عنف الثورتين الفرنسية والروسية

العلامة محمود مشّوح

عنف الثورتين الفرنسية والروسية

ونتائج الحرب

26 / 3 / 1976

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون ، أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :

ما تحدثنا عنه في الجمعة الماضية هو بعض من الدروس المستفادة من تاريخ النبوات السابقة على نبوة سيدنا محمد صلوات الله عليه وآله وسلم ، وكما ذكرنا فإن الله تبارك وتعالى اقتص علينا في القرآن الكريم من نبأ المرسلين ومن نبأ أقوامهم ما يثبّت الأفئدة ويفيد العبرة ، كي لا نرتكب مثل الذي ارتكبوا ، وكي لا نسقط في مثل ما سقطوا فيه . وليس عندي في الحق ما أضيفه في هذا المجال إلى الذي قلته في الجمعة الماضية ، وإن كان مجال القول في هذه الناحية متراحباً شديد التشعب عظيم الارتباط ، ثم هو يتمتع بضرورة حاسمة في أيامنا هذه ، ولكن المنابر لها أسلوبها ، وحق مثل هذه الموضوعات أن ُتكتب لا أن يُتحدث بها على المنابر ، إلا أن بعضاً من الإخوة حفظهم الله تعالى نبهوني إلى التباس وقع فيما يختص بنحلة أريوس الذي كان يدعو إلى الوحدانية في القرن الثالث الميلادي والذي حاربته المسيحية وطاردته وتغلبت عليه في مجمع نيقيا عام ثلاثمائة وخمس وعشرين في الميلاد ، ومعهم الحق في هذا الالتباس إن كان الأمر على النحو الذي قالوه ، لقد دعوت بالشريط المسجل وإلى غاية الأمس وصباح اليوم أردت أن أستمع إليه لأكتشـف هذا الالتباس ، فلم تسمح لي كثرة الشواغل بشيءٍ من هذا ، فأنا مضطر إلى أن أصحح المسألة ، لأنها خطأ علمي إن كان الأمر على النحو الذي أخبرني به الإخوة مشكورين يجب أن يصحح ، لأن هذه معلومات أصبحت في ذمة التاريخ ، وواجب الإنسان حيالها نقلها بدقةٍ وأمانة .

       في هذه الناحية كنت أتحدث عن مدرسة الإسكندرية المعروفة في تاريخ الفلسفة باسم الأفلاطونية الحديثة ، وطلبت إليكم أن تتذكروا الإسكندرية ، وفي الحقيقة فإن أريوس كان أسقف الإسكندرية ولكنه رجلٌ لم يلوَّث بأدران الوثنية ، ولهذا فهو لم يتورط بالقول بألوهية عيسى وبالثالوث الذي انتهى إليه مجمع نيقيا بتأثيرٍ من الإمبراطور الروماني الوثني قسطنطين الذي تظاهر بالدخول في الكنيسة وبالدخول في النصرانية ورفض أن يُعمّد مسيحياً إلا بعد أن أصبح على فراش الموت ، وكان طيلة عمره رجلاً من رجال السياسة يهتم باستقرار المملكة واستتباب الأمن في ربوعها وعدم ظهور بوادر التفرق والخلاف ، والنقود التي ضُربت في عهد قسطنطين الإمبراطور الروماني والمحفوظة الآن في المتاحف تشير إلى هذا ، فالنقود ضُرب على أحد وجهيها شعار الصليب الذي هو شعار النصرانية ، وضرب على الوجه الآخر تمثال جوبيتر الذي هو كبير آلهة الوثنية اليونانية القديمة . فالرجل لا يطمئن كبار الثقات من المؤرخين بصحة مسيحيته ، ويكفي أن نرجع إلى مؤرخٍ ثقه كالأستاذ فيشر في تاريخه ( تاريخ أوروبا في العصور الوسطى ) لندرك عظم الريبة التي تنتاب المؤرخين في صحة دخول قسطنطين في النصرانية . فآريوس رجلٌ من الموحدين الذين كانوا حقيقةً على دين عيسى كما أنزله الله تعالى ، يقول : إن عيسى عبدٌ أنعم الله عليه لا أكثر ولا أقل ، اختصه بالرسالة وكلفه بإبلاغها إلى الناس ولا زيادة ، وأما مدّعيات بعض رجال الكنيسة من إضفاء طابع الوثنية عـلى العقيدة المسيحية فشيء رفضه آريوس ، وسبق قبل مجمع نيقيا عام ثلاثمائة وخمسٍ وعشرين أن دُعي إلى مجمع اجتمع فيه رهبان مصر وليبيا وحرّموا بدعة آريوس وقرروا طرده من الكنيسة وإحراق كتبه ومطاردة تعاليمه . المأساة عند هذا الحد لم تشكل نقطة الانفراج بالنسبة للمسيحية ، لكن نقطة الانفراج في الحقيقة تشكلت مع مجمع نيقيا ، ففي ذلك المجمع قُررت بصورةٍ نهائية ألوهية عيسى صلوات الله عليه ، وتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً . مَن الذي حمل هذه الراية ؟ حملها راهب كان في معية آريوس من تلاميذ المدرسة الأفلاطونية الحديثة اسمه ( ألكسندر ) فهو الذي أثار المسألة وحرّض قسطنطين وبمساعدة عددٍ من الرهبان تمت الدعوة إلى مجمع نيقيا فاجتمع فيه ألفان وثمانيةٌ وأربعون راهباً ، اختلفوا في هذا الموضوع وعلت أصواتهم ورمى بعضهم بعضاً بالكفر والإلحاد والمروق والوثنية ، فاختار قسطنطين منهم ثلاثمائة وثمانية عشر سلمهم كل إمكانيات السلطة ليقرروا العقيدة التي يرونها تحت رياسته ، ورياسته رياسةٌ وثنية في الأصل متأثرة بالفلسفة التي كانت سائدةً في العصر الروماني في ذلك الحين والتي تقول باختصار : إن الله الواحد يستحيل أن يصدر عنه العالم المتكثر ، لأن صدور العالم المتكثر يقتضي الحركة ، والحركة تقتضي التغير ، والتغير يقتضي الحدوث ، ففراراً من هذا الإشكال قالوا : إن الواحد الأول صدر عنه العقل الفعال ، والعقل الفعال صدرت عنه النفس الكلية ، والنفس الكلية صدرت عنها الأكوان المتكثرة وفاضت عنها ، وهذا هو ملخص نظرية الفيض المعروفة في تاريخ الفلسفة . نلحظ أن الأفلاطونية فيها فيها ثلاثة مبادئ أساسية ، ونلحظ أن النصرانية قررت ثلاثة أقانيم متأثرةً بهذا الجو الإسكندري المحض الذي كانت مدرسته تحمل لواء الفلسفة الأفلاطونية . استنتجنا من هذا أن الإسلام لا يستطيع من البدء أن يضع رسالته تحت سيطرة سلطةٍ زمنية ، لأن السلطة الزمنية إما أن تحذف نفسها وإما أن تحذف الرسالة ، ومعلوم أن الإسلام يقوم على أساس حذف كل سلطة لا تتواءم ولا تتناسب مع سلطة الإسلام ، وهذا درس من الدروس المستفادة من النبوات السابقة التي نشأت في الزمن القديم تحت ظل سلطاتٍ زمنية فتأثرت بها فدخلها التحريف والتغيير والتبديل ، والفرق بين الإسلام الذي نشأ في جوه الحر المتحرر الذي أنشأ سلطته الخاصة ، مؤسسةً على عقيدته الخاصة ، منبثقةً عن هذه العقيدة وفق تصورٍ مسبق وتصميمٍ مرسوم . هذا ما أردت أن أصحح به ما ربما وقع من الالتباس في الجمعة الماضية .

