خواطر من الكون المجاور..الخاطرة 116 : الجهاد المزيف

في يوم 20/ 12 / 2016 حدثت عملية إرهاب في مدينة برلين الألمانية حيث أسفر عن مقتل 12 شخصا وإصابة 48 آخرين ، وكانت عملية اﻹرهاب هذه قد تمت عن طريق اﻹستيلاء على شاحنة كبيرة بعد قتل سائقها البولوني ومن ثم دخولها بسرعة فائقة في أحد الأسواق المزدحمة باﻷطفال الذين خرجوا من بيوتهم مع آبائهم ليتبضعوا ما يحتاجونه لموسم اﻷعياد التي تعيشها الشعوب المسيحية هذه اﻷيام.

قبل ستة أيام أيضا حدثت عملية إرهابية أخرى في ملهى ليلي في مدينة إسطنبول حيث رجلان مسلحان أو أكثر في زي " بابا نويل " أطلقا النار بشكل عشوائي على المحتفلين برأس السنة وأسفر عن مقتل 39 شخصا وإصابة 65 شخصا.

من يعيش في دولة أوروبية ويتابع اﻷخبار في الصحف والتلفزيون ، سيجد أن معظم اﻷخبار في هذه اﻷيام بدلا من أن تتكلم عن هذه اﻷعياد وعن مكانتها في الدين المسيحي كما يحدث عادة في كل عام تتكلم عن العمليات اﻹرهابية التي تحدث أو ربما ستحدث ، وسيجد أيضا أن كلمة ( إسلام ) تظهر بشكل مستمر مع كل كلمة ( إرهاب ) يتم ذكرها. فمنظمة داعش قد إعترفت بأنها هي المسؤولة عن هذه العمليات اﻹرهابية ، ولكن من يتابع اﻷخبار في الدول الغربية لن يسمع كلمة داعش ولكن سيسمع كلمة ( الدولة اﻹسلامية ) أو (إرهابيون مسلمون ) أو ماشابه ذلك فالناس العامة وخاصة الأطفال في هذه الشعوب الغربية في نشرات اﻷخبار تسمع كلمة ( إسلام ) مع كل عمليات قتل وتفجيرات ودمار تحدث في بلادها ، وكأن الدين اﻹسلامي أو المسلمون بشكل عام هم تلك الوحوش الذين يقومون بهذه العمليات الوحشية.

فاﻹرهاب الديني في السنوات اﻷخيرة أصبح من أكبر المشاكل التي تعاني منها المجتمعات العالمية. وهذا ما دفع الكثير من أفراد اﻷحزاب العنصرية في الدول الغربية إلى إستغلال هذه الظروف لتحصد أكبر عدد من اﻷصوات في اﻹنتخابات. فنجد أن كثير من هذه اﻷحزاب في الفترة اﻷخيرة قد إرتفعت نسبتها بشكل كبير جدا ، ولعل أفضل مثال على هذه اﻷحزاب المتطرفة هو حزب الفجر الذهبي في اليونان الذي تأسس في الثمانينات وكان يعتبر بالنسبة للشعب اليوناني من أتفه اﻷحزاب السياسية في اليونان والذي كان عدد أفراده لمدة أكثر من خمس وعشرين عاما لايتجاوز المئات ، ولم يكن أحد يتوقع لهم دخول البرلمان على اﻹطلاق ، ولكن اليوم وبسبب إرتفاع نسبة المهاجرين المسلمين في اليونان وكذلك إرتفاع نسبة العمليات اﻹرهابية الدينية ، وصل عدد اﻷفراد الذين ينتخبون هذا الحزب إلى آلاف المئات وأصبح حزبهم يأتي بالمركز الثالث في البرلمان اليوناني.

من ينظر إلى تطور اﻷوضاع بشكل عام حسب سير اﻷمور في الفترة اﻷخيرة سيجد أن الأشرار من الطرف اﻷول يساهمون في تقوية اﻷشرار في الطرف اﻵخر رغم وجود عداء مطلق بين أشرار الطرفين. والنتيجة هي أن حالة الناس الذين يتمسكون بالقيم السامية واﻷخلاق الحميدة من كلا الطرفين هي في حالة تدهور مستمر.

لا أدري إذا كانت الرؤوس الكبيرة المسؤولة عن تخطيط هذه العمليات اﻹرهابية هي قوى أجنبية هدفها تشويه اﻹسلام وتدمير المسلمين أو العرب في نظر اﻷمم اﻵخرى - كما يدعي البعض - أو أن هذه الرؤوس هم فعلا أشخاص مسلمون فهمهم للإسلام مثل فهم الخوارج له ، ولكن الموضوع هنا هو أن جميع اﻹرهابين الذين يقومون بتنفيذ هذه العمليات اﻹرهابية الدينية هم من الشباب المسلمين الذين يظنون بأنهم مجاهدين يدافعون عن اﻹسلام والمسلمين وليس من أجل المال أو أي مصلحة شخصية أخرى. فالمشكلة الحقيقة مصدرها ليس من خارج المسلمين ولكن من داخل المسلمين أنفسهم.

أين هم العلماء المسلمون وماذا يفعلون من أجل وقف هذا التشويه في الدين اﻹسلامي في عقول هؤلاء الشباب ؟ لماذا أصواتهم لا تصل إلى هؤلاء الشباب الذين يضحون بأنفسهم معتقدين بأنهم حقا يجاهدون في سبيل الله ؟

للأسف علماء عصرنا بكافة فروع علومهم يعانون من مشكلة ضعف البصيرة وهذا ما يجعل أعمالهم خالية من روح الله و تجعلها غير قادرة على تنمية روح المحبة والسلام في نفوس اﻵخرين، ولعل أفضل مثال يوضح هذه الفكرة هو المثال اﻵتي :

قبل حوالي ثلاثة عشر عاما وفي شهر رمضان أحد المحلات التجارية العربية في مدينة أثينا كانت توزع مجانا كتيبا صغيرا يحمل عنوان " نفحات رمضان" حيث في كل صفحة يذكر فيها بعض اﻷيات القرآنية واﻵحاديث الشريفة وأشياء أخرى لها علاقة بالدين وتاريخ اﻹسلام، لتساعد المسلم الصائم - حسب رأي الناشر -في التقرب أكثر من الله عز وجل وليعلم أكثر عن دينه اﻹسلامي....الفكرة جيدة جدا وليت كل غني يعطي شيئا بسيطا جدا من ماله ليطبع كتيبات صغيرة ويوزعها مجانا على الناس في مثل هذه اﻷيام المباركة . ولكن بشرط أن تذهب لفعل الخير ،وليس لتدمير اﻹنسان وتشويه اﻹسلام ونشر الفتنة والعداوة بين الشعوب والديانات كما يحدث في هذا الكتيب الذي أتكلم عنه.

إنظروا إلى الصورة لبضع ثواني ( الرجاء النظر إلى الصورة ثم العودة لمتابعة المقالة) ستجدون أن أول منطقة رأتها أعينكم هي منطقة ( الدعاء ) والذي كتب فيه ( اللهم أحصي اليهود عددا...........) وسبب رؤية هذه المنطقة أولا هو وجودها في منطقة رؤية العين والتي تسمى المنطقة الذهبية في مساحة الرؤية ،فإذا إعتبرنا ان الصفحتين معا يشكلان لوحة فإن مكان المنطقة الذهبية يوجد في منطقة مستطيل (الدعاء ) ، هكذا ترى العين، والسبب الآخر هو كتابة كلمة (الدعاء ) بخط كبير سهل القراءة ، وثالثا أن المنطقة ملونة بلون مختلف عن الألوان اﻷخرى وهذا اﻹختلاف في اﻷلوان يساعد على جذب نظر القارئ إليها مباشرة، فمثلا إذا كتبنا فقرة من عدة جمل ولونا جملة واحدة من هذه الجمل بلون مختلف عن بقية الجمل فإن نظر القارئ سيذهب أولا إلى هذه الجملة ذات اللون المختلف ،ﻷن تلوينها بلون مختلف عن بقية الجمل حولها إلى منطقة ذهبية في الفقرة.

بهذه الطريقة تم تحويل منطقة ( الدعاء ) إلى أهم منطقة في الصفحتين أو بمعنى آخر أصبح الدعاء المذكور في هذه المنطقة أهم معلومة من جميع المعلومات الموجودة في الصفحتين .اﻵن تعالوا نقرأ الدعاء المذكور في هذه المنطقة ( اللهم أحصي اليهود عددا، وأهلكهم بددا ،ولا تبقى منهم أحدا ) من صاحب هذا الدعاء لا أعلم. لننظر إلى دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم المذكور في نفس الصفحة على يمين مستطيل الدعاء ولنقارن بين اﻹثنين. الرسول عليه الصلاة والسلام يقول وهو يقف على قرية باب خيبر اليهودية ( اللهم. .....نسألك خير هذه القرية ،وخير أهلها ،وخير ما فيها ،ونعوذ بك من شر هذه القرية ،وشر أهلها ،وشر ما فيها ) . في دعاء الرسول نرى أنه قد فصل بين أعمال الخير واعمال الشر و طلب من الله أن يحمي الخير في اليهودي الصالح وان يهلك الشر في اليهودي السيء. ولم يعمم موضوع الهلاك على جميع سكان هذه القرية اليهودية. تمعنوا جيدا في دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام فهو لا يطلب من الله أن يهلك اليهودي السيء ولكنه يطلب منه أن ينزع الشر منه ليتحول إلى إنسان صالح.....والسؤال هنا : ما علاقة دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام مع ذلك الدعاء المكتوب في المنطقة الذهبية للصفحة ؟ دعاء الصفحة هو ان يهلك جميع اليهود اﻷطفال والنساء والشيوخ واليهود الطيبين واليهود الفاسقين هكذا فطالما أنه يهودي فيجب عليه الهلاك ،هذا الدعاء لا يمكن أن يكون دعاء إنسان مؤمن ﻷنه دعاء مناقض لدعاء الرسول ومشابه تماما لدعاء فرعون نفسه الذي أراد القضاء على قوم موسى عليه الصلاة والسلام فأهلكه الله هو وجنوده.

لا أدري عندما سيقرأ إنسان راشد هذه الصفحة ماذا سيبقى منها في عقله الباطن فهذا يختلف من إنسان إلى إنسان حسب المعلومات السابقة الموجودة في عقله وعقله الباطن. ولكني متأكد تماما أن إنسانا تحت سن الرشد عندما سيقرأ هذه الصفحة الشيء الوحيد الذي سيبقى في عقله الباطني إلى اﻷبد هو دعاء فرعون أما دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام وما يوجد في الصفحة من آيات قرآنية وأحاديث شريفة فإنها سيتم نسيانها بعد فترة زمنية قصيرة. وسيتحول هذا الفتى إلى مسلم مزيف، سفاح من قوم فرعون و بإسم الله وبإسم اﻹسلام سيمارس الإرهاب وسفك الدماء ليس ضد اليهود فقط ولكن ضد جميع الشعوب والديانات وسيصرخ الله أكبر وهو في الحقيقة الد أعداء الله واﻹسلام.

الكتيب بأكمله وبسبب جهل أصحابه بفلسفة قانون المنطقة الذهبية تم تصميمه بطريقة خاطئة يعطي عكس النتيجة المطلوبة منه . لذلك نرى في المستطيل الأفقي ( أضف إلى معلوماتك ) في أسفل الصفحة الذي يذكر فيها حدث هام وقع في ذلك اليوم من أيام شهر رمضان الذي يحمل رقم الصفحة نجده لا يذكر سوى احداث لها علاقة بالحروب وكأن تاريخ الإسلام لا يوجد به سوى حروب وقتال مع اﻷمم والديانات المجاورة، فمن أصل /30/ يوم رمضاني يذكر/ 21/ ذكرى حوادث لها علاقة بالعنف مثل.....هدم مدينة عسقلان. ..معركة البويب..أبو ملجم يطعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه....إنتصار طارق بن زياد على الملك الصليبي رودريك. ..معركة بلاط الشهداء. ..معركة عين جالوت....فتح بلجراد...فتح إنطاكيا. ..فتح. .معارك . ..قتل...اما في الصفحات الباقية فتذكر وفيات...وفاة خديجة. ..وفاة فاطمة.....بعبارة أخرى الكتيب لا يذكر حادثة واحدة لها علاقة بتعاليم الدين اﻹسلامي التي ساهمت في ولادة الحضارة اﻹسلامية التي تعترف جميع جامعات العالم بدورها الكبير في حماية العلوم وتطوريرها ونشرها في الشعوب المجاورة لتنقذها من عصور الظلام التي كانت تمر بها . .....في هذا الكتيب يبدو وكأن الله أنزل الدين اﻹسلامي فقط ليحرض المسلمين على حمل السلاح وقتل اﻷمم اﻷخرى.

هذا الكتيب الصغير رغم أنه يذكر العديد من اﻵيات القرآنية واﻵحاديث الشريفة ولكنه في الحقيقة خال من نور الله ﻷنه تم فيه تشويه اﻹسلام وبأبشع طرق التشويه لذلك بدلا من أن يساعد في إزدهار المجتمع اﻹسلامي كما حدث في عصر الحضارة اﻹسلامية، سيساهم في جعل الشعوب اﻹسلامية في نظر الأمم الأخرى على أنها دول متخلفة علميا ودينيا وإجتماعيا . معظم المؤلفات العربية والعالمية في عصرنا الحاضر بما فيها الكتب المدرسية للأسف معظمها مكتوبة بهذه الطريقة فهي تكتب عن اﻷخلاق ،عن المبادئ اﻹنسانية، عن التعاليم السامية في الديانات . .عن الخير ،عن التضحية والوفاء،عن. .عن ......ولكن لا شيء من هذا يدخل في نفوس القراء تحت سن الرشد ﻷن المعلومة الموجودة في المنطقة الذهبية لكل فقرة ولكل موضوع منها يحوي على معلومة سلبية وهذه المعلومة السلبية هي التي تدخل العقل الباطن في هؤلاء وتغير سلوكهم إلى اﻷسوأ، تماما كما حدث في كتيب (نفحات رمضان ) الذي ذكرته كمثال...أما المعلومات اﻷخرى ( عن اﻷخلاق والمبادئ اﻹنسانية. ..) فتدخل من أذن وتخرج من الأذن اﻷخرى وكأنها غير موجودة أساسا في تلك الكتب.

للأسف جميع النشاطات االفكرية اليوم تعاني من نفس المشكلة ، حتى تلك التي تبحث في حل مشكلة ما نراها تعرض بحثها بطريقة تجعل المعلومة السلبية هي التي تبقى في العقل الباطني للإنسان وبدلا من أن تحسن سلوكه تجعله أكثر أنانية وعداوة لمن حوله. لذلك نجد اﻹنحطاط الروحي في عصرنا الحاضر يسير من السيء إلى اﻷسوء، ينتقل من مكان إلى آخر ومن شعب إلى شعب آخر.

يقول الفيلسوف اﻹغريقي سقراط " لا يوجد إنسان يريد عمل السوء لو كان يعلم كيف يستطيع عمل الخير " معنى هذه العبارة أيضا موجودة في جميع اﻷديان ولكن بشكل مختلف ، فاﻹنسان يولد و في داخله جزء من روح الله وهذا الجزء من روح الله يجعله من طفولته كائن محب للخير ،وينتظر من الكبار أن يعلموه فعل الخير ، وعلى الكبار وأقصد هنا كبار العلماء في مختلف العلوم أن يقدموا له كل المعلومات المفيدة ليسلك طريق الخير.

يقول الحديث الشريف " من كان يؤمن بالله واليوم اﻵخر فليقل خيرا أو يصمت " فعلى كل شخص قبل أن ينشر أفكاره ليقرأها اﻵخرين يجب أن يدرسها جيدا ليتأكد من أن المعلومة المفيدة هي التي ستنتقل إلى عقل القارئ وتبقى هناك فكل إنسان سيحاسب يوم الدين على نتائج ما كتبه في حياته......وكل الذي أستطيع أن أقوله في نهاية هذه المقالة هو هذا الدعاء " إلهي زدنا علما من علمك " .

وسوم: العدد 702