حديث خاص عن أوضاع المنطقة ومشاكلها

العلامة محمود مشّوح

حديث خاص عن أوضاع المنطقة ومشاكلها

12 / 8 / 1977

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون ، أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :

فقد كان هذا اليوم هو الوقت المحدد لنعيش مع السورة الثالثة والثلاثين من كتاب الله تبارك وتعالى ، متأملين ومتدبّرين على العادة ، لكني رأيت الواجب يقضي بإرجاء الحديث عنها وتقديم ما ينبغي تقديمه من الحديث . وقد كان أمامي أمران يوجبان عليّ هذا الإرجاء ، أما أولهما فهو اقتراب شهر رمضان المبارك ، ومعلوم أن من حق الشهر الكريم علينا أن نستقبله بتحيةٍ تليق بجلاله ومكانه في الإسلام ، وأما ثاني الأمرين فالذي حدث في هذه البلدة في بحر هذا الأسبوع . ولقد كنت أميل في نفسي بين أي الحديثين أقدمه على الآخر ، فوجدت الله جلّ وعلا من حيث المبدأ شرع للناس ما شرع من أمور العبادات لاختلاف صورها وأوقاتها وأنواعها من أجل الإنسان ، بُغية ترقيته وتهذيبه وحفظ مصالحه في الدارين . ووجدت في التفصيل أن العبادات التي يُظَن خطأً أنه ليس فوقها شيء تسقط عن الإنسان الذي طُوّقها وكُلّف بأدائها إذا كان هذا الأداء يلحق بالإنسان ضرراً بيّناً محسوساً . فمن أجل ذلك رأيت أن أحذف من دائرة اهتمامي في هذا اليوم ما يتصل بالحديث عن شهر رمضان ، فإن رمضان في غنىً عن التحية التي نوجهها إليه أياً كانت درجة حرارته . ولكن مصالح الناس وما يتعرضون له من مشكلات تُلح علينا وتطالبنا بأن نؤدي ما ينبغي .

       سأمهّد شيئاً ما .. الذي جرى نتيجة لسلسلةٍ طويلة من التخبط والانحراف عاش في هذه الأمة ومعها مئات السنين ، والذي جرى هو في مظهره حادث فردي ، ولكنه في دلالته علامةٌ على مرضٍ بعيد الغور في أعماق هذه الأمة . لقد كان العرب في الجاهلية يشعرون بأهمية الكرامة الشخصية ، وطبعتْهم البادية بأخلاقها القاسية الغليظة الجافة ، وبطبيعة الحال ففي كل مجتمع بشري إذا غاب القانون احتكم الناس إلى قواهم الخاصة ، وفي البادية لا قانون ، وعلى كل أحدٍ أن يعتمد على نفسه في المحافظة على ذاته وحريمه وماله .. وبالتالي على كل شيءٍ يتصل بكرامته من قريبٍ أو بعيد . لهذا السبب فنحن كلما قلبنا صفحات التاريخ الجاهلي صدمتنا صور الحروب المستعرة بصورةٍ مستمرة وهذه الأنهار من الدماء التي تجري من غير سببٍ معقول . وكثيراً ما حدثكم تاريخ الجاهلية عن حروبٍ تمتد وتتصل أكثر من مئة سنة ، وعن حروبٍ يتسع نطاقها وتمتد رقعتها حتى تهدد بفناء قبائل برمتها ، وترجع إلى الأسباب الحقيقية الأولية ، إلى الشرارة التي أحرقت البيت ، إلى القشة التي قسمت ظهر البعير ، فلا تجدها أكثر من شجارٍ تافه حول قضيةٍ صغيرة ثار لها إنسانٌ أرعن بغير أخلاق فحقب الأمر وتفاقم الشر واشتبك الناس بعضهم ببعض .

