سنة الاستخلاف والتمكين في الأرض

أ.د. محمد سعيد حوّى

خطبة الجمعة 6 /3/ 2015م            

15 / جمادى الأولى / 1436هـ

أ.د. محمد سعيد حوّى

إذ نتكلم عن سنن الله في الصراع بين الحق والباطل فلأن من واجبنا أن نتفقه في كتاب الله ونعيش هموم الأمة ونتطلع إلى التغيير الإيجابي وهذا التغيير له سنن وقوانين لا بدَّ أن نعيها ونأخذ بها ونطبقها وكلٌ يبدأ بنفسه فليس هو من ترف القول، ولا ترف الفكر، خاصة أننا في وقت تشتد الأزمات والمؤامرات على الأمة كما يشتد فجور بعضهم ويشتد الحرب على الإسلام من داخله تارةً بالتشويه تارةً أو بالتشكيك في مصادره أو في الطعن في علمائه، والطعن في الصالحين والمصلحين؛ حتى وصل الحال ببعضهم أن يجرؤ على أن يقول هل القرآن صالح لكل زمان ومكان؟ مع أنه يدعي الانتساب للشريعة ثم يأخذ فيشكك يميناً وشمالاً، ثم تجد من يجرؤ في قضية الحجاب على أن يحصر معنى قوله تعالى: ﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ ... ﴾ [النور: 31]

 فيقول إن المقصود الصدر والفرجان فقط فوصل الأمر إلى حالة من الاستخفاف بأحكام الشريعة بإسم الشريعة حداً لا مثيل له من قبل إلا عند الزنادقة.

فإذن نمضي بمعالجة السنن وقد سبق حديثٌ عن عددٍ من السنن، منها: الامهال، الاستدارج، ومكر الله بالأعداء، وتكلمنا في خطبة سابقة عن سنة الاستبدال، وتبين لنا أنه عندما تصبح الأمة بلا فعل، بلا رسالة، بعيدة عن منهج الله، لا تقوم بحق الله وحق دينه، وتتخلى عن مسؤولياتها وقضاياها، ويحل فيها الهوان والوهن، ولا تقوم بنصر الله والانتصار لدينه بحق؛ فإنها تستحق الاستبدال، ولا تكون محل قبول الله ولا رضوانه، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ، إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التوبة:38- 39]

وإذا كان الأمر كذلك فإنما نستذكر هذا الأمر لنحذر أشد الحذر أن يحل بنا سنة الاستبدال، وتتميماً لهذا لا بد أن نتكلم عن السنة المقابلة لهذا الأمر؛ ألا وهي سنة الاستخلاف والتمكين في الأرض، كما قال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ  ...﴾ [الأنعام: 133]

فسسن الاستبدال والاستخلاف أثرٌ عن تجلي اسمي الغني والرحمن الرحيم، فبتجلي اسم الله الغني يتبدل من شاء سبحانه فهو الغني دائما، وبتجلي اسم الله الرحمن الرحيم يستخلف من شاء سبحانه.

وعن سنة التمكين والاسختلاف قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]

إذن بينت لنا الآية الكريمة أن الشرط العام للاستخلاف والتمكين الإيمان والعمل الصالح والعبودية الخالصة لله سبحانه.

وحدثنا القرآن عن أنبياء ورجال وأمم استخلفهم ومكنهم سبحانه من قبلنا لنرى سنن الله في ذلك:

لك أن تقف وتبحث كيف مكن يوسف؟

باختصار:

حدثنا عن التمكين ليوسف عليه السلام، لما كان من المحسنين المتحققين، الصابرين، المخلصين المخلصين:﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 56]

ولاحظ هنا كيف جعل استخلاف وتمكين يوسف أثراً عن رحمته سبحانه وأثراً عن تحقق يوسف بالإحسان الذي هو كمال المراقبة لله بل وكمال الشهود لله في القلب فهو متحققٌ بكمال العبودية.

 تكررت صفة الإحسان في سورة يوسف في وصف يوسف(كذلك نجزي المحسنين)، (إنّا نراك من المحسنين) (إنه من عبادنا المخلصين).

فهو انتصر على الشهوات وإغراء وكيد النساء، ةإغراء المال والسلطان، وحقق العدل المطلق، مع كونه أخذ بالأسباب( إني حفيظ عليم) فهي ترسم معالم التمكين.