وموعدنا اليوم حديث غيره ، نحن اليوم نريد أن نواجه القضية التي تشكل عندنا أهميةً حاسمة ، ولماذا تشكل هذه الأهمية ؟ تشكل هذه الأهمية لأن الجو العام في العالم كله خضع لانطباعات ومؤثرات ـ هي وفاقاً لموازين الإسلام ومقاييسه الاعتقادية والعملية ـ تحمل نُذر خطرٍ ماحق ليس على الإسـلام وحسب ، وإنما على البشرية ككل . القضية هي قضية العنف في الدعوة وعدم العنف في الدعوة ، أي السلوكين أجدى ؟ وأي السلوكين أقوم ؟ وأيهما أدعى إلى أن تصحح الأوضاع باتجاه الإسلام تصحيحاً مبرءاً من العقد والانتكاسات . هذا الموضوع في الواقع كنت أثرته بصورةٍ مبدئية في أوائل الصيف الماضي يوم كنا نخطب في الجامع الوسط ، وأثرته في ظروف شاء الله أن تثار فيها ، وكنت أرى أن العنف لا يُجدي ، وأن العنف يُخرب الشخصية الإنسانية ، وأن العنف يولّد في المجتمعات ردود أفعال غير مأمونة العواقب ، ثم كان بعد أيام فتلقيت من أخ كريم رسالة بعد الخطبة الأولى ، يتساءل فيها برفق وباحترام : كيف يمكن لنا أن ندعو إلى العنف مع حاكمٍ أو سلطة استنزفت دم الشعب وجلدت الأحرار وأراقت الدماء وضيّقت على الحريات ووضعت الناس في سجنٍ كبير ؟ وأخذت الكتاب وقرأته وطويته ووضعته في جيبي وقلت لصاحبه : سأجيبك إن شاء الله . وإلى تاريخه لم أجب الرجل على أسفٍ ممض أحسه حتى الآن . شاء الله أن نبدأ موضوعاتنا الأخيرة وأن يكون للعنف والحديث عنه مكانةٌ خاصة في هذا الأحاديث نحن اليوم نواجهه ، لكني أريد أن أقول : للأمانة إنني أشعر بأن هذا الأخ وبقية الإخوة الذين يشعرون بهذه المشاعر ويحسون هذه الأحاسيس ويفكرون على هذا النحو معهم بعض العذر لا كل العذر ، ظواهر الأمور توحي بأن الذي يضغط ويكبت ويعتدي ويظلم إنسان عدو للشعب يجب أن لا يتفاهم معه الشعب إلا بلغة الحديد والنار والدماء والدموع ، ولكني أريد أن أتساءل وأن تتساءلوا معي : أترى ظواهر الحياة الاجتماعية الإنسانية شيء ينزل من السماء أو ينجم من الأرض مبتوت الصلة بما قبله مبتوت الصلة بما حوله أم الظواهر الاجتماعية حصيلة تفاعلات طويلة وعديدة ومعقدة تربط بينها عوامل شديدة التعقيد ؟ لا شك أن الظاهرة الاجتماعية هي حصيلة عوامل تمتد في الزمان والمكان طولاً وعرضاً ، وحين نأتي إلى الظاهرة كظاهرة لنبني آراءنا على أساسها فهذا موقف سليم في ظاهر الأمر ، هروبيٌ في التحليل الأخير وفي محصلة الحساب ، هروبيٌ لأنه يشكل نوعاً من الإسقاط ، فنحن سمحنا بالتغاضي وبالتهاون وبالتخلي عن الواجبات وبالكف عن الرقابة وبإسقاط واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أكتافنا ، سمحنا ببروز الظاهرات المرضية ، والظاهرات المرضية كنقط المطر التي تنزل واحدةً واحدة ، ولكنها من حيث المآل تشكل سيلاً عارماً يجرف كل ما أمامه . مَن المسؤول عن بروز الظاهرات الاجتماعية الشاذة سواء في الحياة الاجتماعية أو في الحياة السياسية أو في الحياة الاقتصادية ؟ المسؤول ليس الحاكم الذي هو المحصلة النهائية لهذا العدد الذي لا يتناهى من الأسباب ، لا ، هو طرف من جملة الأطراف ، ولعله أن يكون الطرف الذي يستدعي الشفقة والرثاء ، أما الطرف الذي يستوجب المحاسبة ويستوجب التدقيق ويستوجب طول الوقوف في الأخذ والرد معها فجمهور الشعب ، جمهور الشعب الذي سمح باللامبالاة وبالتخفف من المسؤوليات وبالجبن وبالانهزامية والهروب أن تبرز ظواهر سلبية وخطرة من هذا النوع .

