من نسمات عشر ذي الحجة، وفريضة الحج

خطبة الجمعة 4/10/2013م

د. محمد سعيد حوى

شعائر ومشاعر

﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30]

﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]

فها نحن في ظلال أيام معظمة عند الله سبحانه وتعالى؛ عشر ذي الحجة، وهي التي جاء فيها قوله تعالى ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ ﴾ [الحج: 27-28].

الأيام المعلومات:

فهي الايام المعلومات التي جعلها الله محلا للذكر لاحتضانها فريضة الحج؛ الركن الخامس من أركان الإسلام، وهذه  التي أقسم الله تعالى بها_على رأي كثير من المفسرين_ ﴿ وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ [الفجر: 1-4].ويليها الأيام المعدودات(واذكروا الله في أيام معدودات) وهي أيام التشريق

ولئن كان حجاج بيت الله الحرام  يقصدون تلك الشعائر والمشاعر ليعودوا مغفورا لهم كيوم ولدتهم أمهاتهم؛ فقد جعل الله لنا أيام عشر ذي الحجة وبما فيها يوم عرفة ويوم النحر أياماً معظمة، وأيام ذكر ورحمة ومغفرة وعمل صالح؛ لننال معاشر المسلمين جميعاً بعض شرف هذه الأيام؛ ولا يكون مقصوراً على الحجيج، ولننال المغفرة والرحمة من الله، فلا يكون الأمر مقتصراً على حجاج بيت الله الحرام، وهذا من عظيم فضله سبحانه، فلئن كان شهر رمضان قد اشتمل على عبادة الصوم فكان معظماً عند الله فأيام عشر ذي الحجة اشتملت على أداء فريضة الحج، ونسك الأضحية؛ فكانت معظمة عند الله سبحانه وتعالى، ففي الحديث الصحيح: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يعني الْعَشْرِ...) البخاري، . .

يوم عرفة والنحر:

وفي العشر يكون يوم عرفة في التاسع منها وفي الحديث (عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ ) صحيح مسلم، 1348.

(عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا، هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ، مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ» . قِيلَ وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ) موطأ مالك، 245 . 

(عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ، أَنَّ  رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، له المُلكُ ولهُ الحَمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ)

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ:  إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ) مسند أحمد، 7089 .

ولذلك ندبنا إلى صيام هذا اليوم يوم عرفة ففي الحديث: (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَبه السَّنَةَ الماضية والباقية) صحيح مسلم،1162.

 فلئن كان الحاج يعود مغفوراً له كيوم ولدته أمه فكذلك يريد الله بنا جميعاً أن نتطهر من ذنوبنا ومن أغلال هذه الذنوب لنتحرر من الشيطان وسيطرته ونصل حبالنا مع الله سبحانه.

يوم النحر:

ثم يكون يوم النحر وفي الحديث: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  قَالَ: إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» . قَالَ عِيسَى، قَالَ ثَوْرٌ: وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي ... الحديث) سنن أبي داود، صحيح، 1765 .

(عن ابن أبي أوفى –رضي الله عنه-  كان يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر، يُهراقُ فيه الدمُ، ويوضعُ فيه الشعرُ، ويُقضى فيه التفثُ وتحلُّ فيه الحُرُمُ) الطبراني، 14/ 117.

(عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَوْمِ الحَجِّ الأَكْبَرِ، فَقَالَ: يَوْمُ النَّحْرِ) سنن الترمذي، صحيح، 957 .

فضل الحج ومقاصده وأجر الحجيج:

الحج مدرسة التطهير وطريق الجنة:

والحج والعمرة تطهير مطلق

(من حج ولم يرفث ولم يفسق عاد كيوم ولدته أمه) البخاري.

و(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الجَنَّةُ) سنن الترمذي، حسن صحيح، 810 .

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج) كشف الأستار، 2/40. (عَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، فَبَكَى طَوِيلًا، وَقَالَ: فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْسُطْ يَمِينَكَ لِأُبَايِعَكَ، فَبَسَطَ يَدَهُ، فَقَبَضْتُ يَدِي، فَقَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ قَالَ: تَشْتَرِطُ مَاذَا؟ قَالَ: أَنْ يُغْفَرَ لِي قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ يَا عَمْرُو أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهَدَّمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ) صحيح ابن خزيمة، 2515.

 وطريق إلى الجنة (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ) صحيح البخاري، 1773 .

(عن أَبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَفْدُ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: الْغَازِي، وَالْحَاجُّ، وَالْمُعْتَمِرُ ) سنن النسائي، صحيح، 2625 . وللحجاج خصوصية عند الله (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ، وَفْدُ اللَّهِ إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ) سنن ابن ماجة، 2892 . 

