أهمية العلم

العلامة محمود مشّوح

أهمية العلم

7 / 3 / 1979

العلامة محمود مشّوح

(أبو طريف)

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :

 فقد تبيّن لنا خلال أحاديثنا الماضية المكانة العالية التي يحتلها العلم ، والشرف الكبير الذي أسبغه الله تعالى على العلماء ، حتى نُظر في الإسلام إلى العلم على أنه هو الدين رفعاً لمنزلته وإعلاءً لشأنه وحضاً وترغيباً لطلبه وتحصيله . وأحسب أن الإشارات العابرة التي جاءت خلال الأحاديث الماضية مشيرةً إلى نماذج من علمائنا الكرام رحمة الله عليهم جميعاً كافية في هذا المجال لإعطاء السامع صورة رائعة ومضيئة للآثار العظيمة التي تحققت بناءً على عناية الإسلام بالعلم وحض الناس على طلبه وتحصيله . أسارع فأقول : إن الكلام عن هذا الموضوع الخطير لم ينتهِ ، وليس من اليسير أن ينتهي خلال عدد من الأحاديث ، لكنا نريد أن نلملم خطوط الموضوع ونكف من أطرافه حتى نبلغ من هذا الحديث أربنا ونصل إلى حاجتنا منه في أقرب وقت . لهذا لن أطيل الوقوف عند شعب هذا الكلام وتفاريعه ، إنما ليس عدلاً في موضوع من هذا القبيل أن يُصرف النظر عن بعض الجوانب التي بالناس الحاجة إليها .

 أريد اليوم أن أقف عند ظاهرة تتصل بالموضوع ، حدثتكم بعض الحديث عن بعض علمائنا الأبرار وعن حرصهم على العلم وعن إبداعهم فيه ، إن الإنسان المسلم يحتاج أيضاً في هذا المجال إلى أن يرنو بطرفه إلى جوانب مما كان عليه هؤلاء العلماء ، وهذا موضوع سيأتي الحديث عليه بعد ، لكن لا بد من أن نعرف حجم الإبداع والإنتاج الذي استطاع علماؤنا بفضل الله وبتوفيقه أن يحققوه ، وسأكتفي بالتنبيه على بعض الأسماء ، الأسماء البارزة في تاريخنا ، والتي لا يعرف جمهور الأمة عنها شيئاً ، خذوا إليكم مثلاً : شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري ، الشـافعي ، أحمد بن حنبل ، الإمام الرازي ، حجة الإسلام الغزالي ، أبو الوفاء ابن عقيل ، الإمام الذهبي ، شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم ، ابن كثير ، ابن حجر ، الجرجاني ، الذهبي ، السيوطي ، إلى آخر هذه القائمة . هنا ظاهرة تلفت النظر ، هذه الأسماء التي ذكرتها لكم مضروبة بعشرات بأمثالها بل بمئات أمثالها ، تركت إنتاجاً لا يكاد العقل يتصور إمكان أن يحدث ، إن العلماء من بعدهم أجروا ما يشبه الإحصاء فوجدوا أن هؤلاء العلماء الأفذاذ بالرغم من أن بعضهم لم تتقدم به السن كالإمام النووي الذي عاش خمسةً وأربعين سنة فقط ، تركوا من المؤلفات ما لو وُزّع على أيام عمرهم منذ الولادة إلى الموت لأصاب كل يوم عدة كراريس ، كتابةً وتأليفاً ، كيف انفسح المجال واتسع الوقت لهؤلاء كي يطلبوا العلم ويكتبوا في العلم ؟ من أين جاءتهم هذه المُهَل غير المعقولة ؟ إن الإمام النووي مثلاً توفي على رأس الخامسة والأربعين من عمره ، لكنه لو وقفتَ ووضعت مؤلفاته كتاباً فوق كتاب لكانت مؤلفاته تزيد على طولك عدة مرات ، في هذا العمر القصير كيف أمكنهم الكتابة ؟ بل كيف أمكن الإنتاج الغزير الذي لا يصدقه العقل ؟

 نحن حينما نقارن بين هذا وبين الأحوال التي نحن عليها ، وحينما نعلم أن أحدنا يعجز أن يقرأ كراساً واحداً في اليوم ، مجرد قراءة ، نكتشف أن هنالك شيئاً غائباً عن الساحة عندنا ، شيئاً مفقوداً لدينا ، كان موجوداً ومتحققاً لدى أولئك العلماء الأعلام .