أنا في الحقيقة كما قلت أعطي تساؤل الأخ وكل الذين يشاركونه الرأي والإحساس جانباً من المشروعية ، ولكني وفاقاً لما أخذت به نفسي من نهجٍ علمي لا أستطيع أن أُسقط من المسؤولية أطرافها التي تشترك فيها ، المسؤولية واضحة وأطرافها قسم بارز على السطح يطفو ، والقسم الآخر يضع رأسه تحت الماء لا يكاد يُرى ، ولكنك لو غمستَ يدك قليلاً لعثرت على الرؤوس التي أفرزت هذه الظواهر المرضية . وبعدُ فالحديث عن هذه الظاهرة ـ وهي ظاهرة مزعجة ـ حديث يقتضي شيئين ، واسمحوا لي إذا قلت لكم : إنني اليوم سأقدم لكم وجبةً عسيرة الهضم لا تكاد تسمعون فيها آيةً من كتاب الله ولا حديثاً من أحاديث رسول الله ولا واقعةً من وقائع السـيرة ، وإنما هو المحاكمة والمحاكمة العقلية الجافة فقط ، تقتضي منا أولاً أن نتعرّف على التربة التي ولّدت ظاهرة العنف ، تلك الظاهرة التي تطبع عصرنا الحديث بطابعها الظاهر البارز . والشيء الثاني ـ الذي تقتضيه ـ شعور بأقصى درجةٍ ممكنةٍ من الأمانة في مواجهة الوقائع .

منذ زمن وأنا أريد أن أقطع من التاريخ منظوراً خاصاً ، طبعاً لا أتكلم عن القضية من وجهة نظر الإسلام ، فذلك الحديث يأتي في الجمعة القادمة وما يليها ، إنما أريد أن أتتبع الظاهرة الموجودة اليوم .. منذ زمنٍ بعيد ، منذ أكثر من قرنين كان الناس يعيشون حالةً لا عقلانية ، لا شعورية ، ثمة ملك أو أمير حوله حاشيةٌ من الإقطاعيين والفرسان ، وحولهم يدور عدد من المثقفين ، هؤلاء هم الذين يفكرون ويقررون ويقدرون وينفذون ، وأما جماهير الناس ، السواد الأعظم ، الذي تنعكس عليه آثار هذه التصرفات ، والذي سيعاني من هذه النتائج معاناةً حقيقية فهو غائب عن المنظور التاريخي تماماً ، لم يبدأ في الواقع ترشيد الحياة الإنسانية ، إخضاعها لنوعٍ من العقلانية والتوجيه ، إلا مع ظهور الثورة الفرنسية عام ألف وسبعمائةٍ وتسعٍ وثمانين ، في ذلك الوقت تبين أن بقاء الحياة تسير في مجراها مدفوعةً بعوامل غير منظور إليها في ضوء العقل شيء يوصل إلى مثل هذه الثورات التي لم يكن لها في الحسبان وجود ، والتي تحمل في طياتها نُذراً وأخطاراً قد تُلحق بالبشرية دماراً وتخريباً واسع النطاق ، هنا بدأ التفكير بضرورة إخضاع الحياة الإنسانية لشيء من العقلانية تفادياً لماذا ؟ تفادياً للظاهرة البشعة التي رافقت ظهور الثورة الفرنسية .