وحدثنا عن موسى وقومه، بعد أن قبلوا الاتباع لموسى وقبلوا الهجرة،  قبل أن يرفضوا الطاعة، ويعبدوا العجل: ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 129]

وبين لنا القرآن القانون الرباني في ذلك: ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص:5- 6]

 

وحدثنا عن رجل تحقق بالعبودية لله، وأقام العدل والحق؛  فمكنه الله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً ، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ، فَأَتْبَعَ سَبَباً ﴾، (هذا الشرط الأول الأخذ بالأسباب، إيمانية ومعنوية، وأخلاقية، وقوة مادية، ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا القَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ، قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً ، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ، ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ﴾ [الكهف:83- 89] وتتكرر قوله فأتبع سببا وقوله ثم أتبع سببا ثلاث مرة ليؤكد على الأخذ بالأسباب,(إذن لإقامة الحق والعدل كان منهجه طاعة لله).

فلما كانوا تحققوا بالإيمان والصبر واستضعغوا لكن لم يستسلموا وكان بالمقلبل الظالم الطاغية قد اشتد علوه وطغيانه وفساده؛ كان التمكين.

وقد بينت سورة المائدة صفات هؤلاء القوم الذين يستخلفهم الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ، وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ ﴾ [المائدة:54- 56]

ومفتاح كل هذه الصفات يحبهم ويحبونه، لذلك نريد منهجا عمليا مباشراً؛  لِمَ يستخلفهم الله؟ ومَن هؤلاء الذين  يحبهم الله ويحبونه؟ لنتحقق بذلك، ومَن هؤلاء الذين لا يحبهم الله لنتطهر من ذلك، لعلنا نبين ذلك في خطبة  قادمة إن شاء الله.

إن وظيفة الممكنين الذين يستخلفون ويريدون الحفاظ على استخلافهم بينت لنا:﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]

عندما تفتقد الأمة أسس التمكين في الأرض ماذا يحدث وله أسباب: فعندما يطول أمد أسر المسجد الأقصى، وعندما يشتد سفك دماء المسلمين في سوريا والعراق، وعندما تشتد الفتن في بلاد عربية كاليمن وغيرها فتصادر إرادة الشعوب وتنفق الأموال لأجل الفتن والتمزيق وإعاقة الأمة ومنع تقدمها، وتحرق في ميادينها وساحاتها، ويزداد الترف والفسق، بينما يزداد الفقر الظلم والسحق للمستضعفين في الأرض؛ ويزداد الهجوم الشرس على الإسلام ، وعلى القرآن وعلى السنة، (تصوروا عندما يجرؤ البعض على طرح التشكيك بأن القرآن ليس صالحاً لكل زمان ومكان؟؟؟)أين نحن؟ 

بل وأكثر من ذلك عندما يوصم فئة من أهل فلسطين الذين يقومون بالدفاع عن المقدسات نيابةً عن الأمة كلها يُوصمون بالارهاب إذن نحن أمام منعطف خطير أإلى هذا الحد بلغت الوقاحة والفجاجة ببعضهم، بينما يصبح نتنياهو صديقاً؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!

الخطبة الثانية:

يروى أنه جاء رجلٌ إلى أبي الدرداء فقال: يا أبا الدرداء قد احترق بيتُك، فقال: ما احترق، لم يكن الله عز وجل ليفعلَ ذلك بكلمات سمعتهنّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قالها أوّل نهاره لم تصبْه مصيبةٌ حتى يُمسي، ومَنْ قالها آخرَ النهار لم تصبْه مصيبةٌ حتى يُصبحَ: " اللَّهُمَّ أنتَ رَبي لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وأنْتَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، ما شاء الله كان، وما لم يَشأْ لَمْ يَكُنْ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيّ العَظِيمِ، أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كل شئ قدير، وأن الله قد أحاط بكل شئ عِلْماً، اللَّهُمَّ إِني أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرّ كُلّ دَابَّةٍ أنْتَ آخِذٌ بِناصِيَتها، إنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ".

ورواه من طريق آخر، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقل: عن أبي الدرداء، وفيه: أنه تكرر مجئ الرجل إليه يقول: أدرِك دارَك فقد احترقتْ، وهو يقول: ما احترقتْ لأني سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: " مَن قال حين يُصبح هذه الكلمات، لم يُصبه في نفسه ولا أهله ولا ماله شئ يكرهه "، وقد قلتها اليوم، ثم قال: انهضوا بنا، فقام وقاموا معه، فانتهوا إلى داره وقد احترق ما حولها ولم يصبها شئ ". {الأذكار، للإمام النووي: ص 79 – 80}.