الجريمة واحدة، ومنهج الانتصار للحق واحد

خطبة الجمعة 6  /2 / 2015م

17 /ربيع الآخر / 1436هـ

أ.د. محمد سعيد حوى

﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران:169]

وقف العالم مشدوهاً مذهولاً أمام شناعة الجريمة التي ارتكبها القتلة بحق الطيار الشهيد معاذ الكساسبة، يرحمه الله.

نعم ليست أول جريمة حرق لإنسان وهو حي.

- الذي حرّق الكساسبة هو ذاته الذي حرّق الشهيد محمد أبو خضير إذ حُرّق على يد قطعان المستوطنين في القدس وهو حي أيضاً، فلقد شابهت أعمال هؤلاء القتلة أعمالَ قطعان الصهاينة المجرمين، إنه منهج الصهاينة، المجرم واحد في المنهج والتفكير والفعل، ويجب أن يكون التعامل واحداً في الانتصار للحق والوقوف في وجه المجرم.

- الذي حرّق الكساسبة هو ذاته الذي حرّق عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الأطفال والنساء والمدنيين والشيوخ والشباب في سوريا؛ الذين قُتلوا حرقاً بالبراميل المتفجرة أو بالكيماوي على أيدي الطغاة المجرمين، المجرم واحد في المنهج والتفكير والفعل، ويجب أن يكون التعامل واحداً في الانتصار للحق والوقوف في وجه المجرم.

-  الذي حرّق الكساسبة هو ذاته الذي حرّق المدنيين  والجرحى في ميادين وساحات مختلفة، فهي إذن ليست أولى ولا ثانية بل ثالثة ورابعة.

 إنها لغة الإجرام الواحد، ولغة الطغيان الواحد، ولغة الفرعنة، ولغة الاستكبار، ولغة الدم، ولغة أعداء الأنبياء والرسل الذين أرادوا أن يحرقوا إبراهيم صلى الله عليه وسلم،والذين حرقوا أهل الأخدود، فلعنهم الله،  إذن المجرم واحد في المنهج والتفكير والفعل، ويجب أن يكون التعامل واحداً في الانتصار للحق والوقوف في وجه المجرم.

 

إدانات واسعة: وشاملة:

أدان العالم كله الجريمة النكراء بحق الشهيد معاذ الكساسبة، وهي جريمة لا توصف في بشاعتها، ولكن بعض العالم ما زال يدافع عن بعض الطغاة القتلة المجرمين.

نُدين بشدة هذه الجريمة النكراء الشنيعة بحق معاذ الكساسبة، وندين هؤلاء القتلة، ونُدين كل قاتل ومجرم وظالم. 

جريمة غاية في الشناعة

ومما زاد في شناعة هذه الجريمة :

أولاً:  أنّ الشهيد أسير، وعلمنا الإسلام كيف نتعامل مع الأسير، ذلك أن له أحكاماً خاصة، ولا يُطبق عليه لا أحكام قصاص ولا أحكام قاتل، ولا أحكام عقوبة حدود من أي نوع، أي لا يُطبق عليه أياً من أحكام الجنايات، لماذا؟

الأسير يُقاتل قبل أن يؤسر لأجل فكرة آمن بها، ويُقابله مقاتل آخر يقاتل لأجل فكرة آمن بها، وكلاهما معرضٌ للقتل أو الأسر، لذلك لا يُطبق عليه أحكام من ذكرنا من قصاصٍ أو حدود لأنه لا يُقاتل لأجل غرض ذاتي أو شخصي بل بقصد الانتصار لفكرة آمن بها، وهذا حال كلا الطرفين ، فقدّر الإسلام ذلك .

لذلك الذين كانوا يُــــؤسَـــرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين جاؤوا بقصد قتل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه والقضاء على الإسلام كله ومع ذلك أنزل الله ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ [الإِنسان: 8]

﴿ فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ﴾ [محمد: 4]

لماذا لم يقل الله فاقتلوهم إذا أسرتموهم مع أنهم جاؤوا ليقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم وللقضاء على الإسلام؟ إذن عاملهم معاملة خاصة؛ عاملهم أنهم أصحاب فكرة يٌقاتلون لأجلها يقابلهم مقاتل يقاتل لفكرة أيضاً.

أما تطبيق الحدود والقصاص فإنما تكون في حق إنسان معتدٍ ليس مقاتلاً في معركة 

ثانياً: وزاد في شناعة الجريمة طريقة القتل، التي هي في الأصل منافية للإسلام تماماً، وأنها كانت بالتحريق.

ثالثاً: وزاد في شناعة الجريمة أنهم نسبوها للإسلام، وأن الإسلام يُقر ذلك، وأخذوا ينقلون أقوالاً مردودة على أصحابها ليبرروا شناعتهم.

رابعاً: وزاد في شناعة الجريمة أنهم نسبوا جواز ذلك لأبي بكر وعلي وخالد رضي الله عنهم، قاتلهم الله أنّى يؤفكون،  أما يكتفون بالجرائم يُريدون أن يشوهوا أجمل صورة لأرقى صحابة.

خامساً: وزاد في شناعة الجريمة أنهم افتروا على رسول الله  صلى الله عليه وسلم وما زالوا يفترون؛ إذ اتهموه أنه صلى الله عليه وسلم سمل أعين رعاة بحديد محماة، ونقد الأحاديث يؤكد أن هذا لا يصح.

