أو الطبيعة في اللوحة إلى روح المشاهد لتجعله يشارك في موضوع اللوحة لتتحول هذه المشاعر إلى خليط يبعث في نفس المشاهد الشعور بعظمة الخالق في التكوين الجسدي والروحي للإنسان والطبيعة. هذه المشاعر الدافئة في اﻷعمال الفنية ساعدت على ظهور التيارات الفكرية اﻹنسانية التي راحت تدافع عن حقوق اﻹنسان بغض النظر عن عرقه أو لغته أو دينه ،والتي أعطت عصر النهضة طابعه الحضاري واﻹنساني. ولكن في القرن التاسع عشر نجد بول سيزان تحت تأثير آراء صديقه الحميم أميل زولا وأيضا تحت تأثير ذلك المناخ الروحي الذي صنعه داروين وماركس ، نجده يحاول أن يعطي في لوحاته الوجه القبيح للإنسان والطبيعة ،تماما كما فعل صديقه أميل زولا في رواياته ، ورغم رفض معرض أكاديمية الفنون التشكيلية في باريس لعرض لوحاته بسبب وحشية أسلوبها التعبيري الذي يظهر فيها من خلال سوء مهارته في الرسم وسوء إنسجام اﻷلوان بين بعضها البعض. برغم ذلك استمر سيزان برسم لوحاته القبيحة مرات عديدة و لسنوات طويلة، وعندما وصل تأثير ماركس وأميل زولا إلى مرحلة إستطاعا فيها تغيير ذوق ومشاعر عدد كبير من المفكرين نجد أن لوحات بول سيزان شيئا فشيء بدأت تظهر في المعارض لتأخذ مع الزمن الصدارة. وهكذا تحول بول سيزان الذي كان من مرتبة الفنانين المعروفين بإسم (المنبوذين ) إلى أشهر فناني عصره واليوم يعتبر الأب الروحي للفن الحديث وأعماله تدرس في جميع كليات الفنون الجميلة وفي جميع أنحاء العالم.

في نهاية القرن التاسع عشر عندما سيطرت الروح الفاسدة على مجتمع الفن بمعظم أنواعه ، ظهر فجأة فن جديد ﻷول مرة سمي بفن السينما على يد اﻷخوين أوجست ولويس لوميير ، ففي عام 1895 تم أول عرض سينمائي.

من المؤسف أنه حتى اﻵن لم يفهم الفلاسفة والنقاد عن سبب ظهور هذا الفن الفجائي من اللاشيء في تلك الفترة ليصبح وخلال سنوات قليلة الفن اﻷول في قلوب الجماهير بمختلف مستوياتهم الثقافية والإجتماعية. وكأن القدر نفسه بظهور هذا الفن (السينما) أراد أن ينتقم من أولئك الفنانين المزيفين الذين إستطاعوا السيطرة على مجتمع الفن ، فبالرغم من نجاحهم في عرض أعمالهم على جزء من المجتمع المهتم بالفن فقط ولكنهم ظلوا على هامش المجتمع الحقيقي. وكأن القدر أراد لهولاء الفنانين المزيفين والذين كان معظمهم ملحدين أن يفهموا أن الله موجود لذلك كانت أعمالهم تجذب فئة صغيرة جدا من المجتمع ، فلا يمكن - مثلا - المقارنة بين شهرة شارلي شابلن مع بابلو بيكاسو في العشرينيات من القرن الماضي ، فالنجم السينمائي شارلي شابلن كان يتهافت على رؤية أفلامه الملايين من الناس من مختلف المستويات الثقافية والإجتماعية في حين كانت أعمال بيكاسو تراها فئة قليلة من أفراد المجتمع ، ولولا وضع إسم بيكاسو في الكتب المدرسية ربما لظل مجهولا ولا يعرفه سوى طلاب الفنون الجميلة.

للأسف اﻹنحطاط الروحي للقاعدة الثقافية للعصر الحديث أدى إلى عدم فهم فلسفة فن السينما ليوضح حقيقة دوره وسبب ظهوره ، لذلك مع مرور الزمن نجد أن هذا الفن بدأ هو اﻵخر يخسر هويته ويتحول إلى فن يساهم في إستمرار اﻹنحطاط الروحي.

فن السينما معروف عنه اليوم بأنه " الفن السابع " وأول من أطلق عليه هذه التسمية هو الناقد اﻹيطالي (ريتشيوتو كانودو 1879-1923) ، وبسبب الإنحطاط الروحي - كما ذكرنا - التي تعاني منه الإنسانية اليوم، ظلت هذه التسمية كما هي بدون أي تصحيح. فنقاد الفن أثناء وجودهم في المدارس استقوا معلوماتهم عن الفن بشكل ببغائي دون أن يفهموا ما هو الفن وما هو دوره وما سبب وجوده. لهذا السبب أصبح فن العصر الحديث ذا نوعية تتماشى مع فكرة ( الفن للفن وليس لخدمة اﻹنسانية ) .