 باختصار إن منهج الطلب ومنهج العلم والتعلم منهج معروف في الإسلام ، وإن كان ضجيج المدارس الحديثة والمذاهب الحديثة في التربية والتعليم تطغى على منهج الإسلام في العلم والتعلم ، وهذا المنهج لقي من علمائنا الأوائل رحمة الله عليهم عنايةً فائقة ، دُرست هذه القضية وكُتبت بحثاً وكتب فيها العلماء كجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ، وأخلاق الراوي وآداب السامع ورحلة في طلب الحديث وتعيين المتعلم طريق التعلم وإلى آخر هذه القائمة من الكتابات التي اعتنى أصحابها بتجلية أسلوب الإسلام في طلب العلم والتعليم . إن غيبة منهج الإسلام في باب العلم مسؤولة عن تقلص العلم في مجتمع المسلمين المعاصر كمسؤولية غيبة منهج الإسلام في كل شيء ، إن غيبة منهج الإسلام في الاقتصاد مثلاً ولدت هذا المخلوقات الشائهة التي تسمى تارةً بالشيوعية وأخرى بالاشتراكية وأخرى بالرأسمالية إلى آخر هذه القائمة . غيبة منهج الإسلام في السياسة ولدت هذه المخلوقات الكريهة كالديمقراطية والديكتاتورية والفاشية والنازية وما أشبه ذلك ، غيبة منهج الإسلام في الأخلاق والسلوك ولدت هذه المناهج الأخلاقية التي يُعنى بها الفلاسفة . غيبة منهج الإسلام في الاجتماع مسؤولة عن تعدد المناهج والمذاهب الاجتماعية المعروفة في هذه الأيام .. بالتالي نحن نضع أصبعنا بكل صدق على سر الأزمة التي تجتازها أمة الإسلام وتتخبط بين براكينها وفي وسط أغلالها وقيودها . إن الإسلام كان مجهول ولذلك فهو مظلوم ، ولذلك يقعد عن نصرته أولى أوليائه لأنهم يجهلونه ، والناس بالطبع أعداء لما جهلوا .

 في هذا الموضوع الذي نحن بصدده يحسن أن نعرف منهج الإسلام في العلم والتعلم ، قبل قليل قلت لكم : إن الإسلام يعتبر طلب العلم ديناً ، وهذا يظهر لكم عما قليل ، ما دام طلب العلم ديناً فإن العناية به ينبغي أن تكون على أقصى ما يمكن أن تتوفر عليه هذه العناية في أخص خصائص الدين وأدق شؤون الدين ، لماذا أنت تأكل بالدين ؟ لماذا تتبنى الإسـلام ؟ لماذا جئتَ إلى هنا لكي تصلي لماذا ؟ لكي ترضي الله ، لكي تنفذ أمر الله إليك ، إذاً فالنتيجة المنطقية لوضع كهذا أن إيرادة ما سوى الخالق في أي عملٍ من الأعمال ممحقةٌ للبركة وأمر نروي فيه الفائدة من العمل . ألم تسمعوا الله جلّ وعلا يذكر في محكم كتابه الكريم حين يعرض عاقبة ومآل أعمال الشاكرين على ما فيها من جلال وعلى ما فيها من روائح الخير ؟ فيقول ربنا تبارك وتقدس حاكياً عن مآل هـذه الأعمال يوم القيامة ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً ) لماذا ؟ لفقدان التوجه الصادق أثناء العمل إلى الله تعالى ، لانعدام نية إرضاء الخالق لما يفعل المخلوق ، وإلا فلا شيء يدعو إلى إضاعة ثواب عملٍ من الأعمال . أنت تنفق وأنا أنفق ، ظاهر الحال ، ظاهر العمل واحد ، لكن عند المحاسبة قد يكون بين ما أعمل وما تعمل كما بين السماء والأرض ، والسبب في ذلك يعود إلى الأرضية التي انبنا عليها العمل ، إلى النية التي كانت متوفرة أو غير متوفرة أثناء أداء العمل .

 إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه قوم مجتابو النمار ، أرديتهم مشققة ، صفر الوجوه ، تبدو عليهم آثار المسكنة والفقر والحاجة ، فلما نظر إليهم تمعّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي تغير وتلوّن ، هذه الظاهرة في مجتمع المسلمين مرفوضة وغير مقبولة ، وليس من الإسلام ولا من الإيمان أن تبيت جائعاً أو تبيت شبعان وجارك جائع ، وليس من الإسلام ولا من واجب أخوّة الإسلام أن تؤذي جارك بقتار قدرك إلا أن تغرف له منه ، ليس من الإسلام ، لأن مجتمع المسـلمين هو المجتمع المتضامن المتكافل الذي إذا اشتكى بعضه اشتكى كله ، لهذا السبب فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ما رأى من هذه الظاهرة الشاذة المؤذية فتمعّر وجهه ، أي تغير ، ثم قام صلوات الله عليه فاختطب وقال : تصدق رجل من ديناره ، تصدق رجل من درهمه ، تصدق رجل من صاع بره ، تصدق رجل من كذا وكذا ، وانهال المسلمون يأتون بالصدقات ويضعونها أمام النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، الصحابة رضي الله عنهم يتفاوتون من حيث الغنى والفقر ، الغني يعطي على وجده ، والفقير يعطي وفاقاً لجهده ، وجاء الناس بالطعام والثياب ، كوم ها هنا وكوم هناك ، وجاء رجل يحمل صرةً أو كفاً من تمر ، كف تمر من تمر المدينة ، قد يكون حشفاً بالياً ، ماذا يغني قوماً مستهم المسغبة وعضهم الجوع ؟ وتلفت الصحابة بعضهم إلى بعض ، النبي الكريم المعلم أراد أن يغتنم الفرصة السانحة ليبيّن أن العمل لا يأخذ قيمته من حجمه الظاهر ، لكن يستمد كامل قيمته من الدافع المحرك وراءه ، أي بالنية ، تناول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام صرة التمر الصغيرة ووضعها فوق الكومين الذين تجمعا أمامه إبرازاً لهما وإشعاراً أن هذا الذي جاء بجهده ، وهو هذا الذي استطاع أن يقدمه ، هو كل ما لديه ، لو ملك الدنيا بحذافيرها لجاء بها ، فالمدار ليس على القدر والكمية ، لكن المدار على الدافع وعلى النية .

