أُمي... رحلةُ الذاكرةِ نحو السديم

حاولت كتابة هذه الخواطر منذ زمن، وكلما حاولت أن أخط بعض ما يجول في خاطري تزدحم الأفكار في مخيلتي، وتضيع قدرتي على وضع الألفاظ في أماكنها، ومعانيها حائرة في قلبي لا تجد لها شطًا ولا سفينة، لم أكن أعرف أن الكتابة عن بعضا الأشخاص تكتنفه كل تلك الصعوبات، وأنا ما قررت وصفًا، ولا رمت قصصًا، بل هي بعض ملامح الذاكرة أجتهد في تحويلها أو نظمها، في إطارٍ واضح من الكلمات، أو ليس من البرّ أن أكتب عن أمي...

لا ريب أن الأمّ وما تذرفه لأولادها من عمر وجهد وتضحية، نموذج دائم الوجود والحضور في حياتنا، وهو واضح لدرجة أننا ننسه ولا نعد نلتفت إليه كثيرًا، إلا في مواسم يغلب عليها الاصطناع أو قل ردات الفعل. الأمّ، هي شخصيةٌ استثنائيّة في حياة كلٍّ منا، وكما قال الشاعر:

كل النّاس يا أمّي مياهٌ ----- ووحدك زمزمٌ تروي فؤادي

سأكتب لك وعنك يا أمي، وإن لم أكتبك.. فلماذا ولمن أكتب إذًا... لن أكتبك يا أمي نثرًا، فعطاؤك أعظم من الحدّ وأوسع من أن تحيط به معاجم ومجامع، وإنّي عاجزٌ عن تفسير كنه جوهرك اللدنيّ... لن أكتبك شعرًا يا أمي، فهل يستوعب الشعر حب ابنٍ كلف بأمه، أو هل تستطيع قصائد الدنيا احتواء روحٍ هي منك ولك... لا أظن ولكنني سأحاول.

سأكتب عنك يا أمي، سأكتبك قبساتٍ وصور، سأكتب طيفًا منك في خفايا النبض، سأكتب ومضات تلمع وتخبو في مسيرة الأيام، لن أكتب كل شيء، ولا أستطيع أن أحيط بكل شيء، فكيف بالساقية الصغيرة أن تحيط البحر العظيم الممتد... ولكني أكتب عنك يا كل القلب، لأرفع مستوى كتابتي، ولأسطّر رائعة بين روائع الأولين، لا لجزالة أو فصاحةٍ في كلماتي، ولا لبلاغة لا سبق لي بها، بل لأنها عنك يا أماه.. سأكتب لأزين كلماتي بذكرك، وأرسم بحروفي المبعثرة ابتساماتك العذبة كأفقٍ غير محدود فيه من السحر ما فيه، لأستلّ بعض بريق عينيك وطيبتها وأودعها في طيات صفحاتي، علّ كلماتي وعباراتي الأخرى تحذو حذوها وتنال بعض رقيها وجذالة معانيها. أكتب عنك يا "أم الهيثم" لأرفع هامات خواطري بوصفك والحديث عنك، لتستحيل عباراتي نصوصًا عصيّة على النسيان، تأبى أن تندثر كغيرها، كما أنها لا تتكرر كغيرها أيضًا، فكيف وقد ارتبطت بامرأةٍ لا مثيل لها في الوجود.

أمي يا سنبلة العطاء التي لا تمل عطاءً، ولا تذبل تجددًا... أمي يا شمس وجداني ورحلة ذاكرتي نحو السديم... يا أجمل اسمٍ في هذا الكون، وكل الكون قبسٌ من أمي...

