الخاطرة 126 : فلسفة اﻷلوان الثانوية والفرعية

خواطر من الكون المجاور 

نقصد بمصطلح " اﻷلوان الثانوية " تلك اﻷلوان التي تنتج عن إتحاد لونين من اﻷلوان الضوئية الرئيسية الثلاثة ( أحمر ، أخضر ، أزرق ) و نقصد بمصطلح " الألوان الفرعية " هي تلك التي تنتج عن إتحاد لونين ثانويين أو أكثر. مثلا اللون اﻷحمر ،هو لون رئيسي ، أما اللون اﻷصفر فهو لون ثانوي ﻷنه ينتج عن إتحاد اﻷحمر مع اﻷخضر ، بينما اللون البرتقالي فهو لون فرعي ﻷنه ينتج عن إتحاد اللون اﻷحمر الرئيسي مع اللون اﻷصفر الثانوي. 

حتى نفهم معاني الألوان الثانوية والفرعية وتأثيراتها على اﻹنسان ، لا بد أن نذكر أن طبيعة إدراك اﻹنسان لما حوله من اﻷلوان ، هو شعور روحي وليس إحساس مادي ، فمثلا إحساسنا بالحالة المادية للشيء هو إحساس مادي يعبر تماما عن مادية الشيء نفسه، فالمادة توجد في ثلاث حالات ( صلبة ، سائلة ، غازية ) فإحساسنا بأن الصخرة هي صلبة ناتج عن أن الصخرة توجد على الحالة المادية الصلبة ، لذلك يدنا تتحسس صلابة الصخرة وعيننا ترى شدة تماسك أجزاء هذه الصخرة مع بعضها البعض ، بينما الماء فيدنا تتحسس سيولته وعيننا ترى ضعف ترابط أجزائه مع بعضها البعض الذي يجعلها تسيل على سطح اﻷشياء ، لذلك نقول بأن الماء هو مادة سائلة ، وكذلك بالنسبة للهواء فنشعر بوجود مواد غازية حولنا بسبب حرية وسهولة أجزائه في الحركة بمختلف الجهات . .... بالنسبة لشعورنا بالألوان فاﻷمر مختلف ، فالضوء الساقط - مثلا - على ثمرة البندورة ( الطماطم ) فهذه الثمرة تمتص جميع أشعة الطيف وتعكس فقط اﻷشعة الضوئية التي طول موجتها يتراوح تقريبا 700 نانو متر ، هذه اﻷشعة المنعكسة من ثمرة البندورة تذهب إلى شبكية عين اﻹنسان ، فتتأثر الخلايا المخروطية بهذه اﻷشعة وينتقل هذا التأثر إلى الدماغ عن طريق اﻷعصاب وهناك يتم ترجمة هذا التأثر على شكل لوني ، فنقول أن ثمرة البندورة لونها أحمر ، فاللون اﻷحمر في الحقيقة هو إحساس حصل في الدماغ وليس في البندورة نفسها ، لذلك فإن ثمرة البندورة في الظلام هي عديمة اللون . 

هكذا خلق الله أدمغتنا بأن تترجم طول الموجة الضوئية إلى إحساس معين وهذا اﻹحساس يجعلنا نميز اطوال الموجات الضوئية كألوان ، فعندما تكون طول موجة اﻷشعة الضوئية قريبة من 700 نانومتر (أشعة حمراء) فإنها تهيج أعصابنا فنشعر بنشاط مفرط وشجاعة غريبة تجعلنا ندخل في مشاجرة مع الآخرين بسهولة ، ولكن عندما يقصر طول موجة اﻷشعة الضوئية وتصبح قريبة من 550 نانومتر ( أشعة خضراء ) نجد النشاط الجسدي يهدأ قليلا ويصبح من النوع المسيطر عليه ويتحول إلى حيوية وبهجة ويتحول حب المشاجرة إلى حب التعارف والمشاركة في اﻷلعاب الرياضية والمناقشات الفكرية ، أما عندما يقصر طول الموجة أكثر ويصل إلى 450 نانومتر ( أشعة زرقاء ) عندها تتحول هذه الحيوية الجماعية إلى حيوية فردية ، فبدلا من المشاركة في اللعب تجعلنا نجلس ونتعمق في تأملنا لما يجري حولنا نبحث عن مضمونها وعن أسباب وجودها ، إي عندها يتحول النشاط من جسدي إلى معنوي يجعلنا نغوص في أعماق اﻷشياء واﻷفكار لنكتشف أسرارها . 