 لهذا السبب نستطيع أن نقول باطمئنان وفاقاً لمقررات الإسلام أن العمل صغر أم كبر ، هان أم عظم ، لا بد لكي يكون ذكياً منتجاً مثمراً من أن يكون مصحوباً بالنية . طلب العلم من هذا الباب ، إن لم تكن من ورائه نية التحصيل لإفادة الخلق وإرضاء الخالق ، لاحظوا : إن لم تكن نية التحصيل لإفادة الخلق وإرضاء الخالق متوفرة وموجودة فلا فائدة ، قد يمتلك الإنسان المعلومات التي تجعله كالعقل الإلكتروني ، خزان للمعلومات ، لو سألته أجابك ، كما لو ضغط على زر في العقل الإلكتروني ليعطيك النتيجة في ثانية ، لكن الفائدة لن تتحقق بحال ، إن الفائدة تتحقق حينما يتم التواصل الإنساني بين العالم والمتعلم المرفق معها بهذه النية الخيرة ، نية تحصيل العلم وإيصاله إلى الخلق إفادةً للمخلوقين وإرضاءً للخالق تبارك وتعالى . هذا المعنى يتجلى لبروز وبوضوح إذا نحن أحضرنا في أذهاننا الحديث المشهور بحديث النية وهو ما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنما الأعمال بالنيات . أي إنما تمام الأعمال أو صحة الأعمال بالنية ، و( إنما ) أداة معروفة عند دارس العربية أنها أداة حصر وأداة قصر تقصر صحة الأعمال على ما يأتي بعد هذه الأداة التي هي ( إنما ) فالنبي الكريم بهذا الكلام ينصص على أن الأعمال صحةً أو فساداً ، تماماً أو نقصاً ، تتوقف على النية : إنما الأعمال بالنيات . هذا واحد ، فلا عمل بغير نية ، وإنما لكل إمرئ ما نوى . قد تقصد الشيء إن كان الله رائدك بذلك فالأمر على ما أردت ، وإن كان الله لم يخطر لك ببال ولم يحضر في ساحة ذهنك حين الهمّ بالعمل وحين إبراز العمل إلى حيز الوجود فأنت خاسر بلا ريب . وإنما لكل إمرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله . أراد شيئاً مما هو دين ، مما يرضاه الله فأثابه الله وفاقاً لنيته ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه . هذا الحديث حين قاله النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان مُنزّلاً على سبب ، هذا السبب هو أنه حين بدأت طلائع الهجرة من مكة إلى المدينة ، كانت الهجرة عملاً دينياً مفروضاً على المسلمين ، حتى وقف النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم يقول : أنا بريء من كل مسلمٍ لم يهاجر ، أنا بريء من كل مسلمٍ لم يهاجر . لا بد في مرحلة الدعوة أثناء التأسيس والبناء من أن تتجمع طاقات المؤمنين جميعاً في ساحة العمل ، وحينئذٍ فليس من الإسلام أن يبقى مسلم خارج دار الهجرة ليكثر سواد المشركين ( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض ) لا نستطيع الهجرة ( قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) والله يرد على هؤلاء حجتهم بقوله ( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ) أرض الله واسعة ، وعلى كان الإنسان المسلم في مراحل الدعوة الأولى وأثناء البناء والتأسيس أن يحذر من أن يكثر سواد المشركين ، ومِن أن يحجب ولو جزءًا طفيفاً من الطاقة عن ساحة العمل وساحة البناء . حين استمر مرير الهجرة وجاء المسلمون من أقطار الجزيرة أرسالاً ووحداناً ليستقروا في مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة كانت النوايا في الغالب إرادة الله وحب رسول صلى الله عليه وسلم والرغبة في تدعيم الإسلام ونصرة الإسلام ، لكن في حركاتٍ عامة جامعة من هذا القبيل لن تعدم مَن تكون له نية ليست مخلصة كما يجب . قبل الهجرة كان في المسلمين رجلٌ يهوى امرأة ، كان مشغوفاً بها ، هذه المرأة تكنى أم قيس وهاجرت مع المهاجرات ، وقد يكون دافع الهجرة أساساً موجوداً في قلب الصحابي الذي كان يهوى هذه المرأة ، ولكن طغيان الهوى وتملك لقلبه جعل الدافع الأساسي والأقوى هو أن يلحق بمحبوبته أم قيس ، مثل هذه الأمور لن تخفى ، ينمّ عليها سلوك الإنسان وفلتات اللسان .. وأصبح المسلمون بعد الهجرة يتندرون في هذا المهاجر ويسمونه مهاجر أم قيس ، لكي يفرقوا بينه وبين المهاجرين الذين هاجروا إلى الله ورسوله ( ومَن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله فقد وقع أجره على الله ) حينما شاعت المقالة واللقب ( مهاجر أم قيس ) قام النبي صلى الله عليه وسلم ووضع الأمر في نصابه ، وبيّن أن الهجرة من حيث هي عملٌ من أعمال الإسلام لا بد لها من نية ، لا بد من نية ، وهذه النية لا بد أن تكون مخلّصةً لله تبارك وتعالى ، فقال هذه المقالة ، هذه المقالة كما ترون لها صفة العموم وأن عمومها يشمل كل عملٍ من أعمال الإنسان ، كل عمل ، صغيراً كان أو كبيراً ، علمياً أو عملياً ، اعتقادياً أو أخلاقياً ، لا بد أن يكون من ورائه هذا الدافع الذي هو نية القيام بالعمل إرضاءً لله تعالى وطلباً لما عنده .