مدرسة الجهاد:

ومن واجبنا أن نستشعر مع الحجيج بعض مقاصد الحج العظيمة:

فالحج مدرسة  في جهاد (عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الجِهَادَ أَفْضَلَ العَمَلِ، أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لاَ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ ) صحيح البخاري، 1520 .

 ولذلك نجد سورة الحج فيها بيان بدأ فريضة الجهاد.(أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) وعندما يُسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فذكرالْإِيمَانُ بِاللهِ ثم الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، ثم الحج المبرور) صحيح مسلم، 84.

مدرسة اليوم الآخر:

 ولذلك نجد أن الحج مدرسة عظيمة متكاملة فكما هو مدرسة الجهاد إذ يخرج المسلم من بيته ويهجر أهله وماله ويتعود الإخشيشان والتقشف والاحتمال والغربة وما قد يتعرض له من أذى فهو مدرسة في التربية على ذلك، والحج مدرسة في إعداد الإنسان للقاء الله واليوم الآخر، ومن كان يعيش حقائق اليوم الآخر فلا بد أن تستقيم أموره وأخلاقه،لذا بدأت سورة الحج يآيات البعث( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم...) فأنت عندما تلبس ثياب الإحرام تستشعر أنك لا تخرج من هذه الدنيا إلا بهذا الكفن، وأنت في طريقك إلى المناسبك تستشعر أنك في سفر إلى الله في كل لحظة وتقترب كل يوم من نهايتك ومصيرك، وعندما تقف في صعيد عرفات فتستشعر الوقوف في ساحات الحشر تستنزل رحمات الله تعالى، فإذا ما أفضت إلى مزدلفة تستشعر ازذلافك إلى الله إذا كنت ممن أعد الزاد وأحسن العمل فكان من الفائزين يوم الحشر إذ تتطاير الصحف فتكون ممن أخذ كتابه بيمينه، فإذا كان لك كذلك نلت المُنى، ومن ثم كان بعد مزدلفة أن تأتي مِنى لترمي جمرة العقبة الكبرى لتعلن انتصارك على عدوك ﴿ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ [طه: 117].

فلإن كنت فعلت ذلك في الدنيا فاسعد بدخولك الجنان ومن ثم يكون بعد رمي جمرة العقبة الكبرى طواف الإفاضة بالبيت وكأنك قد دخلت جنان ربك وحللت في رضوانه فتستشعر كل هذه المشاعر وأنت تطوف طواف الإفاضة ليفيض عليك ربك من رضوانه ورحماته، وقد صليت ركعتين خلف مقام إبراهيم وسعيت بين الصفا والمروة لتستشعر أن كل هذه المناسك والشعائر أثراً عن خليل الله إبراهيم فتستذكر إبراهيم وأهله وولده إسماعيل.

الحج مدرسية الاتباع والاقتداء بأبي الأنبياء:

نعم تستشعر أن كل هذه المناسك والشعائر أثراً عن خليل الله إبراهيم فتستذكر إبراهيم وأهله وولده إسماعيل. فإذا  أنت بين يدي معانٍ عظيمة جداً، تستذكر جهاد إبراهيم في سبيل إعلاء كلمة التوحيد، والبراءة من الشرك وأهله حتى ولو كان والده، فنستذكر ما تحمله من تضحية لأجل تكسير الأصنام والولاء الخالص لله، وفضل الله عليه في إنجائه من النار ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69] فما أحوجنا أن نسير على طريق إبراهيم في تكسير أصنام اليوم؛ من دنيا، ومادة وشهوة، وطواغيت وفراعنة.

وكذلك كل من سار على قدم إبراهيم في رفع كلمة التوحيد والولاء؛ مهما وقع فيه من ابتلاء وكان صادقاً مع الله فإن الله يجعل ذلك البلاء برداً وسلاماً وسكينة وطمأنينة، تستذكر في إبراهيم خضوعه العظيم لأمر الله إذ يجعل زوجه وابنه في أرض لا ماء ولا شجر ولا طير ولا إنس، متوكلاً على الله سبحانه ثم ما منّ الله به من حياة عظيمة لهذه الأسرة الكريمة فكذلك من حمل هذا الدين وخضع لله  فلا بد أن الله سبحانه يكلؤه بعنايته ورحمته (وَمَن يتق الله يجعل له مخرجاً)( ومن يتوكل على الله فهو حسبه) فهو حقق الامتثال لله في أشق التكاليف، ولذلك كان  لإبراهيم  هجرتان؛ هجرة إلى الأرض المقدسة فلسطين، حملاً للتوحيد خضوعاً لأمر الله، لتبارك هذه الأرض العظيمة، وهجرة إلى بيت الله الحرام مرات متكررة ليكون العبد الخالص لله سبحانه ليتكون من وراء ذلك أعظم معاني العبودية لله ﴿ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [النساء: 100]، ولإن كان الحج مدرسة الجهاد فهو مدرسة الهجرة وهو مدرسة الأراضي المقدسة ولا يمكن أن نحافظ عليها جميعاً ونطهرها ونحررها إلا بهذا المنهج الإبراهيمي الهجرة والجهاد بكلمة الحق والصدع بالحق والعبودية لله سبحانه، ليكون من مدرسة إبراهيم هذا الخضوع العظيم عندما يأتيه الأمر الإلهي ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ،  وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ،  وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ ﴾ [الصافات: 101-111]