مهما يكن تقدير المؤرخين والدارسين الاجتماعيين ، ومهما يكن من تقدير الساسة لقيمة الثورة الفرنسية وأثرها في تطوير الفكر المعاصر وأثرها في تعريف جماهير الشعوب إلى حقوقها المهضومة المسروقة المغتصبة ، فلا بد لنا من أن نلقي نظرةً عجلة على الحالة العجيبة التي رافقت الثورة الفرنسية .

الثورة الفرنسية على صعيد الفكر حصينة عالم الأنوار الذي وُجد في أواخر القرن السادس عشر وخلال القرن السابع عشر ، وُجد مفكرون يتحدثون عن الطبيعة الإنسانية ، يتحدثون عن حقوق الإنسان ، يتحدثون عن الحرية ، يتحدثون عن الأنظمة الحاكمة الدستورية ، يقررون حقوقاً معينةً للشعوب ، يقررون واجباتٍ معينةً على الحاكمين ، هذا الاختمار الفكري ولّد حالة من التهيب في فرنسا وفي أوروبا عموماً لتغيير الأوضاع . هنا نضع أيدينا على مفرق من المفارق التي تُفرّق بين الإسلام وبين غيره من كل الحركات الأرضية ، الإسلام لا ينتظر الحادثة حتى تقع لكي يطّب لها ، وإنما يخطط ويدقق وفقاً لمنهجٍ علميٍ صارم غاية في الصرامة . قلت قبل قليل وللمثل والتوضيح : إن الظاهرة الاجتماعية ليست شيئاً مقطوع الصلة بما قبلا وبما حولها ، وإنما هي شيءٌ له ارتباطاتٌ واسعة في عمق المكان وفي عمق الزمان على حدٍ سواء ، لكن هذه الظاهرات التي لها أسباب ، هذه الأسباب أيضاً هي كل شيءٍِ في الظاهرات ؟ نقول أيضاً لا ، فجملة الظاهرات التي لها أسبابها نجد من ورائها عللاً تربط بين هذه الأسباب ، مجموعة هذه العلل ترتبط في حركتها بمنطقٍ خاص هو الذي يوجه سير الظاهرة ، حينما نتعرف على المنطق الخاص الذي يربط بين العلل ويوجه سير الظواهر الاجتماعية فإننا في هذه الحالة فقط نكون قادرين على إدخال التعديل المطلوب لإحداث التغيير في سـير الظاهرة الاجتماعية . الإسلام يفكر بهذا الشكل ، ولهذا لا يترك الأمور للمصادفات ، وإنما يقيسها ويخطط لها وفقاً لقواعده العامة الموحى بها من قبل الله تبارك وتعالى . لكن الثورات الأرضية كانت تكون على غير هذا الشكل ، ولا عجب ، فالثورات الأرضية حصيلة جهد إنساني محكومٍ بزمانه ومحكومٍ بمكانه ومحكومٍ بما هو أخطر بالحالة العقلية وبالحالة العاطفية والنفسية للإنسان المفكر ، لأن هؤلاء جميعاً تلوّن تفكير الإنسان وتجعله يسير باتجاهٍ معين .

الثورة الفرنسية في الواقع كانت حصيلة اختمارٍ ذهني وعقلي في المجتمع الغربي عموماً ، لكنها حين انفجرت أين ذهب الذين فكروا ؟ وأين ذهب الذين قدروا ؟ وأين ذهب الذين كتبوا ؟ أذكر لكم مثلاً : الثورة بدأت عام ألف وسبعمائة وثمانيٍ وتسعين ، واستمر الإرهاب واستمرت المجازر إلى عام ألف وثمانمائة وأربعٍ وتسعين ، خمس سنوات ، الكاتب المفكر الفرنسي الشهير قندرسي قدم مشروع دستور لتُحكم بموجبه الدولة في فرنسا ، لكن هذا المشروع لم يرَ النور لسببين ، الأول أنه جاء متأخراً ، فبعد أن قُضي على دانتون عميد الإرهاب ورود سبير خليفة دانتون وأصبحت البشائر واضحة بقرب دكتاتورية نابليون ، أصبح هذا الدستور بلا معنى لأن السلطة ترسخت وهي التي ستعرف ما تريد وتخطط لهذا وتضعه ، هذا واحد . والشيء الثاني أن دستور قندرسي كان مجهوداً عقلياً ، إنسانٌ معتزل في صومعة ، فكّر بأن الحياة يمكن أن نضع لها خطوطاً مواصفاتها كذا وكذا وكذا وانتهى كل شيء ، غافلاً عن أن وقائع الحياة لها منطق غير منطق الفكر المجرد ، وأن الحياة الاجتماعية المتحركة لها احتياجاتها التي لن يدركها الإنسان الذي لا يعايش الحياة الواقعة ولا يحترق بلظاها ويتقلب على جمرها . فالمفكرون كانوا غائبين ، قام بالثورة الرعاع ، الرعاع مَن ؟ الجهلة والأوباش الذين لا يملكون القدرة على التفكير مع علمي بأن كارل ماركس يمجّد هذه الكومونة التي تُسمى كومونة باريس ويعتبرها أول محاولةٍ رشيدة في التفكير الإنساني تهدف إلى إلغاء الطبقية وإزالة الظلم من عالم الحياة ، لكن هذا خطأ ، فالحقيقة أن الذين عاصروا الثورة الفرنسية وأن السلطة التي قطعت رأس الملك وقطعت رأس الملكة وألغت النظام الملكي وأقامت الجمهورية وقضت على الجيرونديين وقضت على اليعاقبة أيضاً ونكلت بخصومها جميعاً ، هذه الثورة أقامت المجلس الوطني الفرنسي الذي وصفه المفكر الفرنسي دومورير بأنه مكوّن من ثلاثمائة وغد وأربعمائة معتوه ، هذا هو قوام المجلس الوطني الذي أقام عهد الإرهاب الدموي والذي أصبحت فيه الرؤوس تتساقط حتى أصبحت التسمية لهؤلاء الناس في الأدبيات السائدة إبان الثورة الفرنسية ، أصبحت التسمية اللطيفة أن هؤلاء الذين يُعدمون على المقصلة كانوا يُسمّون العاطسين في الزكائب ، تعرفون ما معنى العاطسون في الزكائب ؟ الزكيبة حقيبة من جلد توضع في أسفل المقصلة حتى إذا نزلت السكينة على الرأس ففصلته عن الجسد سقط الرأس في الحقيبة ، والرأس حين يسقط أثناء القطع يتحرك الفم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، فمن باب النكتة سماهم هذه الفرنسيون العاطسين في الزكائب . لو تتبعنا هذه السلسلة المخيفة من العاطسين في الزكائب أثناء الثورة الفرنسية لوقفت شعور رؤوسنا لفظاعة الإرهاب ولفداحة العنف الذي أصبح يسود المجتمع الفرنسي ز