       ويحدث على العادة أن يسقط قتيل من أحد الحيين المشتجرين ، فتلك طبيعة الشجار ، ولكن العقل الإنساني بإيحائه الأولي يستدعي دائماً وقف هذه السخافة ، مع ذلك فبعض الناس أو معظم الناس يظنون أن هذا القتيل الذي سقط في شجارٍ تاف ولغايةٍ رخيصةٍ جداً أو لغير غاية على الإطلاق لا يوازي دمه ملء الأرض ذهباً ، وقد يكون في موازين الرجال لا يساوي فلسين . فيصرّ الطرف الآخر على أن يأخذ بالثأر ، وتبدأ هذه العملية تدور في حلقةٍ مفرغة ، كلما سقط قتيل استدعى من ورائه قتيلاً آخر ، وهكذا بغير انتهاء . قضية العقل كما ترون تردّها ، لأن الأصل أن تسأل نفسك وماذا بعد ؟ هل معنى ذلك أن يتفانى الناس كلهم ؟ أم أن المنطق والعقل وحساب أسباب السلامة وأمن المجتمع وطمأنينة الأفراد كل أؤلئك يقضي بحصر النار المشتعلة ووقف هذه الأنهار من الدماء التي تراق بغير سببٍ معقول . إنها جاهلية كما ترون ، وجاهلية غليظة ، لا تعقل ولا تبصر ، ولكن الله جلّ وعلا جاء بالإسلام ، ليكون بالفعل حياةً للناس ، وجاء مع الإسلام تشريع وقانون عيّنت الحقوق والوجائب وحددت الحدود التـي لا ينبغي لأحدٍ أن يتجاوزها ، وانبثقت عن التشريع دولة ليست كدول الجاهلية القديمة ، كما أنها ليست كدول الجاهلية الحديثة تحكم بالهوى والرغبة ، وإنما هي دولة تحكم بقانون الله الذي يعلم السر في السـماوات والأرض ، ويعلم مواضع الإصلاح لحياة البشر ، ويعلم ما الذي تصلح عليه حياة البشر .

       وجاء الإسلام فأعاد للإنسان كرامته المضيعة وحقوقه المهدرة ، وأبان أنه لم يُخلق لكي يغرر بنفسه على هذا الشكل السفيه ، وإنما خُلق لغايةٍ هي أسمى وأعظم وأجل وأوسع نطاقاً وأبعد مدى مما كان قاراً في أذهان الجاهليين . وابتداءً فإن الله جلّ وعلا قرر لهـذا الإنسـان كرامةً لا ينبغي أن تُذلّ ولا ينبغي أن تُهان ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً ) وفي أوائل القرآن وأنتم تفتحون سورة البقرة تقرأون قول الله تبارك وتقدس ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيه ويسفك الدماء ونحن نسـبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ، وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) فأنتم ترون أن الله في الآية السابقة قرر كرامة الإنسان . وفي هؤلاء الآيات رفع من قيمة الإنسان حتى جعله من حيث الإدراك والفهم والنفاذ إلى بواطن الأمور فوق الملائكة المقربين . ولما كان الإنسان بهذه المثابة كان من الإجرام الذي ليس بعده إجرام أن تُعرّض حياته للخطر وأن يُراق دمه في غير حق وأن تتعرض كرامته للإذلال والانتقاص .. وحين ذكر الله جلّ وعلا ما ذكر من شأن ابنَي آدم عليه السلام ذكر بعدُ تعقيباً كدرسٍ مستفاد وتعيه الإنسانية يعيش في أخلادها وضمائرها وفي أعناق قوياتها ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساداً في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها كأنما أحيا الناس جميعاً ) وذكر عليه الصلاة والسلام ما ذكر من ما عظم به من شأن الدماء ، فربما رُجيت لمسلم العاصي توبة مقبولةٌ عند الله جلّ وعلا ، ولكن الذي يقدم على ربه في يوم الحساب وفي عنقه دم بريء فلن تنفعه صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج ولا أي من القربات التي يتقرب بها الناس إلى الله تبارك وتعالى ، بلى إن كلام النبي عليه السلام واضح في أن الإنسان إذا غمس يده في دم حرام قارب أن يشرك بالله جلّ وعلا ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول : ما يزال الرجل في فسحةٍ من دينه ما لم يغمس يده في الدم الحرام . فإذا غمس يده في الدم الحرام فقد احتمل إثماً لا تُرجى لها توبة ولا تُرجى لتوبته عند الله قبول .