سادساً: وزاد في شناعة الجريمة أنهم خالفوا أحاديث صحيحة صريحة في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التحريق بالنار للإنسان أوالحيوان، وعن التمثيل بالإنسان حتى بعد موته:

 

نصوص في النهي عن التحريق والمثلة:

١- ففي البخاري: قال ابن عباس لعلي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تعذبوا بعذاب الله) البخاري  ٣٠١٧

٢- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث وقال لنا: «إن لقيتم فلانا وفلانا - لرجلين من قريش سماهما - فحرقوهما بالنار» قال: ثم أتيناه نودعه حين أردنا الخروج، فقال: «إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما» البخاري ٢٩٥٤و٣٠١٦

3- وفي سنن ابي داود، عن حمزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه لا يعذب بالنار الا رب النار) وقال الالباني صحيح ، السنن ٢٦٧٣

4- وفي البخاري عن عبدالله بن يزيد الأنصار : (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النُهبى والمثلة ) ٢٤٧٤ و 5516

والمثلة: أن يقطع شيئاً من القتيل أو يشوهُهُ فإذا كان الأمر كذلك حتى بعد القتل فكيف قبله.

أيهجرون هدي النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ويتبعون أقاويل لاتمت للدين بصلة، أي إجرام!؟  

بل كان النهي حتى عن تحريق الحيوان:

5- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْتِهَا فَأُحْرِقَ بِالنَّارِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً " البخاري ٣٣١٩،ومسلم 2241 .

سابعاً: ولو تأملنا في القرآن والتاريخ فإنه لم يلجأ إلى تحريق الأسير أو المخالف في الرأي أو التحريق للخصم إلا أعداء الأنبياء من القتلة والمجرمين كما أراد المجرمون الكفرة أن يحرقوا إبراهيم عليه الصراة والسلام، وكما فعل المجرمون بأهل الأخدود الذين قال الله فيهم ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ﴾ [البروج: 4] {أي لُعن الذين حفروا الأخاديد للمؤمنين} ﴿ النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴾ [البروج:5- 7]

من هؤلاء القتلة، وما حكمهم؟

إنّ هؤلاء الظلمة القتلة قتلة معاذ الكساسبة وأمثالهم أقرب ما ينطبق عليهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

١-قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الحَرْبَ خَدْعَةٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ، حُدَثَاء الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، (لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ)، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ» البخاري ٣٦١١ومسلم 1066.

 2- وعن أبي سعيد الخدري  قال رسول الله: " إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا، ( شخص يقال له ذو الخويصرة)أَوْ: فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ " البخاري٣٣٤٤ ومواطن أخرى، ومسلم 1064 1065.

وفي أبي داود:

3- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا سِيمَاهُمْ؟ قَالَ: «التَّحْلِيقُ». سنن أبي داود 4765، صحيح.

وحذرنا من أصناف:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ» مسلم (1848).

أسباب التطرف:

وإذا كان الأمر كذلك فما أجدرنا أن نبحث في نشوء هذا الانحراف وهذا التطرف:

1-  بعضه صناعة مصنوعة لتشويه صورة الإسلام، والتفريق بين المسلمين، والاقتتال بينهم ، واستنزاف الأمة والموارد، والفتن.( انظروا ماذا حصل في سوريا؟ لمّا كان الثوار السوريون قد حرروا أكثر من نصف من سوريا أطلق العنان لما سُمي بداعش لتبدأ بقتل الثوار أنفسهم بحجة أنهم مرتدون، وليترتب على ذلك اجتماع العالم لصالح النظام القاتل ضد الثوار بعد أن كان بعضهم متعاطفاً مع الشعب).

2-  قد يكون ما تعانيه الأمة من قهرٍ وظلم واستبداد وخروج عن منهج الله وهضم لحقوق الإنسان وانتهاك للمقدسات سبباً من أسباب هذا الانحراف والتطرف وهذه الظلامية.

3-  وقد يكون الجهل بالشريعة وعدم تحرير النصوص والأحاديث والأقوال وعدم الفهم الصحيح للكتاب والسنة سبباً آخر في نشوء هذا الانحراف والزيغ والظلامية.

4-  وقد يكون محاربة المصلحين المخلصين المعتدلين من الدعاة وتغيبهم في السجون أو منعهم من القيام بواجباتهم الدعوية سبباً في نشوء هذا الانحراف والفكر الظلامي.

5-  وقد يكون بعض هؤلاء المنحرفين الظلاميين قد عاشوا في سجون ظُلام طغاة فكوّن نفسيات حاقدة منحرفة ومريضة؛ كردة فعل على ظلم الظالمين الآخرين.

الواجب:

كل ذلك يدعونا إلى الوعي والوحدة والتيقظ والحرص على أمتنا وأوطاننا وأمننا و وحدتنا وتماسكنا وتصحيح تصوراتنا نحو الإسلام العظيم ببهائه وجماله وسموه ونقائه وعدالته ورفع المظالم بيننا فلا يبقى مظلوم ولا سجين بلا حق، والواجب أيضاً أن نتعامل مع كل قاتل ومجرم وظالم بمنهجية واحدة فنقف مع الحق دائماً ونرفض الإجرام والظلم أياً كان فمن ينتصر لأهلنا في فلسطين ومن ينتصر للشعب السوري المظلوم ومن ينتصر لكل الضحايا الذين قُتلوا أو حرقوا بالبراميت المتفجرة أو بالكيماوي أو في غيرها من الساحات كما قلنا ليست أولى ولا ثانية بل ثالثة ورابعة.

نسأل الله أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ويلهم أهله الصبر والسلوان وينزل السكينة على قلب والديه و زوجه وإنا لله وإنّـا إليه راجعون.