هذا الإرهاب لم يكن له نظير في كل التاريخ الحديث إلا في الثورة الروسية التي قامت عام ألف وتسمعمائة وسبعة عشر وولّدت النظام الشيوعي . في الواقع أيضاً قامت هذه الثورة على أكتاف الرعاع ، وإن كان لينين وتروتسكي وزنوفيه وكثيرٍ آخرين من المفكرين من وراء الثورة ، ولكن الأداة المنفذة كانت الرعاع ، وحين الثورة وإلى أن استتبت خسرت روسيا سبعة ملايين نسمة قُتلوا في أثناء هذه الثورة ، هذا شيء يجب أن يُعرف عن أرضية العنف وعن التربة التي نشأ فيها العنف ، نفحص الآن العنف . مَن الذي يقوم فيه ؟ وفقاً للإحصاءات فإن الثورة الفرنسية قام بها نفر قليل ، والذين صوّتوا في فرنسا على الجمعية الوطنية يُشكلون الستة بالمائة من مجموع سكان فرنسا ، اذهب إلى الثورة الروسية فسوف تجد أن الثورة الروسية حينما قامت كان قوام الحزب الشيوعي مائتي ألف مواطن من أصل مائتي مليون ، أي أن الذي قام بالثورة الروسية نسبته إلى مجموع الأمة نسبة واحد إلى ألف ، فالحديث عن الثورات الشعبية من قِبل حركاتٍ من هذا اللون حديث تكذبه الوقائع الراهنة ، بل يدل على أن عصبةً منظمة استطاعت أن تهتبل فرصةً مناسبة فتثب على الحكومة ، وبضربة خاطفة وعنيفة نكلّت بخصومها فأوقعتهم في شلل حرمهم التفكير في المقاومة ، واستتبوا على هذه الأرضية التي ترونها ، هذا واحد .

السمة الثانية وهي سمة مهمة كما يجب ألا تغيب عن الأذهان للتربة التي ينشأ فيها العنف ، أن العنف الذي رافق الثورة الفرنسية ولّد شرهاً وطمعاً ، كما أن العنف الذي رافق الثورة الروسية ولّد شرهاً وطمعاً ، ففرنسا بعد ثورتها شكلت إمبراطورية جاست خلال الديار في أوروبا ، وكان نابليون يركن التيجان بين قدميه ، وكان يسلّ العروش حيثما حل ، وكان يغزو مصر ، وحاول أن يغزو سوريا لولا أنه وقف عند أبواب عكا . فالأمة التي تمارس العنف لا بد لها من أن تتوسع في العنف ، لأن العنف طريق ، أوله صفر ونهايته بغير نهاية ، ودائماً قانونه الذي يحكمه أن أوله يطلب آخره باستمرار ، العنف بدايةٌ لا نهاية لها ، تعوّد الشعب الفرنسي على استعمال أساليب العنف ، وقضى على كل خصومه في الداخل ، فالتفت إلى الأمم المجاورة ، يمارس عليها أساليب العنف ، ويقيم عليها هذه القواعد العنيفة ، فحطم العروش وأزال الممالك وفتح البلدان . كذلك الشأن بالنسبة للثورة الروسية ، نجحت الثورة الروسية عام ألف وتسعمائةٍ وسبعة عشر بعد أن أكلت من بنيها سبعة ملايين نسمة ، ومضت المدة الواقعة بين عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر وعام ألف وتسعمائة وأربعٍ وعشرين وهي حياة لينين في تدعيم الأمر في الداخل وردّ خطر التحالف الأوروبي الذي حاول أن يدمر الثورة الروسية . وجاء ستالين واستلم الحكم من بعد لينين فلم يجد أثناء الصراعات الداخلية العنيفة فرصةً تسمح له بتوجيه قوى الثورة خارج نطاق البلاد الروسية ، ثم قامت الحرب العالمية الثانية ، وانتهت الحرب العالمية الثانية ، ومن عجيب المصادفات أو من التدبير المحكم أن أركان الحلفاء ، أمريكا وإنكلترا وفرنسا والاتحاد السوفييتي ، كل الأركان خرجوا من الحرب كما دخلوها بغير إضافةٍ في الأرض وبغير مرابح على الأرض إلا روسيا ، فالواقع أن أمريكا لم تحتل أرض الغير في الحرب العالمية الثانية ، وكذلك فرنسا وكذلك إنكلترا ، بل نقول : إن دول الحلفاء الثلاثة هذه خسرت بعد الحرب العالمية الثانية ممتلكاتها خارج حدودها ، ما عدا روسيا ، فالواقع أن روسيا هي الدولة الوحيدة التي وجهت جيشها الأحمر بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً لكي تحتل أقساماً من أوروبا الشرقية ، يُكوّن سكانها ما لا يقل عن ستين مليوناً من البشر ، على أية ذريعة ؟ على ذريعة تأمين سلامة الثورة وعلى ذريعة الحفاظ على مكاسب الثورة ، هذا شيءٌ ثانٍ .

شيء ثالث ونحن نفحص الثورات ، نجد أن الثورات عموماً كالهرة تأكل أبناءها ، فالذي يقوم بالثورة اليوم يمارس العنف على خصومه ، ولكن يجب ألا يغيب عن البال أن كل فعل يتطلب رد فعل يوازيه ويكافئه ، وهذا القانون صادق في الإنسانيات ، كما هو صادق في الطبيعة ، فحين يمارس المنتصر العنف على خصومه ينتظر بالمقابل رداً لهذا الفعل موازياً لمقدار العنف الذي مارسه على الخصوم ، ومن هنا كان قانون الثورات الذي يحكمها باستمرار التصفيات المستمرة ، أعطوني ثورةً واحدة قامت في الدنيا وبقي القائمون فيها يحكمونها حتى النهاية ، لا يوجد ، بحجة التصفيات والتخلف عن متطلبات العصر وعدم التجاوب مع رغبات الشعب وووا إلى آخر هذه الذرائع .. يأتي المنتصرون ليأكل بعضهم بعضاً . وأقول : إن الذين قاموا بالثورة الفرنسية لم يبقَ منهم في عهد حكومة الدريكتوا ولا أي مخلوق ، وأن الذين قاموا بالثورة الروسية والذين شكلوا المكتب الأعلى ، اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي لم يأتِ عام ألف وتسعمائة وستةٍ وثلاثين إلا كان جميع أعضاء هذا المكتب ـ ما عدا ستالين ـ إما مقتولاً وإما منفياً إلى مجاهل سيبيريا يتجمد في البرد والثلج . هذا القانون تلحظونه الآن في دول العالم الثالث لا يتخلف ولا يمكن أن يتخلف ، مَن المسؤول عنه ؟ المسؤول عنه هو العنف ، لأن العنف دائماً يتطلب آثاره ، وآثاره هي هذه . هذه هي التربة لكن هذه التربة ، أو بالأحرى لكن تقديرنا لهذه التربة يبقى ناقصاً إذا نحن أغضينا النظر عن عددٍ من الأمور ..

مع الحرب العالمية الأولى وخضوعاً لضرورات الحرب أصبح تدخل الدولة في الشؤون العامة شيئاً ضرورياً ، في تأمين المرافق ، تأمين السوقية ، تأمين التمويل ، تأمين وتأمين إلى آخره ، ضرورة الحرب تقتضي وجود نوعٍ من إشراف الدولة على جمهور شعبه ، ولكن هذا الإشراف كان في الحرب العالمية الأولى ليس بارزاً إلى الحد الذي نراه ، أما مع الحرب العالمية الثانية فقد اختلف الأمر ، أصبح تدخل العنف أي تدخل جهاز الدولة الذي يمثل قمة العنف السمة التي تطبع العصر بكامله ، سواء كان الذين يمارسونه دولاً رأسمالية أو دولاً اشتراكية ، لماذا ؟ هنا يجب أن نتبصّر ، يا إخوتي ويا أحبابي أنتم في معظمكم شباب تحملون على أكتافكم مسؤوليةً هائلة ، نحن في الواقع بدأنا نسلم الأمانة ، دخلنا الكهولة وجاء الزمن الذي يتطلب منا أن نسـلم الأمانة لكم ، أريد أن أقول لكم : كلمة الوقوف عند ظواهر الأمور شيء خطر ومضيعة للوقت في غير طائل ومشي في الظلام ، اعرفوا كل شيء وفكروا كل شيء ، وقبل أي شيء اعرفوا في أي عصرٍ تعيشون ، واعرفوا المواصفات الحقيقية للعصر الذي تعيشون فيه ، واعرفوا الإمكانات التي يمكن أن يقدمها هذا العصر سلباً أو إيجاباً ، قلت إنه مع الحرب العالمية الثانية أصبح تدخل الدولة أي جهاز العنف السمة التي تطبع العصر برمته ، فما تقدمت لنا الحرب العالمية الثانية ؟ أبرزت إلى الساحة ثلاثة شياطين : الإدارة الحكومية ، والعلم ، والتكنولوجية .. الإدارة الحكومية أصبحت تتدخل في الصغيرة والكبيرة وتعطي نفسها حق الإشراف والتوجيه والتقرير والتنفيذ ، أي حق قولبة المجتمع البشري ، بل قولبة العقل البشري وصياغته على النحو الذي تريد ، والتكنولوجية سهلت على الإنسان ما كان يبذله من جهدٍ يُشعِره بشخصيته ، ماذا كان من نتائج هذا ؟ كان من نتائج هذا أن تضخم جهاز العنف وأن تضخم موضوع تدخل الدولة في شؤون الأفراد ، وأن تضخم الوضع الأبوي الذي تأخذه الدولة ، وأن تجسّم هذا الدور حتى أصبحت الأجهزة الحاكمة في أي مكانٍ من الأماكن تشعر بأنها وصيةٌ على الناس ، وبأنه لا يجوز للمواطنين أن يروا رأياً يخالف ما يراه الزعيم . ولا ينبغي لنا أن نُسقط من حسابنا أن ثمة ظاهرة معروفة في التاريخ السياسي وهي أن الأجهزة الحاكمة دائماً ـ حتى أفضلها وأمتنها ـ تصاب بما يسمى بالتسمم بالحكم ، لمجرد أن تصل الحكم تصاب بهذا التسمم ، فترى أن الجهاز الذي تهيمن عليه أفضل جهاز ، وأن أي إصلاح لا يمكن أن يتأتى إلا من هذا الجهاز ، ومن هنا كان دورها العنيف ودورها الخطر ودورها المخرب ، هـل اسـتطاع المردة الثلاثة ، الأبالسـة الثالثة ، أن يضيئوا أمامنا الطريق لنرى هـل تراجع العنف فـي الحياة الإنسـانية أم تقدم ؟

نرجع إلى الأخطاء ، في التاسع من أيار عام ألف وتسعمائة وخمس وأربعين شُنت على مدينة طوكيو عاصمة اليابان غارة جوية دامت ست ساعات ، كانت الغارة مكونة من مائتين وستة وثمانين طائرة قاذفة ألقت على مدينة طوكيو ألف وستمائة وسبعين طناً من القنابل الحارقة ، فأحرقت أربعين كيلو متر مربع من المدينة ، وتكشف الموقف عن قتل أربعاً وثمانين ألف نسمة من أصل ست ملايين وسبعمائة ألف نسمة هم قوام سكان مدينة طوكيو ، مائتان وستة وثمانون طائرة ألف وستمائة وسبعين طناً من القنابل المتفجرة . في السادس من آب ألقى طائرة قاذفة واحدة على هيروشيما من ارتفاع أربعمائة متر قنبلةً واحدة بحجم البيت ، أحرقت إحدى عشر كيلو متر مربع بواسطة النار والريح الحارقة من المدينة ، وأسفرت هذه القنبلة عن قتل مائة وستين ألف نسمة من أصل مائتين وأربعين ألف نسمة ، أين أصبحت النسب ؟ طارت مع الريح ، الحروب الكلاسيكية أصبحت لعبة أطفال ، وأصبح العلم والتكنولوجية والإدارة الحكومية يشكلان خطراً يهدد المجتمع البشري كله بالدمار والفناء ، فإذا أضفنا إلى هذا أنه بحلول عام ألف وتسعمائة وسبع وخمسين وهو تاريخ قريب بالنسبة إلينا ، زادت القوة التدميرية باكتشاف القنابل الهيدروجينية عشر مرات ، نكتشف أن الخطر تجسم وأن العنف بلغ مراحل تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور . فإذا نظرنا أيضاً إلى أن العلم يقول لنا اليوم : إن الكيلو غرام واحد من مادة اليورانيوم المشعة التي تُستخدم في التفجيرات النووية تحوي ستمائة ألف كيلو قوة طاقية للانفجار ، وعرفنا أن الذي أمكن استخلاصه من القوة التدميرية والتفجيرية هو واحد إلى ألف أدركنا أن القوة الرهيبة المتحصلة اليوم التي رفعت الأقمار الصناعية إلى القمر وإلى المريخ وإلى كوكب الزهرة تساوي واحداً من ستين من القوة التي يمكن للعلم أن يستخلصها من المواد المشعة .. إذا عرفنا هذا يقف شعر رأس الإنسان ، أية طريقٍ تسير فيها هذه البشرية ؟ من هنا نجد أن العملاقين الكبيرين اللذين هما روسيا وأمريكا اتفقا على أن لا يكون بينهما صدام نووي ، لأن الصدام النووي يشكل دماراً كاملاً للبشرية ، وذلك ذروة العنف وهو النتيجة الطبيعية لغياب المراقبة الشعبية عن الساحة ، لكنهما اتفقا على ماذا ؟ على السماح بالحروب الموضعية ، سأضرب لكم من الحروب الموضعية مثلين لتروا أنه حتى مع استعمال الأساليب الكلاسيكية التقليدية فإن الحروب الموضعية تشكل تهديداً خطيراً لِمَا تملكه من آلةٍ عنيفةٍ جبارة ..