       وللتنفير من الاسترسال في هذا الطريق الخطر بيّن الله عليه الصلاة والسلام جرياً على قاعدة الإسلام في أن فاعل الخير إذ يفعله ويستنّ به الناس ويأخذون بطريقته فله مثل أجورهم إلى يوم القيامة ، وأن فاعل الشر والإثم والمنكر حينما يقتدي به الناس فإن عليه من الإثم مثل آثام الذين يقتدون به إلى يوم القيامة ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : ما من قتيلٍ يُقتل إلى يوم القيامة إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمه . أي نصيب من دمه ، لأنه أول من سنّ القتل . إن الإسلام وهو يضع هذه الاعتبارات يضعها لتقوم دعائم ينهض عليها بناء أمة تعرف لهذا الإنسان حقه وكرامته وصيانة دمه ، والإسلام لم يكتفِ بهذا وإنما فرّع الأمور إلى أبعد حال ، فجعل الناس شركاء في المسؤولية عن هذا الشيء وعن كل ما أمر الله به أن يُفعل وكل ما نهى الله جلّ وعلا عنه نهياً واضحاً صريحاً ، لكن الناس منذ زمن استمرأوا التفلت من أحكام الله ، واستناموا إلى الدعة والراحة ورخاوة البدن ، ولم يعودوا يتمتعون بهذه الرؤية البعيدة التي تنفذ إلى المآلات وتصل إن نهايات الأمور ، فقد أصبحوا يرون المنكر يجري ولا يحركون ساكناً ، ويرون الشر يستطير بين الناس ، وأتقاهم لله وأشدهم له خشية هو ذلك الذي يُغلق عليه باب داره كي لا يسمع وكي لا يرى ، وأيسر النظر يكشف لك أن هذه طريقةٌ صبيانية بلهاء ، هبْكَ سلمتَ اليوم فمن ذا الذي يضمن لك السلامة غداً ؟ وإذا اختلّت موازين الخير والشر واختلّت موازين العدل والظلم في المجتمع الذي أنت واحد من أبنائه ، فمن ذا الذي يريح عليك حقك ؟ ومن ذا الذي يدرأ عنك الظلم إن أحاطك ؟ إنك قد تسلم اليوم ، لكنك سوف تواجه الكارثة غداً لا محالة ، ولكن قلنا لكم إن الأمر تطاول عليه زمن ، وأصبح البحث في هذه الأمور إن لم يكن بحثاً خطراً بموجب الأعراف الفاسدة الضالة المخربة فهو بحث على الأقل غريب على أذهان الناس .

       إن الله سبحانه وتعالى وحّد بين المسلمين فقال ( إنما المؤمنون إخوة ) والنبي عليه السلام اعتبر المسلمين كالجسد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله ، واعتبر المؤمن من المؤمن بمثابة الرأس من الجسد ، فأرسى بذلك دعائم المسؤولية المشتركة بين أعضاء المجتمع جميعاً ، ولم يعد جائزاً ولا سائغاً عندما انعقل عن الله جلّ وعلا أن يقول : مالي وما لهذه المسألة . إن الصغيرة والكبيرة تحدثان في المجتمع هما مهمتان بالنسبة لكل أعضاء المجتمع ، ومن الخروج على قوانين الاجتماع ومن الخرق لأبسط بسائط الإسلام أن يتصور الإنسان نفسه قادراً على التهرب من مواجهة مسؤولياته ، وفيما قص الله من نبأ الماضين على هذه الأمة مما فيه معتبر لمن يعتبر ومزدجر لمن يزدجر قال الله جلّ اسمه فيما قال ( لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه ) وبالنسبة لصرائح الإسلام فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال للأمة وهي خارجةٌ حديثاً من مفاهيم الجاهلية وتصوراتها : انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً . ووقع القول موضع الغرابة من بعض أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فإن النصر للمظلوم سائغ في العقول ، مفهوم ومبرر تماماً ، ولكن نصر الظالم كيف يتأتى ؟ قالوا مستفسرين : ننصره يا رسول الله مظلوماً فكيف ننصره ظالماً ؟ إن نصر الظالم لا يُتصور ، ولكن تحت شرط واحد هو إذا أخذنا قضية على أنها معركة مادية يخرج منها أحد الطرفين منتصراً ويخرج الآخر منهزماً ، أما حينما ننظر إليها بمقاييس الإسلام فإن الاستعلاء على الذات ورفض الانصياع للنزوات لون عظيم من ألون النصر هو فوق النصر المادي ، فلهذا أجابهم عليه الصلاة والسلام بقوله : تمنعه عن الظلم فإن ذلك هو نصره . فأنت تنصر أخاك فعلاً حين تحول بينه وبين أن يكون ظالماً ، فإذا قطعتَ الطريق عليه كي لا يتورط في الظلم فقد أعدته إلى حقيقة الإنسانية ، وهذا أعظم نصرٍ يكون .