تقودني ذاكرتي يا "ست الكل" لذلك الباب الذي أدقه تعبًا متبرمًا، ضجرًا من هموم يوم مدرسيّ تطاول أمده، أو متعبًا من امتحان أنهك العقل وأضنى التفكير، أو من يوم عملٍ شاق في تلقين الصغار أحرف تاريخهم الأولى، أو لتلك الأيام التي أعود من نزه المسؤولية مع براعم هذا الجيل.... أعود إليك يا أمي، لأجد دفئ عطفك يلف دنيا خمولي بعبق تحنانك الآسر... ليدك الملائكية التي تمسح عرق أيامي في الأولى، وتبدد الثانية نزق أتراحي، وهي ترتفع للسنا مع دعواتك الصادقة، وتلك الترانيم العجيبة من الرضى والحب، كزخاتٍ مطرٍ ربيعيّ، تروي الإنسان وتحيي اليباس... كم أحب دعواتك الرحمانيّة... ولا صدق في هذه الدنيا مثل دعوات أمي...

أعود لبابك أماه، وأدقه بكفيّ متثاقلًا برمًا... كلما وجدت الظلام يداهم نفسي الذابلة، أهرع إليك في شدوه واستغراب، ولا أدري هل ألوذ إليك مختارًا طائعًا، أم مجبرًا مسيرًّا بحنين الولد، لا يهمني ذلك طالما أجد عندك الملاذ والموئل....

آهٍ كم كبرت يا أمي، وحريق الشيب يشعل نيرانه في رأسي، ليحيلها حقولًا رماديّة باهتة، هي السنوات يا أمي تلعب معي لعبة العمر كرةً أخرى... أخطو لعقدي الثالث، وما زلت ذلك الشاب اليافع الذي يعشق الجلوس بين يديك، نتسامر في أي شيء، وأوشوشك بأحلامي وآمالي، تستمعين بإنصات وحبّ... الحديث معك له طعمٌ خاص... هو برّ وحاجة.

أرسلت لك رسالة منذ أيام بأنك جميلة جدًا، وما مثلك في الوجود.. فكان ردك متواضعًا كما أنت دائمًا، ولكن جمالك ليس بالضرورة جمال الشكل (مع وجوده وروعته) ولكنه جمال القلب والروح، وأحسب بأن لديك قلبًا نضاحًا بالحب، يفيض عطاء بغير كلل ولا ملل، لكل فرد من الأسرة نصيب من الاهتمام، وقبسٌ من الدعاء، وألحقت بنا الأحفاد ولهم في كل ما مضى نصيبٌ وزيادة...

أمي وتضيع الصور من يدي، كلما أبتعد عنها أراها ضبابيّة مشوشة، فتضيع مني تفاصيلها، فلم أعد أذكر صورًا كثيرة من الطفولة، ولكنّ أشعر بها فهي قويّة التأثير عظيمة الأثر. خيالات من هنا وهناك، أشعر بلمسة الحنو والعطف، بدفئ الكلمة والحرف، أحسّ بيدك تلامس جبيني عندما تتراقص الحمي في عروقي، ويمرّ طيفك بجانبي عندما يخنقني الربو في ليالي الربيع والصيف... لدوريات الاطمئنان على الأغطية في الشتاء القارص... لصباحتك الجميلة وأنت تتفقدين ثياب هذا، وزوادة ذاك .. وحقيبة ثالث...  لنزعك الكتاب من بين يدي بعد نومي من غير ما أشعر... لاكتشافي وأنا مازلت مستيقظًا في حلك الليل... لسبحتك عاجية اللون، وهي تتهادى بين أصابعك، تقلبينها في خشوعٍ واطمئنان، لا تكلف فيهما، وأنت في نورانية الذكر والابتهال... لانتظارك حتى تفرغين من صلاتك، وثوبك الأبيض يزيدك ألقًا، ربما تكون الفكرة تافهة، ولكن انتظارك وأنت في هذا الثوب القشيب من روائع هذه الدنيا ... آه من هذه الصور يا أمي... لها رهج لا يُملّ...

هناك كلمات يا غاليتي، تعلق في الذهن، وتنعكس انعكاسًا فطريًا لا مثيل له، وكم أثرت بنفسي هذه العبارة التي أرسلتها لي، رددتها كثيرًا جدًا، وقلبت أوجهها، من أسمى وأعظم ما قرأت، تكتب كلماتك بماء الذهب، وتختصر الأمومة في كليمة:

"انت شايف قلبي، قبل ما تشوفك عيوني"

وسوم: العدد 728