لتوضيح حقيقة فن السينما بشكل مفهوم لا بد في البداية من توضيح طبيعة الفنون اﻵخرى وطريقة تأثيرها :

اليونانيون القدماء في عصر الحضارة اﻹغريقية صنفوا الفنون إلى ستة أنواع وهي : ( فن العمارة - فن الموسيقى - فن الرسم - فن الرقص - فن الشعر - فن النحت ) جميع هذه الفنون تعتمد على علاقة العناصر اﻷولية مع بعضها البعض التي يستخدمها كل فن ليحدث نوع من اﻹنسجام الهارموني بين هذه العناصر لتعطي نوع معين من اﻹحساس في روح المشاهد ، فن الرسم -مثلا - يستخدم الألوان والخطوط لعمل لوحة فنية فكل لون وكل خط هو عنصر فمن خلال وضع الألوان والخطوط بطريقة معينة فيما بينها بحيث تحقق إنسجام هارموني معين هذا اﻹنسجام يحقق تأثير معين في مشاعر المشاهد ، فن الموسيقى أيضا يعمل على نفس المبدأ فكل صوت من السلم الموسيقي (دو،ري،مي،فا،صو،لا،سي....) له رنين خاص والمقطع الموسيقي ليس إلا عبارة عن وضع هذه العناصر في إنسجام هارموني معين ليعطي نغمة معينة تعبر عن إحساس معين فرح، حزن ، حنان، شوق، حب،....إلخ. ... جميع أنواع الفنون الستة تعمل على هذا المبدأ الذي يحقق نوع من اﻹنسجام الهارموني بين العناصر المختلفة في العمل الفني.

يمكن من توحيد نوعين من الفن الحصول على فن مركب. فمثلا من خلال توحيد الفنون ( الشعر + الموسيقى) نحصل على اﻷغنية ، ومن توحيد الفنون ( شعر + عمارة + تمثيل) نحصل على فن المسرح. .... وهكذا.

جميع أنواع الفنون الستة بشكلها البدائي تستخدمها الكائنات الحية الراقية وخاصة الطيور في فترة التزاوج، فبعض ذكور طيور الجنة - مثلا - تسخدم فن العمارة في بناء بيت الزوجية لجذب الإناث للتزاوج ،وبعض الطيور تستخدم فن الموسيقى كما هو في البلابل ، والبعض اﻵخر يستخدم فن الرقص سواء على أغصان الأشجار أو أثناء طيرانها في السماء كما هو عند النسور، وبعضها يستخدم جمال ألوانها (فن الرسم ) كما هو عند الطاووس ، فجميع هذه الفنون بشكل عام يتم إستخدامها عند بعض الكائنات الحية ، وبدوره أخذ الإنسان هذه الأنشطة والفنون من هذه الكائنات وعدلها وحولها إلى نشاط فكري يساهم في إرتقاء فكره وسلوكه ، فالفن بتعريف بسيط هو تعبير الروح ، والفنان هو ذلك الإنسان الأكثر حساسية في مشاعره لما يحصل حوله من أحداث ، وهو الذي يحول تلك الأحاسيس والتعبير الروحي إلى عمل فني بشكل يسمح للناس التأثر الروحي بالحدث كما تأثر به الفنان نفسه أثناء رؤيته له.

هكذا أيضا هو فن السينما ولكن على نطاق شامل ، ففن السينما قد يبدو أنه فن مركب مثل بقية الفنون ولكنه في الحقيقة مختلف عنها ، فجميع الفنون ظهرت وتطورت لتصل إلى شكلها المثالي وذلك من أجل أن تساهم في تكوين فن السينما ، لذلك يعتبر فن السينما فن الفنون ومرتبط كليا بالتكوين الروحي للإنسان ، فهو يوحد الفنون الستة ويضعها ضمن إنسجام هرموني معين ليعطي لغة تعبيرية قائمة بذاتها توضح طبيعة الحدث من جميع أبعاده الشكلية والروحية . فتجعل المشاهد يشعر وكأنه ينتقل من زمن إلى زمن آخر ، أو من مكان إلى مكان بسرعة أكبر من سرعة الضوء نفسها ليعيش في أعماق الحدث بكامل إحساساته،