       لكن المسألة في نظر الإسلام لا تتوقف على نطاق الأفراد ، فإن الله ظاهر على المسلمين الآيات ، وإن النبي عليه الصلاة والسلام واتر على المسلمين التوجيهات ، لتقول لهم : إنهم ما داموا يعيشون على شكل مجتمعات بينها وشائج وعلائق فلا بد من مواجهة المسؤولية المشتركة ، وإن الفرار من هذه المسؤولية فرارٌ من أشرف ميدانٍ يجب أن يقف فيه الإنسان المسلم . فالله جلّ وعلا يخاطب المؤمنين خطاباً مؤكداً جازماً يستخدم فيه مختلف ألوان التأكيد ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) فأناط الفلاح جلّ وعلا وهو النجاح في الدنيا والفوز برضوان الله في الآخرة بكون الأمة تقوم بهذه الوجائب ، يدعون إلى الخير ، يرفضون الدعوات الضارة الشريرة المخربة التي يتسارع إليها الناس في هذه الأيام أرسالاً أرسالاً ، ويأمرون بالمعروف وهو كل عملٍ أو قولٍ أو تحركٍ تعرفه العقول السليمة وتقرّه الفطر النظيفة وتشهد له قوانين الشرع ويقوم عليه الدليل من كتاب الله وسنن النبي صلى الله عليه وسلم ، وينهون عن المنكر وهو كل ما أنكرته الطباع السيئة . فالمفلحون هم الذين يتصفون بهذه الأوصاف اتصافاً إيجابياً ، ربما لكون مفاهيم الإسلام قد تقلصت في أذهان معظم المسلمين يُظن أن توجيهات من هذا القبيل توجيهات سلبية ليست لها في الواقع الإنساني تلك الآثار الإيجابية العينية الملموسة ، لكن هذا الوهم ينتهي ويتراجع إذا نحن وقفنا أمام قول الله جلّ وعلا في بيانٍ صريح يلقيه إلى الناس يحدد لهم وجائبهم إبان هـذه الظواهر الاجتماعية الشاذة الضالة ، يقول الله تعالـى بقولٍ مبين وصريح ( وإن طائفتان مـن المؤمنين اقتتلوا ) فما الواجب ؟  هـذه الحالة طرأت وهـي اقتتال طائفتين مـن جماعة المؤمنين ، ما الواجب ؟ ( فأصلحوا بينهما ) تجب المبادرة فوراً إلى اتخاذ كل الأسباب المؤدية إلى الإصلاح وحسم عوامل النزاع وإغلاق الباب في وجه الشيطان كي لا يعبث في جسم الأمة فيقطع الأواصر الواشجة القائمة بين أفراد الأمة ، لكن الإصلاح عملية شاقة إلا على من عصم الله ، وما لم يكن الإنسان المسلم قريباً من ربه ، قادراً على أن يقف فعلاً مع مرضاة الله جلّ وعلا ، فقد يرى في محاولات الإصلاح ما يهدد سمعته ويهدد كرامته بل وما يهدد هذه الخنزوانة المقيتة التي هي رؤية النفس والاستعلاء على الناس وبطر الحق .

       فما الموقف حينما تصطدم الأمة بنفسيات خبيثة من هذا النوع ؟ إذا حصل البغي فإن ثمة موقفاً آخر ، إذا نفضنا يدنا من جدوى إصلاح فإن المسلمين لا يقفون من هذا الشر المستطير الذي يهدد المجتمع في أمنه واستقراره وكرامته ودمائه وأعراضه وأمواله موقف المتفرج المستهتر اللامبالي ، قال ( فأصلحوا بينهما ) وهذه أولى المراحل ( فإن بغت إحداهما على الأخرى ) وهذا يحدث كثيراً ( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) وإذاً فالمسلمون كما هو ظاهر من نص كلام الله جلّ وعلا مطالبون في مواجهتهم لهذه الأمور الشاذة في المجتمع باستعمال القوة المادية لكي يوقَف الباغي عند حده ، ولكي لا يزيد النار اشتعالاً ، ولكي لا يزيد أواصر المجتمع وعلائق المجتمع تقطيعاً وتمزيقاً ( فقاتلوا التـي تبغي ) إلى غايةٍ مدها الله جلّ وعلا وهي الفيئة إلى أمر الله ، أي الرجوع إلى الحق وإلى العدل ( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) هنا نكون قد قطعنا مرحلتين : مرحلة الصلح اللامجدي ، ثم مرحلة التدخل المادي الذي يُبطل فاعلية الباغي ويبطل مقاومة المعتدي ، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد ( فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا ) إن التشاجر تنتج عنه آثار مادية ملموسة ، ذهاب أنفس ، ذهاب أموال ، تعطل مصالح وما أشبه ذلك ، والصلح لا يعني القفز من فوق هذه الآثار المادية ، وإنما الصلح يعني أن يقرّ كل شيءٍ في نصابه وأن يُعاد كل حقٍ إلى ربه ، فإذا فاءت الفئة الباغية إلى أمر الله ورضيت بالاحتكام إلى موازين الحق والعدل والخير تلك التي أنزلها الله في قرآنه والتي قامت بها السـماوات والأرض حينئذٍ يأتي مجال الإصلاح ، ولكن للعدل والقسط بين المؤمنين ، ذلك الذي نصّ عليه الله في القرآن وبينه محمد عليه الصلاة والسلام .