 لهذا فإن العلماء رحمة الله عليهم وضعوا في هذا الصدد قاعدة : لا عمل من غير نية ، ولا نية ولا عمل من غير متابعة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . هذه النية التي ألمعنا إليها وأشرنا إلى أثرها مجرد إشارة يجب أن تكون هي المتوفرة أثناء وقبل وبعد طلب العلم ، إذا فُقدت محقت بركة العلم بالكامل ، كانت هذه النية أوفى ما تكون وأوفر ما تكون عند الصحابة رضي الله عنهم ، في حديث يزيد بن سلمة الجهني رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله إني سمعت منك حديثاً كثيراً وإني أخاف أن يُنسيني أوله آخره ، فقل لي كلمةً جماعاً . والكلمة الجماع هي اللفظ المفرد أو الجملة الموجزة التي تجمع المعاني الكبيرة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، ماذا تتصورون ما قال ؟ لا ثرثرة المدارس خطرت في باله ولا محاضرة علماء التربية وردت في ذهنه ، لكن أراد أن يجمع له خير العلم كله ، فقال له : اتقِ الله فيما تعلم . ماذا تعني هذه الكلمة ؟ هذه الكلمة تعني باختصار : أن العلم في شريعة الله تعالى حجة لك أو عليك ، في سياق العمل إن أنت حكّمتَ مراد الله في تصرفاتك فالشريعة والعلم بالشريعة حجة لك ، والقرآن يأتي يوم القيامة يُحادّ عن أصحابه ويقول : يا رب منعته النوم . ويشفع القرآن فيُشفّع ، يقبل الله تعالى شفاعة القرآن . إرادة الله تعالى أثناء طلب العلم وقبل وبعد هي التي تجعلك قادراً على الإفادة والاستفادة ، إذا كان الأمر بهذا الشكل فأنت تطلب العلم لتستخدم العلم فيما يرضي الله ، لا يجوز أن يُطلَب العلم لكي يُمارى في السفهاء ، ولا يزارى به أهل الأهواء ، ولا يُتجمّل به في مجالس العلماء ، ولكن لينفع به الناس وليرضى به رب الناس تبارك وتعالى .