فن السينما يعتبر الصورة الحقيقية لطبيعة ونوع أحاسيس ليوناردو دافينشي والذي يعتبر من أعظم الفنانين الذين عرفهم التاريخ فهو يجمع بين تطور الفنون مع تطور العلوم الفيزيائية والميكانيكية ، لذلك ليس من الصدفة أن ليوناردو دافينشي نفسه يعتبر أول مؤسس لفن السينما بشكله النظري ، فهو أول من إبتكر طريقة لعرض الصور ( رسومات ) على الحائط في الغرفة المظلمة ، وهو أول من أعطى الحركة في رسوماته ، وللأسف حتى اﻵن لم ينتبه أحد إلى هذه الفكرة في أعمال ليوناردو دافينشي ، فهناك رسومات له تشرح طريقة رؤية العين لحركة اﻷشياء ( كما توضح الصورة في أسفل المقالة ) ، حيث نجد مثلا أماكن عديدة لوضعية اﻷطراف اﻷمامية للحصان وهو يحاول الوقوف على أطرافه الخلفية ، فهذه الرسمة توضح أن الحركة المستمرة التي تشاهدها العين ليست إلا صور عديدة مدمجة مع بعضها البعض لتحول الشيء الثابت في كل لحظة إلى شيء متحرك أثناء سريان الزمن. وعلى المبدأ نفسه يعمل فن السينما ، فإذا نظرنا في شريط سينمائي وجدناه مؤلفا من صور عديدة متعاقبة تشبه تلك التي نلتقطها بآلة تصوير عادية ، حيث اﻷشخاص فيها في حالة سكون ولكن تتابع الحركة ورؤيتها على الشاشة تحدث بسبب عرض هذه الصور بسرعة (24) صورة في الثانية ، وحدوث الحركة ينتج بسبب إندماج هذه الصور مع بعضها البعض بسبب طريقة تأثر شبكية العين، حيث أنها تحتفظ بالصورة التي رأتها مدة تتراوح بين ( 0،1-0،2 ) من الثانية بعد زوال هذه الصورة من مساحة الرؤية ، فعند عرض الصورة اﻷولى تنطبع على الشبكية وتبقى (0،1) ثانية بعد زوال هذه الصورة ، وعند عرض الصورة الثانية تنطبع هذه على الشبكية مندمجة بالصورة اﻷولى التي لا تزال منطبعة على شبكية العين ، ثم الصورة الثالثة مندمجة مع الثانية، والرابعة مع الثالثة وهكذا دواليك. فالشعور بحركة الممثلين على الشاشة لا يحصل في الحقيقة على الشاشة نفسها بل في شبكية عين المشاهد.

ليوناردوا دافينشي قد عبر عن هذا المبدأ في الرؤية في بعض رسوماته ، هذا المبدأ من اﻹندماج في رؤية اﻷشياء هو ما أسميه في مؤلفاتي بالرؤية الروحية ، فكل شيء وكل حدث مرتبط بما يحيط به فهو يتأثر بها ويؤثر فيها ، لذلك فإن رؤية الشيء أو الحدث لوحده لا معنى له. وإذا بحثنا في كل اﻷشياء واﻷحداث في الكون على هذه المبدأ لوجدنا أن هدف كل هذه اﻷشياء واﻷحداث لها هدف واحد وهو تكوين اﻹنسان ليتطور ويصل إلى الكمال الروحي والجسدي.

في تلك الفترة التي ظهرت فيها نظرية داروين التي تعتمد فكرة ( أصل اﻹنسان هو القرد ) ظهر فن السينما ليؤكد خطأ هذه النظرية ، حيث ظهور فن السينما يمثل تماما ظهور اﻹنسان ككائن حي ، فأصل فن السينما ليس فن الرسم بل فن الرسم هو جزء من فن السينما ، وكذلك فن الموسيقى تعتبر جزء من فن السنما وليس العكس وهكذا ، فلا يوجد فن واحد يمكن إعتباره أصل فن السينما ﻷن أصله الحقيقي هو جميع الفنون متحدة مع بعضها البعض ، هكذا تماما هو أصل اﻹنسان ، فاﻹنسان ليس أصله القرد ، ولكن اﻹنسان يحوي داخله ميزة القرد حيث القرد يعتبر مقلدا حركات جسدية واﻹنسان أخذ منه هذه الميزة ، أما نوعية الذكاء عند اﻹنسان فهي لا تشبه ذكاء القرد ولكن تشبه ذكاء الدلفين فاﻹنسان أخذ ذكاءه من الدلفين ، ومن الببغاء أخذ اﻹنسان مقدرته على تقليد اﻷصوات ، ومن البلبل حبه للغناء والموسيقى ، وهكذا. فاﻹنسان هو في الحقيقة كائن يحوي في تكوينه جميع ميزات الكائنات الحية الأخرى ، ﻷن جميع هذه الكائنات ظهرت وتطورت لتصل بالميزة التي تحملها إلى شكلها المثالي لتنتقل عندها إلى اﻹنسان... فاﻹنسان مثل لون الضوء اﻷبيض ، فاللون اﻷبيض ينتج عن إتحاد جميع ألوان قوس قزح ، فهو لم يأتي من اللون اﻷحمر ، أو من اللون اﻷخضر أو اﻷزرق أو أي لون آخر . ...ولكنه أتى من إتحاد جميع الوان قوس قزح .

ظهور فن السينما في نهاية القرن التاسع عشر لم يكن إلا علامة إلهية تساعد المفكرين في فهم حقيقة تكوين اﻹنسان ، ومؤشر على دخول اﻹنسان في مرحلة تطور جديدة مختلفة نهائيا عن المراحل السابقة. ولكن للأسف الرؤية الماركسية التي سيطرت على المنهج العلمي الحديث جعلت المفكرين ينظرون إلى فن السينما كفن سابع مثله مثل بقية الفنون الستة ، فخسر هذا الفن مع الزمن هويته ودوره في تطوير روح اﻹنسان .

وسوم: العدد 694