فكان من أثر ذلك مناسك الأضاجي فديننا دين التضحية والعبودية والهجرة والجهاد وكل ذلك في مدرسة إبراهيم الخليل لنكون الأمة الواحدة، وكل ذلك في مدرسة الحج.فكان من ثمار ذلك أن جعله للناس إماماً، وأن اتخذه الله خليلاً، وجعل له لسان صدق في الآخرين، وأكرم ذريته بالرزق الوفير، وأكرمه برفع قواعد البيت.

 فالحج مدرسة الوحدة الإسلامية الكبرى

فختمت سورة الحج ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ[الحج: 78]

وما أحرانا إذاً أن نجعل من الحج موسماً عظيماً كما نعبر فيه عن الحب لله والشوق إليه وتعظيم أوامره وشعائره فكذلك نتدارس أحوال الأمة فيها وما حل بها، ولذلك كانت أيام منى إذ يبيت الناس في منى ليكونوا في صعيد واحد متجردين لله خارجين من الدنيا في ذكر وعبادة وعلم ومدارسة وتعارف، قد يريد البعض أن يخرج الحج من معانيه العظيمة وواجبنا كيف نفقه الحج بهذه المعاني المتكاملة.حيث مدرسة الحب والتجرد والتضحية والشوق.

الخطبة الثانية:

قد لا يود البعض الحديث في فقه الحج المباشر لكن أود أن أبين يسر هذه الفريضة:

 فهنالك:

أولاً: الأركان التي اتفق عليها معظم العلماء لا يتم الحج إلا بها:

1-              نية الإحرام.

2-              الوقوف بعرفة، ولو لحظات من بعد الزوال التاسع إلى فجر يوم النحر.

3-              طواف الإفاضة، الذي يكون بعد رمي جمرات العقبة.

4-              السعي بين الصفا والمروة بعد أي طواف، سواء طواف القدوم أو طواف الإفاضة.

ثانياً: الواجبات المتفق عليها:

1-              أن يكون الإحرام من الميقات ويلبس ثياب الإحرام ويتخلى عن المخيط بالنسبة للرجال.

2-              الوقوف بمزدلفة بعد عرفة ولو قليلاً .

3-              رمي جمرة العقبة يوم النحر.

4-              رمي الجمار في أيام التشريق في يومين أو ثلاثة.

5-              الحلق أو التقصير.

6-              تجنب محظورات الإحرام، وهي : (الطيب، النساء، اللباس المخيط المحيط، الصيد).

المبيت في منى والوداع:

 أما المبيت في ليالي منى أكثر الليل فواجب عند الجمهور سنة عند أبي حنيفة، وأما طواف الوداع فواجب عند الجمهور سنة عند المالكية، وعندما نقول ركن فلا بد من أدائه، وعندما نقول واجب فإذا فاتك وجب عليك هدي.

نعم لا بد في الطواف من الطهارة من الحدثين وأن يكون سبعة أشواط ويبتدأ من الحجر الأسود  ويكون عن يساره وأن يكون من وراء الحطيم (حجر إسماعيل) والسعي يكون بعد طواف ويبدأ من الصفا.

الأضاحي، وفضلها ومعانيها:

 وتعظيماً لشعائر الله كانت الأضاحي، وفي الحديث: (عن أُمَّ سَلَمَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ فَإِذَا أُهِلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ) صحيح مسلم، 1977.

   وهذا عند العلماء فيمن أعد الأضحية ، ومع ذلك فهذا على سبيل السنية، فمن خالف لا يكون آثماً ومن تجددت له نية الأضحية يضحي ولو لم يمسك لحديث عائشة : (كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ، ثُمَّ يَبْعَثُ بِهَا وَمَا يُمْسِكُ عَنْ شَيْءٍ، مِمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الْمُحْرِمُ، حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ) صحيح مسلم، 1321، وأصله في البخاري.

 وهو إذ يضحي يستشعر عظيم هذا النسك على قدم إبراهيم ، إذ قال فيه سبحانه: ﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات: 107]، وفي ذلك حديث عائشة الذي حسنه بعضهم: (عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِقُرُونِهَا، وَأَظْلَافِهَا، وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ، لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا) سنن ابن ماجة، 3126 .

 وأن يتخيّر من الأضحية أفضلها وأعظمها فقد جاء في حديث أنس ( قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا، يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ) صحيح البخاري، 5558 .

">