 لهذا السبب كان علماؤنا الأوائل لا يرغبون فيما يُعد من مُلَح العلم ونوادر العلم ، وكانوا لا يتعلمون من العلم إلا ما ينعكس أثره بصورة مباشرة على حياة الناس ، أي ما كانت له ثمرة عملية يستفيد منها الناس ، كانوا يعلمون أن العلم حجة لك أو عليك ، ومَن استكثر من العلم فإنما يستكثر من حجج الله تعالى عليه فقط ، لهذا السبب خلصت نيتهم منذ البداية ، لم يطلبوا العلم للوجاهات ولم يطلبوا العلم للمماراة ولم يطلبوا العلم للتجمل والتزين ، وإنما طلبوا العلم للعمل ، فبورك لهم فيما طلبوا ، هذا جانب من جوانب وصية رسول الله للصحابي الذي خشي لكثرة ما سمع من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم .. خشي أن ينسى بسبب الكثرة بعض حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكانت وصاته عليه السلام : اتقِ الله فيما تعلم . أراد له أن يتعلم العلم لإفادة المخلوقين إرضاءً للخالق تبارك وتعالى ، وأراد أيضاً بقوله أن يكون الله رائده ، أن يكون الله رائده ، أنت تفعل الشيء أي شيء لغرض ولغاية ولسبب ، الغاية إذا كانت حرة كان عملك حراً ، والغاية إذا كانت رديئة كان عملك رديئاً ، حين تضع الله تعالى غايتك فتقول : إن الغاية هي الله من العمل ، فلا شك أن عناية الله سوف تظل مخيّمةً عليك تهديك حين يضل الناس ، وتقوّمك حين تزل الأقدام ، وترشدك حين تدلهمّ المسالك والطرق أمام الأعين والأبصار . لم يكن أحد من أصحاب النبي الكريم ولا من سلف الأمة الطيب رحمة الله عليهم مَن كان يعتبر العلم وساماً يعلق على صدره ، وإنما كان يعتبر العلم كمالاً في الإنسانية ، ويرى أن عاراً عليه الرضا بالجهل ، ويرى أن العلم من صميم الإسلام ، فإذا هو أعرض عن العلم فكأنه أعرض عن الإسلام بالذات ، ولم يكن يطلب العلم لتُعقد من حوله المجالس أبداً ، هذا غير وارد ، وإنما كان يطلب العلم ليفيد الناس ، ولم يكن يطلب العلم ليظهر به على الأقران ولا ليغلب به الخصوم ، هذا آخر شيء يرد في أذهان المسلمين الطيبين رضوان الله عليهم ، سأروي لكم ، بعد جيل الصحابة رضي الله عنهم وفي أواخر عصر التابعين ، حين ازدحمت صدور الرجال بالعلم ، وأصبح طلب العلم قيمة المجتمع الإسلامي البارزة ، كان في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم رجل يأتي المسجد النبوي مغتسلاً نظيف الثوب عطر الرائحة ، ويجلس قريباً من القبر الشريف ، قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، والناس من حوله صموت كأن على رؤوسهم الطير ، وهو لا يزيد على أن يقول : حدثني فلان عن فلان أن صاحب هذا القبر ، ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : كذا وكذا وكذا . ذلكم هو إمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي رضي الله عنه ، كان في بدايات الخلافة العباسية ، والخلفاء وإن أخذوا اسم الخلافة ، لكن ينبغي أن لا يغيب عن البال أن سموم السلطة تسربت إلى جوانب من نفوسهم فأفسدت كثيراً وأصلحت قليلاً ، كانت قصور الخلفاء في بعض الأحايين مجالاً لعقد حلقات العلم أو المناظرة والجدل ، وكان الخليفة وكبراء الدولة وقوادها يجدون لذةً ومتاعاً حينما يستمعون إلى الحجج والأدلة يتقاذفها المتنافسون ، كتب الخليفة إلى الإمام مالك أن يحضر من المدينة إلى حاضرة الخلافة في بغداد ليناقش علماء بغداد . ماذا ترون كان من جواب الإمام الذي اتخذ مجلسه قريباً من القبر النبوي ؟ هل أطاع أمر الخليفة ؟ هل تزلّف له ؟ هل حاول أن يجامله كما يفعل علماء السوء الذين يغمسون أيديهم وأذقانهم على موائد الحاكمين والمتنفذين في هذه الأيام إرضاءً للشهوات وتزلفاً وتدللاً لمن لا يصلح أن يحل لهم سير أحذيتهم ؟ لا ، الإمام مالك ليس من هذه النوعية ، أخذ الدواة والقلم وتناول قرطاساً وكتب وبدأ بنفسه : من عبد الله مالك بن أنس إلى أمير المؤمنين أما بعد : فإني أرفع العلم أن يكون سبباً للتهارش كما تتهارش الديكة . العلم لم يسكن قلوب المسلمين لكي يكون وسيلةً من وسائل الغلبة وقهر الخصوم ، ولكنه نور وسراج في القلب يضيء للسارين دجى الليل ويكشف للناس عما ينبغي لهم وعليهم أن يفعلوه وأن يتركوه ، وهذه وظيفة العلم ، أما الظهور على الخصوم فهذا شيء لا يخطر في بال المسلمين .

 أخرى ، جاء الإمام أبو حنيفة وهو مَن هو رضي الله عنه فوجد ابنه الكبير حمّاد رحمة الله عليه في مجلسٍ من أصحابه يتناظرون ، يريدون أن يغلب بعضهم بعضاً في الحجة في المناقشة في الكلام ، ونظر أبو حنيفة بعد أن أخذ أذنه جوانب من الكلام ، ثم التفت إلى ابنه مغضباً وقال : يا بني ألم أنهك عن المناظرة ؟ قال له ابنه حماد : يا أبتِ ألم تكن تناظر ؟ وبالفعل كان الإمام أبو حنيفة قبل أن يشتغل بالفقه إماماً من أئمة علم الكلام والنظر ، وبلغ في هذا الفن الدرجة التي لو أراد أن يقنعك أن هذه الأسطوانة من ذهب وليست من حجر لاستطاع أن يقنعك بها ، قال له : نعم يا بني ، لكن ، لفت نظره إلى شيء وإلى حالة وإلى أرضية كما نقول ، إلى النية ، قال له : يا بني كنا نتناظر وما منا واحد إلا وهو يودّ أن الحق ظهر على يد أخيه . لا يهم أن يكون الحق عن طريقي أو عن طريقك ، المهم هو ظهور الحق ولا شيء وراء ذلك ، وكنا نتناظر أيضاً ليست فقط نية ظهور الحق ونية الحرص على الآخرين أيضاً ، وكنا نتناظر وكأن على رؤوسـنا الطير ، لماذا ؟ مخافة أن يذل صاحبنا ، وأنتم اليوم تتناظرون تريدون زلة صاحبكم وتلتمسون أن يخطئ لكي تسخروا منه وتضحكوا على لحيته ، ومن أراد ذلة صاحبه فقد كفر . لماذا يكفر ؟ لأنه ليس عالماً ولا متعلماً ، وإنما هو عابث ، عابث ، لاعب بالعلم ، فالإسلام إذاً حين كان يحضّ على العلم كان يرغب ويحفز أن تكون نية الإفادة لإفادة في خلق الله وإرضاء الخالق حاضرةً قبل أي شيء . لهذا كان كثير من الأصحاب رضوان الله عليه لا يعرفون كثيراً مما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، مجتمع فيه مزارع وفيه الطالب وفيه التاجر وفيه المجاهد وليس كل الناس كان قادراً على أن يعمر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أن يحضر كل المجالس التي كان يجلسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس كل الناس قادراً على ذلك ، ما ضرّ في هذا أبداً ، القرآن وهو القرآن أُخرج معظم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسـلم في أكفانهم قبل أن يجمعوه في صدورهم ، لم يكن يحفظ المصحف حين تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الأصحاب الذين بلغوا مئات الألوف إلا أربعة على أصح الأقوال ، مع هذا ما ضرّهم ذلك شيئاً ، إن الأمر ينحصر في مقولة صغيرة : إذا أنت أخلصت لله نيتك في الطلب لا يضرك شيئاً أن يكون علمك كثيراً أو قليلاً ، إن القليل من العلم مع الكثير من النية الصالحة ينفع ، وإن الكثير من العلم مع انعدام النية الصالحة يضر ولا ينفع ، هذه واحدة . وهي المدخل الذي لا بد لطالب العلم لولوجه قبل أن يفكر أن يستفيد شيئاً من العلم ، بركة العلم تحصل حينما تتخلّص لله .