في حرب كوريا التي استمرت ثلاث سنوات ثم خُتمت بهدنة استخدم ما يقرب من خمسة ملايين رجل في الحرب ، ومات في هذه الحرب مليون ومئتا ألف رجل ، ودُمر أربعين بالمائة من القوة الزراعية في البلاد ، ودُمرت سبعون بالمائة من القوة الصناعية في البلاد . في الجزائر وهي حرب موضعية ، قُتل مليون قتيل في الجزائر باسـتخدام فرنسا لقوات الحلف الأطلسي التقليدية الكلاسيكية ، سياسة الأرض المحروقة تسمعونها أكثر من سبعين بالمائة من الأراضي القابلة للزراعة جرى إحراقها من قبل القوات الاستعمارية الغازية ، فأية دمار ؟ أية قابلية للدمار تحملها هذه التطورات الرهيبة ، نسأل أنفسنا : هل تراجع العنف ؟ لا ، نسأل أنفسنا أيضاً : ما مصير هذا ؟ البؤس والشقاء ، سأذكر لكم يا أحباب : عام ألف وتسعمائة وخمس وأربعين وصلت ألمانيا إلى القاع حتى إن وزيراً من كبار الوزراء الحلفاء قال بكل مرارةٍ وألم : إنه وخلال قرونٍ طويلة لم يسبق أن عانى شعب أوروبي هذه الحالة من الدمار والضياع والبؤس والشقاء ، شاعت على ألسنة الألمان مقطوعة شعرية يغنونها في الطرقات بعد أن فقدت ألمانيا عشرين بالمائة من سكانها ، وبعد أن فقدت تسعين بالمائة من الرأسمال غير المنقول الذي تملكه ، كان الرجل منهم يمشي ويغني ويدندن بمقطوعة ، يقول : سقط الرجل في قبر جندي وسقطت المرأة في سرير زنجي ، الرجل سقط في سبيل الوطن ، والمرأة سقطت في سبيل السيجارة ، عرض المرأة كان يباع ويشرى بسجارةٍ أمريكية . هذا الشقاء الرهيب مَن المسؤول عنه يا إخوة ؟ هل المسؤول عنه الأبالسة الذين يسيطرون على العالم اليوم ؟ أم المسؤول عنه جماهير الشعب ؟ الأبالسة باستمرار يحضرون طائراتهم التي تنقلهم وما سرقوا من أموال الأمة خارج مناطق الخطر عند اللزوم ، والشقاء والبلاء ينزل على الأمم ، هل لم يكن في الإمكان أن نتصور أن طريقةً أخرى لحل المشاكل نتفادى بها كل هذه المآسي ؟ نقول : نعم . وفرق المسألة كله أن الإسلام يرى أن حلّ المشاكل في إماتة نوازع العنف في ذات الإنسان الفرد ، بينما لا يصحو الناس على العنف إلا بعد أن يستشري ، وبعد أن يصبح شيئاً لا سبيل إلى علاجه بحال من الأحوال .

نحن في الإسلام بدايتنا معروفة ، نبدأ النضال على مستويين ، المستوى الأول في داخل الضمير الإنساني ، حتى نذلل هذا الضمير فيكون قادراً على رفض العنف كوسيلةٍ لحل المشكلات ، وهذا الميدان الإنساني الفردي له الأولوية المطلقة على كل نضال ، والنضال الآخر مـع الظاهرات الاجتماعية ، لا مع الناس ، مع الظاهرات الاجتماعية كي لا ينصب حقدنا وكي لا تنصب نقمتنا على الإنسان من حيث هو إنسـان ، بل على الظاهرة التي تطبع هذا الإنسان بطابعٍ معين ، نحن نعطي الأولوية المطلقة للنضال الأول ، لماذا ؟ لكي ندفع إلى الوراء وبعيداً جداً سائر النزعات الشريرة الضارة التي تجعل الإنسان المسلم قابلاً لأن يستجيب للعنف ، ولكي نحمي الإنسان المسلم من أن يتلوث بشرور المجتمع الذي يعيش فيه  ثم نعطي المستوى الثاني الأهمية الأخرى وهو النضال ضد الظاهرات مع كل الذين يشاركونا في آرائنا ، مع تقديرٍ كامل لقيمة الحياة الإنسانية وقيمة النفس البشرية .

أظن أنني إلى الآن استطعت أن أرسم صورةً مقاربةً إلى حدٍ ما بالأرضية التي نشأ عليها العنف ، وللأخطار التي تهدد البشرية نتيجة الأخذ بأسباب العنف ، وأظن أنه آن لنا بعد أن انفتح الباب كله أن ندخل رحاب الإسلام ن لنرى أية إنسانية وأية رحمة وأية شفقة وأي شعورٍ عظيم بالمسؤولية الضخمة عن المصير البشري كله يحس بالإنسان المسلم ، فإلى الأسبوع القادم أرجو أن أقف معكم في رحاب الإسلام ، وأرجو في الختام أن تتحملوا مثل هذه الوجبات العسيرة الهضم . بقي لي معكم حديثان ، وبعدها سأقبل إلى الراحة وأترككم للتفكير في كل هذا الذي قلناه ، وهو تفكير سوف يشقي الكثيرين جداً ، لأنه تفكير إن أراده الإنسان بأمانة فسوف يؤرق ليله وسوف يشغل نهاره .

ونسأل الله تبارك وتعالى أن تكون أيامنا وليالينا خالصةً لوجهه الكريمة في خدمة دينه العظيم ونبيه المكرم صلى الله عليه وسلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .