سنن الصراع بين الحق والباطل (7)

خطبة الجمعة 13 / 2 / 2015م

24 / ربيع الآخر / 1436هـ

 سنة الاستبدال

أ.د. محمد سعيد حوى

تعمل سنن الله في هذا الكون وفي الخلق، ومنها سنن الابتلاء، والتمحيص، والتطهير، وسنن الاستدراج والإمهال، والمكر بالظالمين، ثم إذا لم تنهض الأمة، مع ذلك كله، بسمؤولياتها وواجباتها، ولم ترتق إلى التحديات، ولم تكن أهلاً للنصر؛ تقع سنة الاستبدال؛ اقرأ معي قوله تعالى:

﴿ فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ، إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ، إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ، هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد:35- 38]

أين جاء ذلك؟ في سورة القتال؛ سورة محمد؛ لأن الجهاد الحق عنوان الأمة التي تستحق الحياة، وجاء بعدها سورة الفتح؛ لأننا إذا كنا أهلاً للفتح لا نستبدل، وقبلها سورة الأحقاف التي حدثتنا عن الجن الذين آمنوا إذ لم يؤمن أهل الطائف؛ نوع من الاستبدال، وحدثتنا عن هلاك عاد؛ مظهر من مظاهر الاستبدال.

عندما نأتي إلى سنة الاستبدال نقف أمام أمرٍ خطير، متى يحصل الاستبدال؟ ولماذا؟

سياق الآيات يدل على ذلك :

إذن عندما لا تستجيب الأمة إلى أوامر الله الكبرى كالإنفاق في سبيل الله،(والإنفاق ميدانه واسع) ومن ثم تمتنع عن الوقوف مع الأمة في قضاياها، ومن ثم تصبح أمة بلا فعل بلا استجابة، بلا رسالة، مع المخالفة لمنهج الله، وإذا وقعت الأمة في الوهن والهوان، وخلدت إلى اللعب واللهو، وتخلت عن مسؤولياتها تجاه دينها وربها؛ يقع الاستبدال، والله غني عنّـا وعن غيرنا.

مواصفات من يقبلهم الله ولا يستبدلهم:

عندما نتخلى يستبدل الله بنا غيرنا؛ لكنهم يكونوا قائمين بحق الله، تفسير ذلك في قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ، وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ ﴾ [المائدة:54- 56]

اشتملت الآيات على صفات الأمة التي يقبلها الله ويثبتها (حبٌ لله، ينبثق عنه الذلة على المؤمنين، العزة على الكافرين، الجهاد، ولا خوف إلا من الله، الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين) وعندما تتخلى الأمة عن هذه الصفات يقع الاستبدال، فأين نحن منها اليوم؟

وعندما نتحدث عن الاستبدال فالقصد الأعظم أن نبحث كيف نكون محل قبول الله ولا نكون محل الاستبدال، وذلك من خلال الصفات التي ذكرت، فما نصيب كل واحد منا من تلكم الصفات. ابحث في نفسك(حبٌ لله، ينبثق عنه الذلة على المؤمنين، العزة على الكافرين، الجهاد، ولا خوف إلا من الله، الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين)

وهل دخلنا في مرحلة الاستبدال؟

الأمر جد خطير،

﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً ﴾ [النساء: 133]

﴿ وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ، إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ [الأنعام:133- 134].

فإذن سنة الاستبدال والاستخلاف عندما تتخلى الأمم أو الأفراد؛ لابد أن تعمل، وهذا تأكيد على  استغناء الله، وتأكيد على أنك أنت المحتاج إلى رحمة الله من خلال القيام بواجباتك، وأن الأمم التي لا تقوم بواجباتها ومسؤولياتها لا يعود لوجودها معنى؛ فلابد أن تستبدل.

قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25]

﴿ ... إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴾ [الرعد: 11]

وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾ [الإسراء: 16]

﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً ـ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ﴾ [الطلاق:8- 10]

إن الأمر جد خطير ومن الأخطار التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» سنن أبي داود/ صحيح .

ولمعاذٍ رضي الله عنه كلام مهم يحذرنا فيه من جملة أخطارٍ:

 " إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ حَتَّى يَأْخُذَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالصَّغِيرُ، وَالْكَبِيرُ، وَالْعَبْدُ، وَالْحُرُّ، فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا لِلنَّاسِ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ؟ مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّمَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ، وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ "، قَالَ: قُلْتُ( القائل يزيد بن عميرة تلميذ معاذ) لِمُعَاذٍ: مَا يُدْرِينِي رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: «بَلَى، اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ الْمُشْتَهِرَاتِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا مَا هَذِهِ، وَلَا يُثْنِيَنَّكَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلَقَّ الْحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا» سنن أبي داود/ صحيح الإسناد موقوف.

فنحن أما فتن المال والدنيا، وفتن ادعاء القرآن مع جهل به وتنكب لطرقه، حتى يدعي العلم به المنافقون، ثم فتن الابتداع، حتى الحكيم قد يقع منه الزلة فيرفضها الموقف الجمعي للأمة.

الخطبة الثانية:

ما أحوجنا كما قلنا مراراً أن نتفاعل مع الإيمان ونكون أقرب إلى الله وأشد ثقة به وتوكلاً عليه ورضاً بما عنده.

يروى أن أبا جعفر المنصور كان يريد قتل جعفر بن محمدبن علي بن الحسين بن علي( جعفر الصادق) ... فلما أدخل على أبي جعفر المنصور وكان يهم بقتله فتمتمَ جعفر بن محمد بكلماتٍ وقال يا أمير المؤمنين: إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظُلمَ فغفر، وأنت على إرثٍ منهم وأحق من تأسى بهم .

وإذا بحال أبي جعفر المنصور يتغير؛ ثم أكرمه وخرج من عنده، فقال وزير أبي جعفر المنصور لجعفر بن محمد: ماذا قلت عندما دخلت عليه فإنه كان يريد قتلك.

فقال: دعوت الله فقلت: " اللهم احرُسني بعينك التي لا تنام، واكنُفْني بكنفك الذي لا يُرام، ولا أهلِكُ وأنت رجائي، فكم من نعمةٍ أنعمتها عليَّ قلّ عندها شكري، فلم تحرمني، وكم من بليةٍ ابتليتني بها قلَّ عندها صبري، فلم تخذلني، اللهم بك أدرأُ في نحره، وأعوذ بخيرك من شره. " {العقد الفريد، لابن عبد ربه: 3 / 224_225} .

وبقطع النظر عن صحة الإسناد فالمقصود من ذلك حال القلوب مع الله إذ تتوكل عليه والثقة بهِ، كما كان حال إبراهيم عندما ألقي بالنار فكانت برداً وسلاماً عليه؛ إذ الأنبياء أعظم من توكل على الله.

قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران:173- 175]

نعم لقد تحقق بحب الله و وثق بحبه لله وحب الله له، فلم يخف في الله لومة لائم.

(كما مرَّ في آيات المائدة قبل قليل) .