 أيضاً ثمة شيء آخر هو الأدب ، الأدب المقصود في طلب العلم ، في تقديري أنني رويت لكم من قبل الحديث المعروف والمشهور بحديث الإيمان والإسلام ، وهو حديث جبريل الذي يرويه عمر بن خطاب رضي الله عنه ، أعيد عليكم جوانب من الحديث مما يتصل بالأمر الذي نحن بصدده ، يروي عمر قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع إلينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع ركبتيه إلى ركبيته ، أسند ركبتيه إلى ركبتيه يعني ركبتي نفسه إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم ، ووضع كفيه على فخديه ، يعني وضع يديه على فخدي نفسه ، ثم بدأ يسأله ، الأسئلة كلها عن الإيمان وعن الإسلام وعن الإحسان وعن أشراط الساعة ، وقد مر الحديث عليها كما مر في رواية الحديث كاملاً من قبل عدة أسابيع أو عدة أشهر ، المهم ما قاله عمر في آخر الحديث ، قال : فلما كان بعد ثلاث ، يعني بعد ثلاثة أيام ، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : يا عمر أتدري من السائل ؟ من هذا الرجل الذي طلع عليكم وجلس فسأل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنه جبريل جاء يعلمكم دينكم . لا حظ أن الحديث يتضمن سؤالاً وجواباً ويتضمن هيئة وحالة ، أما الأسئلة والأجوبة فليس من شأننا أن نبحثها بعد أن بحثناها من قبل ، لكن الحالة ، الحالة مندرجة ومتضمنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم : جاء يعلكم دينكم . أي من الدين أن يتأدب الإنسان في طلب العلم ، يأتيك الإنسان وأنت تمشي فيصيح عليك : فلان ، بكل رعونة وسوء أدب ، فتلتفت : نعم ، فيقول : أريد أن أسألك ، بكل سوء أدب ، سوء تربية ، إن العلم لا يُطلب بهذا الشكل ، مع ذلك نحن نفعل هذا الشيء . يأتيك إنسان فيضطجع ويسألك : ما قول الإسلام في كذا وكذا ؟ إن العلم لا يُطلب بهذه الأساليب السيئة والرديئة ، إنك أمام دين قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه الدين . والدين لا يُطلب بهذه الأساليب التي تكشف عن الاستهتار والاستخفاف ، لا ، لا بد من الأدب اللازم لطلب العلم ، إن الشيوخ لا يُلقَون بشيء من هذا القبيل ، لا بد أن تلقاهم وأنت تعتقد أن معرفتك من مخزون صدورهم ، ابن عباس رضي الله عنهما ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسمى البحر ، ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبشيء آخر ، سُئل ابن عباس : بمَ حفظتَ هذا العلم ؟ كيف استطعتَ أن تحفظ على هذا القدر من العلم ؟ للعلم نقول لكم أن ابن عباس رضي الله عنهما في زمانه لم يكن كما يعرف الكثير معروفاً بتأويل القرآن وتفسيره ، هذا جانب من جوانب من كان في صدره . كان يأتيه السائلون عن القرآن فإذا قضوا مجلسهم قاموا وجلس إليه الذين يطلبون الفقه ، فإذا قضوا مجلسهم وقاموا وجلس إليه الذين يطلبون العلم بالعربية وأساليب العرب في الكلام ، فإذا قضوا نهمتهم قاموا وجاء الذين يطلبون التاريخ والعلم بأيام الناس وهكذا ، كل فن من الفنون العلمية التي يعرفها الناس في ذلك الزمان كان ابن عباس رضي الله عنهما ملماً بها ومحيطاً بما هو معروف منها ، سأله البعض : كيف حصلتَ على هذا القدر من العلم ؟ قال : بلسان سئول وقلب عقول ، بلسان سئول ، أي لا يستحي ولا يستنكف من السؤال عما يجهل ، إن الرضى بالسهل دون ، والرجل هو الذي يرفع نفسه عن منازل الدون ، وليس عيباً أن يسأل الإنسان عما يجهل ، لكن العيب وكل العيب أن يرضى الإنسان بالجهل . بلسان سئول ، وأيضاً وقلب عقول ، الذي يسمعه ابن عباس يعقله ، وما لا يعقله ليس أن يفكر فيه وإنما يقيّده بحيث لا ينساه أبداً ، ثم قال لهم : إني كنت ، وانتبهوا إلى هذه الناحية ، إني كنت أذهب إلى الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأسأل عنه فيقال لي إنه نائم فأجلس في الطريق وتحت الشمس حتى يخرج فإذا خرج ابتدرته بالسؤال ، لا يزعجه ، مع أنه لو أراد أن يستأذن على أحد وإن يكن أكبر الصحابة فسوف يجدون أنه شرف كبير جداً إذ يجيبون ابن عم رسول صلى الله عليه وسلم ، إن الأبواب كلها تُفتح كلها في وجه ابن عباس ، لكن ابن عباس يعرف أن للعلم ولتحصيله أدباً ، إذا نحن لم نرعَ وإذا نحن أهدرنا أولياته محقت بركة العلم .

 في الصحابة رجل اسمه معاذ بن جبل رضي الله عنه ، ولا أظن أحداً من المسلمين يجهل اسمه ، معاذ بن جبل مات ابن خمس وثلاثين سنة ، مع ذلك حينما تعرض المسألة من مسائل العلم والجلة من الصحابة رضي الله عنهم ، أشياخ المهاجرين والأنصار وأهل بدر وبيعة الرضوان من الذين شابت رؤوسهم في الإسلام كانوا قبل أن يجيبوا يلحظوا معاذ بن جبل ، لأن هذا الشاب كان على درجة من العلم عالية ، وحسبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له بذلك فقال : يُحشر معاذ بن جبل يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة ، يعني في مقدمة العلماء ومتصدراً دونهم . وكان ابن عباس ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى معاذ بن جبل راكباً يأخذ بلجام بغلته فيقودها وهو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، فيقول له معاذ : دعك من هذا يا ابن عم رسول الله ، فيقول ابن عباس : هكذا أُمرنا بأن نفعل بعلمائنا . أن نحترمهم وأن نجلّهم وأن نخدمهم وأن نتأدب معهم بهذا الشكل ، هذا شرك الإفادة من العلم ، أن تعرف أن الذي يعلمك له عليك حق تفوق حق الأبوة ، فإذا أنت استخففت به واستهترت بواجب الأدب معه انعدمت الفائدة بإطلاق .

 هذان شرطان كما رأيتم ، إخلاص النية في طلب العلم ، إفادة للمخلوقين وإرضاء للخالق . ثانياً : التأدب في مجالس العلم ومعرفة أنه لا يمكن بتاتاً أن أحصل على أية فائدة هانت أو عظمت إذا أنا استخففت بمن يعلمني . هذان الشرطان أساسيان . ثمة معالم في الإسلام في طلب العلم آمل من الله تعالى أن أفرغ من ملامستها بعض الشيء في الجمعة القادمة لأخلص بعد ذلك إلى عرض موجز لبعض ثمرات العلم في نفوس العلماء ، لتشريح بعض النماذج المضيئة والتي هي بالفعل شرف للإنسانية ، التي عرفت قدر العلم وعرفت شرف العلماء وعرفت منزلة العلم من الإسلام وعرفت مكان العالم من دين الله وشرعه فكانت نماذج تقدَّم للناس على إعجاز الإسلام في تقييم البشر ، إن شتيت المناهج ومختلف المذاهب أفرزت نماذج خلال مسيرة الإنسانية قبل الإسلام وبعد الإسلام ، حينما نأخذ بالمقايسة والمقارنة نجد السمو والكمال والإنسانية العالية المهذبة في صنع الإسلام للعلم ، ونجد الإسفاف والابتذال والهوي والانحدار فيما أفرزت هذه المناهج والمذاهب والمدارس من نماذج بشرية ، إن رغبتي في الوقوف عند هذه النماذج العالية التي صنعها الإسلام ليست من أجل أن أضع أمام الشانئين والكاذبين والمتصدين لهذا الدين دليلاً على قدرته على تخطي الصعوبات ، ولا دليلاً على قدرته على سحق الأعداء وتجاوز المعوقات ، لا ، إن هذا مما لا أقف عنده ولا أحتاج إليه ولا أشغل نفسي به ، إنني بالممارسة وبالعمر الطويل الذي سلخته وبالقدرة غير العادية على قراءة الأحداث وقراءة الأشخاص واثق أن هذا الإسلام سيسحق أكبر رأس وسيذل أشمخ أنف وستكون له الغلبة ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز ) لكن متى ؟ حينما يوجد الرجال ، وهذه النقطة هي التي أقف عندها ، حين أعرض لهذه النماذج لا أعرضها من أجل الخصوم ، ولكن لكم ومن أجلكم لكي تستعيدوا الثقة المفقودة في قدرة الإسلام على أن يبني منكم مجتمعاً هو فوق الإنسانية ، وعلى أن يكوّن منكم رجالاً هم أقدر وأقوى مما أنتم عليه الآن بكثير ، من أجلكم أنتم تفتيشاً وبحثاً عن الرجل الذي تتمثّل فيه معاني الإسلام في عزتها وشموخها وقدرتها وقوتها . أما الخصوم فأنا لا أكترث بهم ولا أهتم بهم ولا أضعهم في البال ، لأي سـبب ؟ اسألوني لأي سبب ، أقرأتم الآية الآن ؟ من هم هؤلاء الذي وعد الله وكتب وقضى أن يغلب هو ورسله ؟ ( إن الله لقوي عزيز ) أكملوا الآية ( الذين إن مكّناهم في الأرض ) أي جعلنا لهم الغلبة والسيادة ، ماذا يفعلون ؟ يعصون ويبغون ويطغون ويستطيلون على عباد الله ويستأثرون ويشترون الأذناب والمحاسيب ؟ لا ، ( الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عـن المنكر ولله عاقبة الأمور ) إنني أعرض هـذه الأنموذجات لا من أجل أن أفحم الخصوم وأرد الأعداء ، أبداً ، وإنما بحثاً عن الرجال الذين تتمثل فيهم هذه الصور الأربعة : أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، يعني الرجال لا الإمعات ولا التافهين ولا السقطة ولا الأوباش ، إن مجتمع المسلمين اليوم يذخر بالكفاءات وبالإمكانات ، لكنها كفاءات وإمكانات ظلمت نفسها وسفهت نفسها وضيعت نفسها ، كل واحد منكم قادر على أن يكون مثل أبي بكر وعمر ، كل واحد ، لا شيء يمنع من ذلك ، لكنكم التصقت أكثر مما ينبغي بكثير بالدنيا ، بشؤونها التافهة ، بقضاياها الرخيصة ، نسيتم الله وذكرتم شيئاً واحداً أن رزقكم وأجلكم بيد عبد مثلكم ، أنتم مخطئون ، لا شيء كالوفاء مع الله ، أبداً لا شيء ، إن نفسك بيد الله ، أي حاكم وأي جبار وأي فرعون وأي قيصر وأي كسرى لا يملك أن ينتزع منك نفخة من نفسك أبداً ، رزقكم في السماء وما توعدون ، إن قيامك بالوفاء لله فيما افترض عليك وأخذ العهد والميثاق به لن يقدم ولن يؤخر في موضوع رزقك .

 إنما أعرض لهذه النماذج من أجلكم أنتم يا مسلمون ، لكي تستعيدوا الثقة بأنفسكم وبقدرة هذا الإسلام على أن يبعثكم لا بعثاً عربياً اشتراكياً ، ولكن بعثاً إسلامياً جديداً فيع معاني النبوة وفيه كرامة الخلافة الراشـدة وفيه إنسانية الصحابة ، فهمتم ؟ لهذا السـبب أنا أحرص على أن أعرض لكم هذه النماذج ، لكي تعرفوا من أنتم ، لقد طال سفهكم لأنفسكم ، طال حرمانكم لأنفسكم من التعرّف على نور العلم وقوة الإسلام ، فإذا متى ترضون بالدنية ؟ إلى متى ؟ الناس يجدّون وأنتم تهزلون ، والناس يبنون وأنتم تدمرون ، متى يستيقظ الناس ويتوثّبون على ظهور الكواكب ، وأنتم تتباحثون في الأشياء الرخيصة ؟ ألا تستحون ؟ بأي وجه تقابلون الله ؟ بأي وجه تقابلون محمداً الذي زكّاكم وشرفكم ، بأي وجه ؟ قولوا لي ، إلى متى هذا القعود ؟ إلى متى هذا الخمول ؟ أكان أسلافكم كذلك ؟ اسألوا الارض التي تجلسون عليها ، كل ذرة من ترابها مجبولة بدماء هؤلاء الأصحاب ، لتكون لكم ميراثاً لكم يا فاسدين ، لتكون لكم يا سفهاء ، اسألوا الأرض ، كل ذرة من ترابها مجبولة بهذه الدماء الزكية لترثوها أنتم يا سفهاء ، ويحكم ، إن الإنسان ليشعر أن قلبه يتمزق وبأنه يحترق حينما يرى صورة الإسلام بعظمته وبسموه وبجلاله وبكماله ويراكم يا عار الإسلام ، إن الإنسان ليتمزق ، كل هذا يجب ينتهي ويجب أن يُقطع الطريق عليه بالعزمة الصادقة وبالوقفة المصممة مع الله تبارك وتعالى للترشيح للوراثة الحقيقية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، سترون أي أجداد وأي آباء ، سترون ، تربصوا ، واسألوا الله تبارك وتعالى أن يرزقنا المزيد من فضله ، لقد حلم علينا كثيراً ، ولقد أظلنا برحمته طويلاً ، فنسأل الله المبتدي بنعمه علينا قبل استحقاقها أن ينزل علينا توبته وأن لا يكشفنا وأن لا يفضحنا وأن يعيننا على أنفسنا .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.