أحاسيسنا هذه التي تؤثر على سلوكنا والتي تتغير حسب طول موجة اﻷشعة الضوئية التي تراها عيننا يتم ترجمتها في دماغ اﻹنسان إلى ألوان ، فطول موجة اﻷشعة الضوئية هو الذي يحدد نوعية التأثير على اﻹنسان ، فبصورة عامة كلما زاد طول موجة اﻷشعة الضوئية كلما كان نوعية تأثيراته سطحية تتعلق بالوظائف الجسدية ، وكلما قصر طول الموجة الضوئية كلما كان تأثيرها باطني ويتعلق باﻷشياء المعنوية والروحية. وبناء عليه ، فإذا أردنا أن نعلم معنى لون معين ورموزه ونوعية تأثيره على اﻹنسان ، ما علينا إلا إن نعلم مكان وجوده في ألوان الطيف ، فطالما أننا نعلم معاني ونوعية تأثير الألوان الرئيسية الثلاثة (أحمر ، أخضر ، أزرق) كما شرحناها في المقالات الماضية ، فكل لون ثانوي أو فرعي نريد أن نعلم معناه ونوعية تأثيره على اﻹنسان علينا فقط أن نعلم مصدره ، فمثلا اللون اﻷصفر هو لون يأتي من إتحاد اللون اﻷحمر مع اللون اﻷخضر. لذلك فهو يأخذ الحالة الوسطى بين ميزات اللونين معا ، فاللون اﻷحمر يعتبر لون مهيج عصبي يعطي الجسم نشاط مفرط وحركة فيأتي اللون اﻷخضر ويهدئ هذا النشاط قليلا ليمزج معه شيئا من النشاط الفكري فيجعل اﻹنسان يحب الحياة العملية والموضوعية ويفضل تطبيق اﻷمور عمليا بدلا من الكلام فيها ومناقشتها لساعات طويلة ، وﻷنه منشط جسدي وعقلي فهو يحدث نوع من تجديد اﻷفكار ونقصد هنا اﻷفكار المتعلقة بحاجات اﻹنسان المادية ، مثلا تطوير الألعاب أو تجديد اﻵلات بأنواع أحدث. 

البعض يعتبر اللون اﻷصفر بأنه لون اﻷذكياء ، وهذا خطأ فاللون اﻷصفر هو فعلا منشط لخلايا الدماغ ويساعد على فهم المواضيع واﻷفكار وحفظ المعلومات ولكنه ليس لون اﻹبداع وولادة اﻷفكار جديدة ، فهو مجدد للأشياء الموجودة مسبقا وليس مولدا لفكرة جديدة تظهر ﻷول مرة . لذلك كثيرا ما يأخذ اللون اﻷصفر رموزاً سلبية ، فإصفرار وجه اﻹنسان دليل على حالة مرضية جسديا ، وهذا ليس صدفة ﻷن اﻹنسان يعتبر كائن روحي والتجديد في سلوكه يجب دوما أن يكون تجديد روحي وليس جسدي لذلك يأخذ وجه اﻹنسان اللون اﻷصفر كدلالة عن حالة مرضية رغم أنه بشكل عام منشط جسدي ، وكذلك مثلا نسمع عبارة ( إبتسامة صفراء ) وتعني بأنها إبتسامة سطحية ﻷنها لا تنبع من الروح. اللون اﻷصفر بما أنه أقرب اﻷلوان إلى الضوء اﻷبيض ، واللون اﻷبيض هو لون النور بمعناه الشامل لذلك اللون اﻷصفر يعتبر لون النور بمعناه المادي ، أي أنه لون المادة في أرقى أشكالها أي أنه يعطي اللون اﻷحمر والذي يعتبر رمز المادة الجامدة يعطيها شكلا جديدا مناسب لتتحول إلى مادة حية ، لذلك ليس من الصدفة أن معدن الذهب والذي يحمل اللون اﻷصفر يعتبر من العناصر الكيميائية التي تم خلقها في المرحلة اﻷخيرة من تطور الكون ، حيث كان ظهوره علامة على إكتمال التطور المادي للكون وبداية دخوله في مرحلة تطور جديدة وهي مرحلة ولادة الحياة ، وليس من الصدفة أن نجد أن الكثير من كهنة الديانات القديمة يستخدمون اللون اﻷصفر كرمز مقدس لآلهتهم، حيث أن هذه الديانات تعتبر صلة الوصل بين العلوم المادية والديانات السماوية. أو بمعنى أدق هي صلة الوصل بين اﻹدراك المادي واﻹدراك الروحي.

علم الفاتيكان أيضا يحقق هذا المعنى ، فهو يتألف من لونين اﻷبيض واﻷصفر، حيث اللون اﻷصفر يرمز إلى إكتمال التطور المادي واللون اﻷبيض إلى إكتمال التطور الشامل أي الروحي ، وكلاهما معا يرمزان إلى بعث المسيح ثانية في يوم القيامة.