هذا المخطط الكامل لمواجهة الأزمات وعلاج المشكلات شيء ينفرد به الإسـلام ، لأنه يربي ضمائر الناس على الإحساس المرهف للغاية بمقتضيات العدل ، ولكن هذا هو الإسلام ، فأين المسلمون ؟ إن المسلمين انحسرت في أذهانهم هذه المفاهيم إلى درجةٍ مؤسفة ، مؤسفة للغاية ، ما حصل في هذه البلدة خلال الجمعة التي مرت ، وما حصل قبلها وقبلها وقبلها ، أمور لو فتشت عن أسبابها لوجدتها ليس فقط تافهة ، لكنها في معظمها مخجلة ومعيبة ، ومع ذلك فصدق الله العظيم ( واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) وما أصدق النبي عليه السلام يوم سألته عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث . إذا وُضعت أمور الناس في أيدي صبية لا يقدّرون عواقب الأمور ، ولا يحسنون وزن المشاكل ، فالنتائج التي يواجهها الناس هي هذه ، لأن الأمر لن يكون أمر عدل ، وإنما هو أمر هوى مستحكم يتلعب بالإنسان تلعب الشيطان بعدوه ، إن كل الذي حدث كان يمكن في البداية أن يُحال دونه ، لكن الشعور بالتعاظم والكبرياء ، لكن الخروج على حد العبودية لله ، لكن إغفال حساب النتائج ، لكن التعدي على حقوق المجتمع على الإنسان الفرد ، كل أولئك يقود السفهاء والأشرار والمجرمين إلى أن يتمادوا ويتجاوزوا حدهم ويخرجوا عن طورهم حتى تنشأ في المجتمعات المسلمة حالات يجد فيها أعقل الناس نفسه مضطراً إلى أن يخوض في الباطل خوضاً . هذه الوقائع كل واحدٍ من الناس هنا في هـذه البلدة التي كانت تعيش على الأمن والسلام والطمأنينة والرخاء .. كل واحدٍ منا يعرفها تمام المعرفة ، ويعرف جيداً أننا الآن في هذه البلدة ـ للأسف الشديد ـ نواجه حالةً لم يسبق لنا أن واجهناها بالإطلاق ، ولا أكتم الله ولا أكتكم إنني متشائم ، متشائم جداً ، لأني أنظر فأرى الشر يتوقد في أربعة أركان هذه المدينة ، كل فئة تتربص بالأخرى ولا تتقي الله ، ولا ترجو له وقاراً ولا تحسب حساب المعاد إليه . وكل إنسان يحاول أن يصب الزيت على النار لكي يزداد الحريق ، فمن أجل ماذا ؟ من أجل ماذا أيها الإخوة ؟ لا لشيء ، كلها خدمة للشيطان ، وهذه الخدمة عندي طبيعية ، فالمسألة كما قلت لكم معقدة وبعيدة الغور ، لأنه مضت عليها سنون بل قرون ، والمسألة عندي معقدة لأنها ثمرة البعد عن شريعة الله جلّ وعلا ، إن شريعة الله وحدها فقط هي التي تحفظ على الناس حقوقهم وتمنع الشرور من أن تنجو .