بشكل عام يأخذ اللون اﻷصفر معانيه وتأثيراته من اللونين اﻷحمر واﻷخضر وطالما أنه يأتي بعد اﻷحمر في الترتيب لذلك فهو يأخذ المعاني اﻹيجابية منه ويعدلها ليجعلها بمستوى أرقى. وبما أنه أيضا يأتي قبل اللون اﻷخضر في الترتيب فهو يأخذ المعاني السلبية للون اﻷخضر ، فمثلا أوراق النباتات في الربيع تكون خضراء ولكن عندما تخسر نشاطها الحيوي تتحول إلى اللون اﻷصفر وتتساقط. لذلك سلبيات اللون اﻷصفر تكمن عندما يتعلق اﻷمر بمعانى الحياة والنشاط الروحي. 

اللون اﻷصفر ومعه اللون البرتقالي من اﻷلوان المحببة للأطفال ﻷنه لون منشط عام مناسب لنفسية الطفل التي نرغبه في التعلم وإكتساب المعرفة بكل ما يحيط به وهو أيضا منشط جسدي يلائم طبيعة سلوك الأطفال المليء بالحركة واللعب ، لذلك من المستحسن أن تكون بعض اﻷشياء المتعلقة بحياة الطفل تحمل اللون اﻷصفر لتؤثر عليه إيجابيا سواء كان في دراسته أو في لعبه. 

جميع اﻷلوان الثانوية والفرعية يمكن معرفة معانيها ورموزها وتأثيرها على اﻹنسان وذلك بواسطة العودة إلى مصدرها اللوني الذي تتألف منه، تماما كما شرحنا عن اللون اﻷصفر. عن هذه القاعدة يشذ اللون البنفسجي ،فهذا اللون رغم أنه يتألف من إتحاد اللونين اﻷزرق واﻷحمر ، ولكنه لا يأخذ أي ميزة من ميزات اللون اﻷحمر ، فاللون البنفسجي يرمز إلى الروحانية والقداسة بأعلى مراتبها ، فهو رغم وجود اللون اﻷحمر في تركيبه ولكنه يعتبر لون مناسب جدا لمقاومة اﻹنفعالات العصبية الشديدة ( والتي عادة ما يسببها اللون اﻷحمر نفسه ) ، حيث يعطي الشعور بنوع من الهدوء والسكينة واﻹسترخاء ، ويساعد الذهن في التعمق في تحليل اﻷمور ليصل إلى مرحلة عالية، حيث يدخل فيها فكر اﻹنسان إلى عوالم أخرى تعتمد على قوانين أرقى من قوانين العالم المادي الذي نعيشه لذلك يعتبر اللون البنفسجي لون اﻹبداع بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى والذي ينتج عنه آراء ونظريات جديدة لم يسبق ظهور مثلها من قبل .

اللون البنفسجي يطرد الطاقة السلبية ويمنع الغوص في التفكير السلبي، ويساعد اﻹنسان في المحافظة على القيم المثالية والتمسك بالمبادئ السامية ،ويعطي اﻹنسان الشعور باﻷمان الروحي حيث أنه ينمي الشعور بالقناعة والمشيئة اﻹلهية وهذه المشاعر الروحانية تساعد في طرد الخوف من داخل اﻹنسان فتعطيه نوع من الحكمة في السلوك والتصرف مع اﻵخرين.

قد يتساءل البعض أين إختفى تأثير اللون اﻷحمر في اللون البنفسجي طالما أنه لون يتألف من إتحاد اﻷحمر مع اﻷزرق ،لماذا أصبحت سيطرة اللون اﻷزرق هنا سيطرة مطلقة وكأن اللون اﻷحمر نفسه هنا قد تحول إلى لون أزرق ليعطي اللون البنفسجي طاقة روحانية تعادل ضعف طاقة تأثير اللون اﻷزرق.

يمكن تعليل سبب خروج اللون البنفسجي عن القاعدة العامة هو أن نوعية اللون اﻷحمر الذي يدخل في تركيب اللون البنفسجي والتي تختلف عن نوعية اللون اﻷحمر الذي يدخل في تركيب اللون اﻷصفر. فاللون اﻷحمر في اللون البنفسجي هو لون يأتي من لون أحمر جديد ترتيبه يأتي بعد اللون اﻷزرق في ألوان الطيف وليس اﻷول الذي يدخل في تركيب اللون اﻷصفر ، ولكن هذا اللون اﻷحمر الجديد لا تستطيع عين اﻹنسان رؤيته ﻷنه ينتمي إلى مرحلة تسلسل جديدة ، فكما يحدث في السلم الموسيقي ( دو، ري ،مي ، فا، صول ، لا ،سي ) ثم يبدأ السلم ثانية من جديد ( دو، ري، مي ،فا ،صول ،لا ،سي ) ولكن بطبقة أعلى ،حيث يعرف السلم بمصطلح ( أوكتاف ) ، الأذن تسمع أكثر من سلم موسيقي ( ثمانية أوكتافات ) ، هكذ أيضا بالنسبة للألوان يوجد أكثر من سلم لوني ولكن عين اﻹنسان لا تستطيع أن ترى سوى سلم لوني واحد. ولكننا نشعر بوجود أول لون من السلم الثاني بسبب ظهوره أثناء إتحاده مع اللون اﻷزرق والذي يعتبر فعليا آخر لون في السلم اللوني اﻷول أما اللون اﻷحمر الموجود في اللون البنفسجي الذي يأتي بعد اللون اﻷزرق في ألوان الطيف فهو قد أتى من اللون اﻷول من السلم الثاني. 

ليس من الصدفة أن اللون البنفسجي في الماضي كان لونا نادرا بسبب إرتفاع التكلفة ، وذلك بسبب صعوبة تركيب صبغته ، حيث كان يتطلب الحصول على عدد هائل من الرخويات ﻹنتاج غرام واحد من صبغة اللون البنفسجي ، لذلك كان يعتبر اللون البنفسجي لون خاص بلباس الملوك وكبار الكهنة ، وكأن القدر نفسه بهذه الطريقة أراد أن يعطي هذا اللون مكانته الروحانية ليكشف لنا عن حقيقة مصدر هذا اللون وسبب وجوده بعد اللون اﻷزرق في الطيف الضوئي.

الروح كما ذكرنا في المقالات الماضية هي أصل كل شيء والمادة ليست إلا ذلك الثوب الذي صنعته الروح التي في داخل هذا الثوب لتعبر من خلاله عن نفسها ، فكما للمادة شكل وطبيعة فيزيائية خاصة بها ، فهي أيضا لها خصائص معينة تجعلها تأخذ اللون الذي يعبر عنها. ومثلما جسدنا يتكون من عناصر مادية ويحتاج إلى نوع من التغذية ليحصل على هذه العناصر التي تمكنه من القيام بالوظائف الحيوية وتركيب البناء الخلوي في الجسم ، على المبدأ نفسه يعتمد أيضا تركيبنا الروحي ، فروحنا تتألف من ألوان وهي بحاجة إلى تغذيتها اللونية لتستطيع متابعة مسيرتها الحيوية. ومثلما تلعب العناصر المادية دوراً في تحديد سلوكنا اليومي ، كذلك نوعية اﻷلوان من حولنا تحدد طبيعة سلوكنا الروحي ، وطبيعة شخصيتنا. لذلك يجب أن نهتم بألوان اﻷشياء التي تحيط بنا ، في الماضي مثلا كان لون السبورة في الصف المدرسة أسود ، ﻷن طباشير الكتابة كان لونها أبيض ،ففي ذلك الوقت كان الظن بأن تعارض اﻷلوان بين اﻷبيض واﻷسود يجعل الكلمات المكتوبة على السبورة واضحة أكثر وملفتة لعين الطالب ، ولكن تبين بعد دراسة تأثير الألوان على نفسية اﻹنسان حيث وجدوا أن اللون اﻷسود يسبب نوع من الملل وضجر ونفور من الدرس وخاصة في سن الطفولة والمراهقة ، لذلك تم تغيير لون السبورة إلى اﻷخضر ﻷنه مناسب أكثر حيث أنه يخلق نوع من التوازن والهدوء ومنشط لتفكير. 

كل شيء حولنا له لون ، وطالما أنه يحمل لونا ما فإنه بطريقة ما سيؤثر على نفسيتنا وسلوكنا إيجابيا أو سلبيا سواء كنا في المدرسة أو في مكان العمل أو في البيت لذلك علينا قدر اﻹمكان محاولة صنع بيئة لونية تساهم في خلق نوع من التوازن والبهجة والهدوء وخاصة أننا نعيش في عصر يسيطر عليه طابع العنف والوحشية واﻷنانية. والمقصود بالعناية هنا أولا هم اﻷطفال فطالما أنهم في مرحلة التكوين الروحي والجسدي لذلك فهم أسهل وأول المتأثرين بالبيئة اللونية المحيطة به. لذلك يجب علينا المساهمة في تحسين البيئة اللونية المحيطة بهم.

وسوم: العدد 713