       لنأخذ مثلاً الواقعة التي مارستها وعانيت منها خلال أشهر ، وهي ما كان من نتيجتها أن سقط قتيلٌ في هذه المدينة في الجمعة الماضية ، اسمعوا مني : إن الأمور ليست بالدرجة التي تتصورونها من السهولة ، إن الإنسان إنسان ، إنسانٌ يحس ويشعر ويتألم ، والقضية بعدُ ذات شعب وذات أطراف ، قُتل قتيل لا بأس ، منذ خلق الله ابني آدم فاقتتلا وسقط أحدهما والأرض تُروى من دماء القتلى ، لكن وقف هذا النزيف ممكن ، ممكن بإعمال قوانين العدالة ، قواعد الحق وقواعد الأخلاق ممكن ، إن لم يكن ذلك ممكناً بهذا الشـكل فهو ممكن أيضاً برهبة السلطان ، ولكن أي سلطان ؟ إسألوني ، هل السلطان الذي تقف القضايا عنده في التحقيق سنتين وثلاث سنوات يتقلى فيها الناس على الجمر ، ينتظرون كلمة القضاء لتنطق بالآخر بالباطل والجور ، إن القضايا حين تُعرض على الإسلام ، حين تُعرض على مجالس الشرع تنتهي بجلسةٍ واحدة . أما أن تنام القضية سنين عديدة في التحقيق دون أن يعرف من المسؤول عن الدم الذي جرى فإن هذا معناه أننا نقول للناس بصريح العبارة : كونوا أشراراً ، كونوا فاسدين . ونقول للأرض بصريح العبارة : كوني مذأبة وكوني مسبعة . ولو أن الأمور فوراً أُقرت في أنصبائها وتبيّن الجناة ونالوا ما يستحقون من جزاء لوقف الأمر عند حده . إننا حينما نحلل واقعةً من هذا النوع نرى أن كل الأطراف تشترك في حمل مسؤولية الدماء التي تراق ، إن القاضي الذي تُعرض له القضية بعد ثلاثٍ أو أربع أو عشر سنوات لينظر من الجاني ؟ يكون في حرجٍ أمام حس العدالة في داخل ضميره ، كيف استطاع أولياء الدماء أن يصبروا كل هذه المدة على الجور الذي يرونه وعلى العدل الذي يموت بين الرشـوة والفساد وبين ضياع حس العدالة عند القضاء ؟ كيف يمكن لأولياء الدم أن يصبروا وهم يرون أن الحق الأبلج الواضح الصريح يمكن أن يتحول إلى باطلٍ مبين بدراهم معدودات ، إن الأمر هنا ، ولكن تبقى المشكلة لها جانبها الاجتماعي الآخر ، إننا في هذا البلد نستطيع أن نقف في وجه الشر ، ونستطيع أن نقف في وجه الفساد ، لكن متى ؟ حينما نشعر بمسؤوليتنا المشتركة عن العاقبة وعن المصير المشترك الذي ينالني وينالك والذي يطرق عليّ بابي ويطرق عليك بابك شئت ذلك أم أبيت ، أذلك متوفر ؟ إسألوني ، أنا عانيت المسألة ، إنك حيثما وضعت يدك وجدت واحداً من شخصين ، إما إنساناً يتهرب من مواجهة المسؤولية كي لا يعتب عليه فلان ، وكي لا يغضب منه فلان ( أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) وإما إنسانٌ هو ذئب في مسلاخ إنسان ، يريد للشـر أن يتفاقم ، ويريد للجريمة أن تستعلن في هذا المجتمع ، ويريد لهذه الجهة أن تضعف ولتلك الجهة أن تقوى ، وفاقاً لحساباتٍ رخيصة سفيهة مجرمة . إن المسألة بهذا الشكل ، وإذا كان لي من كلامٍ أقول : فإنني أرجو أن يكون للسلطة موقف حازم ، إن أي إخلال بالأمن يجب أن يُضرب عليه بيدٍ من حديد ، وإن التوسع في إعطاء رخص السلاح للصبية والفاسدين والسفهاء بحجة أن لهم علاقةً بالسلطة أمرٌ يشبه أن يكون مغامرةً كاملة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ، يجب أن يُسحب السلاح من الناس ، ولا فرق بين أن يكون الإنسان حزبياً أو غير حزبي ، إن بطاقة العضوية في حزب البعث لا تعني أبداً أنه مخولٌ بأن يحمل السلاح الذي يهدد به الناس ، إن ذلك يعني شيئاً واحداً هو أن هذا العضو القذر وجوده متأكدٌ على دماء الناس ، ومتوقفٌ على إرهاب الناس ، ويكفيه هذا خزياً ، ويكفيه هذا عاراً ، والحكم الذي يعيش على دماء الناس حكم الأبالسة والشياطين خير منه ، إن السلاح يجب أن يُسحب كله لا يبقى بين أيدي الأفراد قطعة من السـلاح ، إن شجاراً تُستعمل فيه الأيدي يمكن فضّه بسرعة ، لكن شجاراً يُستعمل فيه السلاح غير يمكن أن يفضّ ، هذا واحد .

والشيء الثاني ، على كل عاقلٍِ في هذه المدينة أن ينظر بروية وبإمعان ، إن الوضع الذي نشأ خلال الأسبوع الماضي وضع خطر ، وحاسبوني بعدُ ، حاسبوني بعد أشهر ، إنه وضع لا أخطر منه ولا أسوأ منه ، وما لم ينتدب له العقلاء ليطبّوا له وليعالجوه وليقرّوا الأمور في نصابها فإن أياماً سوداء تنتظر القائمين والقاعدين على سواء . إنني أرجو أن يُفهم بكل جلاء أنني لا أنظر من زاوية أن قتيلاً وقع ، فالقتلى يقعون في كل يوم ، ونحن ذبحنا هنا وهناك ما لا يُحصى من أبناء جلدتنا دون أن تهتز في جسدنا شعرةٌ واحدة ، ولكني أرجو أن يُفهم بكل صراحة أن هذا الداء الوبيل لا علاج له إلا بالرجوع إلى شريعة الله جلّ وعلا ، وإلا بالرجوع إلى تطبيق شرائع الإسلام ، وبغير هذا الطريق فلا يمكن أن تحلّ المشاكل . وللأسف نحن نعيش زماناً نجد فيه المناداة بتطبيق شريعة الإسلام كلاماً مستنكراً يُعرّض المنادين به للسجن وللعقاب ، ولكن المناداة بالتحلل والميوع والظلم والعدوان والإسفاف والزنا والخنى واللواطة تلاقي من الجهات الحاكمة ترحيباً وتروجياً ويُعد أصحابها من الأبطال المجددين التقدميين جداً جداً جداً .

إن المسألة يجب أن تُعرف أن ضمان كل شيء هو في شريعة الإسلام ، فليكن الشعار الذي يُرفع في هذه الأيام : طبقوا شريعة الله . لأنها وحدها هي التي تميت بذور الشر في نفس الإنسان وتقيم دعائم المجتمع على قواعد العدل الذي لا مطمطة فيه ولا تطويل ولا رُشى ولا فساد ولا بيع ضمائر ولا قلباً للحق باطلاً وللباطل حقاً . فقط هذه الشريعة هي التي تضمن لنا الاستقرار ، وطبعاً هذا طريق طويل لا يطرأ على ضرورته أن ننبه بإلحاح إلى ضرورة أن يواجه كل العقلاء في هذه المدينة وجائبهم ومسؤولياتهم ، لأن الأمر أخطر مما يتصورون ، رحم الله الذين ماتوا ، ماتوا وانتهوا ، ذلك لا يعني أن يموت الناس كلهم من بعدهم طالما أن في حس العدالة عند الناس ما يقف الأمور عند حدودها ، فلنحتكم إلى العدل ولنحتكم إلى المنطق ولنحتكم إلى الصواب ، ونحن البعداء عن هذه القضايا علينا أن نتحلى بخلق الشجاعة ، علينا أن نجهر بالحق وأن نقف مع الحق وأن ندافع عن الحق حتى يستريح المجتمع . أما إذا حسبنا حساب غيظ فلان وزعل فلان فهذا شيء يطول ، إن علينا أن نحسب حساباً واحداً هو أن نرضي الله جلّ وعلا ، وأن نريح الحقوق إلى أربابها ، وأن نوفر أسباب الطمأنينة لهؤلاء المواطنين الذين لا يملكون دفع الشـر عن أنفسـهم إلا بعون من الله ومعونة أخرى من عقلاء الناس .

فأسأل الله العلي القدير أن يلهمنا جميعاً ، كل الأطراف ، أن نتحاكم دائماً إلى قواعد العدل ، وأن نعرف بصورة ٍ واضحة أن طريق الشر يطلب دائماً أوله آخره ، أي أنه بلا إمهال ، وأن العدل يقتضي أن يقف كل شيءٍ في مكانه ، وأن يجتمع الأطراف كلهم ليعيدوا الحساب من جديد ، فما كان من مال يُعوّض وما كان من نفس تودى ، وما كان من عملٍ عُطّل يعوض أيضاً ، ثم لا شـيء بعد ذلك . والناس بعدُ إخوة ، وفي أمثالكم العامية : المصارين تختلف في بطن الإنسان ، وأي مجتمع خلا من المشكلات ؟ بل أي بيت خلا من المشكلات ؟ ومع ذلك فالأمور تقبل الحلّ دائماً عند العقلاء ، فأين العقلاء ؟ أملي كما قلت لكم ضعيف ، أنا متشائم ، لا أكتم الله ولا أكتمكم ، وضع هذه المدينة لا يعجبني ، وضع هذه المدينة يبعث القرف في نفسي ، ويجعلني أكاد أغسل يديّ منها على الإطلاق ، ويجعلني أتصور ذلك اليوم الذي يرحل منها كل عاقل وكل شريف لتبقى مباءةً يسرح  ويهرع الأشرار والسفهاء ، ومع هذا فنحن بشر ، نخضع لهذه التأثرات ولكن أملنا برحمة الله كبير ، كبير جداً أن يغير من هذه الخلائق ، وأن يغير من هذه العقول ، وأن يغير من هذه القلوب ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .