يا أهل الكتاب لِمَ تحاجّون في إبراهيم

العلامة محمود مشّوح

تفسير آيات

(يا أهل الكتاب لِمَ تحاجّون في إبراهيم ..)

31 / 5 / 1974

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :

فموعدنا اليوم مع قول الله تبارك وتعالى ( يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون في إبراهيم وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلِمَ تحاجّون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ، ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين ، إن أولى الناس بإبراهيم لَلذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) بعد هؤلاء الآيات حديث يمتدّ على مدى ما يقرب من عشرين آية كشـفتْ مواقف معينة لأهل الكتاب مـع النبي صلى الله عليه وسلم ومع المسـلمين ، ونبدأ بالآيات .

فالفكرة العامة الأساسية التي نستطيع أن نضع يدنا عليها ابتداءً هي أن النقاش الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة ، وبين وفد نصارى نجران من جهة أخرى لم يقتصر على هذين الفريقين ، فإذا تذكرنا أن ذلك كان في المدينة المنورة وفي أواخر العهد النبوي ، وإذا تذكرنا أن أحداثاً وخطوباً طويلة ومرّة جرت بين المسلمين وبين اليهود الذين كانوا في المدينة ، إذا تذكرنا هذا سَهُل علينا أن نعلم أن اليهود أيضاً اشتركوا في بعض مراحل هذا النقاش الذي طال وتشعب . وتذكرون أنني ذكرت من قبل أن الوفد لبث في المدينة أربعة عشر يوماً ، وأن النبي صلى الله عليه وآله أنزله في مسـجد الشريف ، وأنه كان يغدو عليهم ويروح ، وأنه في أثناء ذلك كان يستمع إليهم ويرد عليهم . ومدة من هذا القبيل طولاً لا بد أن تتشعب فيها جوانب النقاش ، ولا بد أن تتناول شتيت المسائل ومختلف القضايا ، فإذا دخلت معترك النقاش عناصر أخرى كان ذلك أحرى أن يزداد النقاش اتساعاً ، وأن ترتفع حدة هذا النقاش .

موضوع إبراهيم عليه السلام موضوعٌ لجّ فيه اليهود كثيراً على وجه الخصوص ، موضوع الصلة بإبراهيم يتردد في القرآن الكريم في مراحل عدة . ومن تاريخ اليهود نستطيع أن ندرك بسهولة أنهم استخدموا هذا السلاح كلما خُيّل إليهم أن استخدام هذا السلاح يعود عليهم بشيءٍ من الفائدة والجدوى .

 إبراهيم دون شك أبو الأنبياء صلوات الله عليه ، ثم هو أبو العرب ، والله جلّ وعلا يقول في سورة الحج : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ) والخطاب هنا قطعاً موجه إلى العرب ، فبنص القرآن إبراهيم عليه السلام أبو العرب . كذلك هو أبو اليهود ، وهو بالتالي أبو النصارى ، لأن النصارى شعبة من شعب بني إسرائيل ، وعيسى عليه السلام نبيٌ من أنبياء بني إسرائيل . النزاع إذاً يمكن أن يكون واضحاً إذا تذكرنا البيئة العربية ، الجو الجاهلي ، تعظّم أولئك القوم بالآباء وبالأجداد ، حرصهم على الأحساب والأنساب ، يرفعونها فوق المآثر وفوق المفاخر ، في مجتمع تكون هذه القضية فيه بهذا القدر من الحساسية يمكن أن تلعب فيه ورقة كهذه دوراً حاسماً ، مَن أولى الناس بإبراهيم ؟ اليهود يقولون نحن ، ولا ينكرون أن العرب أيضاً أبناء عمومتهم ، لكنهم يقولون : إن اليهود هم الأرومة وهم الأصل ، والعرب شعبة من الشُعَب ، وعلى الشُعَب أن تدين بالطاعة والولاء للأصول ، ذلك منطق مفهوم في الجاهلية ، بل هو منطق لا غبار عليه ، لأنه موضع تسليمٍ من قبل الجميع .

فاليهود إذاً استمسكوا بهذه الحجة التي رفعوها مراراً عديدة أنهم أصل القبائل السامية ، أصل الأمم السامية التي انشعبت بعد ذلك إلى أمم أخرى منها العرب وغير العرب . ولا حاجة بنا إلى أن ننبه إلى براعة اليهود في التضليل وفي التزوير ، فقبل عشرات السنين ، بل قبل مئات السنين ، منذ أن بدأ العلماء يهتمون بالسلالات البشرية ويتتبعون شجرة الأنساب للأمم والقبائل كان هناك شبه إجماع على أن العبرانيين ـ أي اليهود ـ هم أقدم الأمم السامية ، وهم أصل الأمم السامية ، وكل الأمم الأخرى السامية بما فيها العرب هي ترجع من حيث الأصل والنسب إلى اليهود . طبعاً هنا حصل استغلال وحصل تزوير على التاريخ ، سببه الجهل من قِبل كثير من المهتمين بهذه الأمور ، لكن العلم عالمي بطبيعته ، والعلم أيضاً لا يحابي ، ربما نستطيع أن نزيّف حقيقة علمية بحيث تخدمنا إلى حدٍ ، ولكنها من حيث النتيجة تبرز حقيقةً علميةً ناصعةً بريئة من كل تزوير وتشويه . وحين تقدم علم التاريخ معتمداً على الأحافير والآثار تبيّن أن أقدم نصٍ ذُكر فيه العبرانييون يعود إلى عام ألف ومائتي سنة قبل ميلاد المسيح عليه السلام ، كل الوثائق والأحافير التي وُجدت قبل هذا التاريخ لا يُذكَر فيها العبرانيون بتاتاً ، لكن هذه الوثائق التاريخية وهذه الأحافير التي لا تحابي ولا تجامل تثبت بصورة قاطعة أن تاريخ العرب يعود إلى أكثر من ألفين وخمسمائة سنة قبل الميلاد ، مما جعل علماء السلالات البشرية يعدّلون وجهة نظرهم هذه ، فيُسلمون بأن العرب هم أصل القبائل السامية لا اليهود ، وبهذا وعلى يد العلم الحديث وعلى يد العلم الذي ساهم اليهود أنفسهم بأموالهم وبنشاطهم وبذكائهم في دعمه وبتقدمهم ، بغية الاستفادة منه على يد هذا العلم سقطت خرافة الشعب المختار ، وسقطت خرافة كون العبرانيين أصل القبائل السامية ، وبقيت القضية على الوجه المقرر في القرآن كما ذكرته لكم قبل في جزء من آيات الحج ( ملة أبيكم إبراهيم ) .

لكن المسألة المعروضة أمامنا ليست في هذا المجال ، فقد ينبغي أن يكون معلوماً بدون شكوك أن الله رب العالمين وليس رب العرب وحسب ، وأن الناس لا يتفاضلون عنده بالأحساب ولا في الأنساب ، وإنما يتفاضلون عنده بالتقوى والعافية ، وبناءً على هذا فالقرآن لا يلقي بالاً إلى هذه الناحية ، وإنما يسلك ناحيةً أخرى جديرةً بالاهتمام من وجهة نظر المهتمين بالقضايا الدينية ( يا أهل الكتاب ) وطبيعيٌ أن هذا النداء يشمل الفريقين من النصارى واليهود ( لِمَ تحاجون في إبراهيم ) وكلمة ( تحاجون ) معناها تجادلون ، لأن المحاجّة صيغة مفاعلة من الحجة ، وهي صيغة تدل على اشتراك طرفين أو أكثر بالفعل ، أي أنك تدلي بحجتك وأدلي بحجتي ، أي لِمَ تناقشون في إبراهيم ؟ ما وجه المناقشة التي حصلت حول إبراهيم ؟ تفسرها الآيات .

الله جلّ وعلا يقول هنا ( لِمَ تحاجون في إبراهيم وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعدها أفلا تعقلون ) إذاً فالمفهوم يقيناً أن النقاش كان يدور حول نقطةٍ معينة ، اليهود باعتبار أن قضية الدين مطروحة على بساط البحث يدّعون أنهم على دين إبراهيم ، والنصارى يدّعون أيضاً أنهم على دين إبراهيم ، واليهود يزعمون أن إبراهيم كان يهودياً ، والنصارى تزعم أن إبراهيم كان نصرانياً . والله جلّ وعلا رفض منطق الفريقين جميعاً ووصفه بعدم المعقولية ووصف أصحابه بأنهم لا يعقلون ، طالما أن الأمر الذي لا جدال فيه ، أن إبراهيم كان قبل موسى بألف سنة ، وقبل عيسى بألفي سنة ، فكيف يسوغ عقلاً أن نقول إن إبراهيم كان يهودياً واليهودية لم تُعرف إلا بعد موسى ؟ وكيف يسوغ عقلاً أن نقول إن إبراهيم كان نصرانياً والنصرانية لم تُعرف إلا بعد عيسى صلى الله عليه وسلم ؟ وإذاً فهذه دعوى فاسدة ودعوى غير معقولة ، يمكن أن ينتسب الإنسان إلى شيءٍ يسبقه في الوجود ، أنا أقول أنا فلان بن فلان ، لا يمكن أن أنتسب إلى أبي إلا حينما يكون وجود أبي سابقاً لوجودي ، أنا أقول أنا مسلم ، كيف أقول أنني مسلم إذا لم يكن الإسلام موجوداً قبل وجودي أنا بالذات ؟ فحين نقول إن إبراهيم كان يهودياً ، فمعنى ذلك أن إبراهيم كان يهودياً قبل أن توجد اليهودية ، وهذا مخالف للعقل ، وحين نقول إنه كان نصرانياً ، فمعنى ذلك أنه كان نصرانياً قبل أن تُعرف النصرانية بألفي سنة ، كيف يسوغ هذا ؟ لهذا رمى الله جلّ وعلا هؤلاء القائلين بأنهم لا يعقلون ( يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون في إبراهيم ) على سبيل الإنكار والتوبيخ ( وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ) يعني من بعد إبراهيم ( أفلا تعقلون ، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلِمَ تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ها هنا ينبغي أن نتساءل : ما هو الشيء الذي كان لليهود والنصارى به علم ؟ وما هو الشـيء الذي لم يكن لليهود والنصارى فيه علم ؟ هـنا عندنا أمران : أنكر الله جلّ وعلا عليهم ـ أي علـى اليهود والنصارى ـ أن يحاجّوا فيما ليس لهم به علم ، قوله ( ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ) ما هو الشيء الذي لهم به علم ؟ الشيء الذي لهم به علم كون إبراهيم غير يهودي وغير نصراني ، وكون التوراة والإنجيل أُنزلتا بعد إبراهيم بآمادٍ متطاولة ، هذا شيء معروف عند الناس بالضرورة ، لا يحتاج إلى نقاش ولا يحتاج إلى جدال . ما هو الشيء الذي لا علم لهم به ، ومع ذلك بدأوا يناقشون فيه ويحاجّون من حوله ، بعض المفسرين يذهب مذهباً لا أراه يستقيم ، قالوا ( ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ) يعني حاججتم في محمد صلى الله عليه وسلم أنه ليس نبياً ، وأنتم تعلمون أنه نبي ، من حيث العموم المسألة هذه صحيحة ذلك بأن الله جلّ وعلا ذكر عن أهل الكتاب أنهم يعرفونه أي يعرفون محمداً كما يعرفون أبناءهم ، لكنهم حسداً وبغياً وعدواناً على الحقيقة رفضوا هذا الاعتراف لأنهم لا يريدون أن يتنازلوا عن مكانة هم فيها ولا عن امتيازات حصلوا عليها ضمن مجتمع جاهلي فوضوي أميٍ متخلف .

لكن المسألة في نظري لا تستقيم ، لا تستقيم لماذا ؟ لأن موضوع نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم غير مطروح ، الشيء المطروح هو هذه التسميات الحادثة : اليهودية والنصرانية . في الدرس الماضي قلنا إن الله سبحانه وتعالى أنزل ديناً واحداً هو الإسـلام ، واليهودية ليست ديناً ، كما أن النصرانية ليست ديناً ، لأن اليهودية نسبة إلى قبيلة ، والنصرانية نسبة إلى مكان ، لكن الدين الحق هو الإسلام لا غير ، لأنه هو الدين الذي أرسل به الله جلّ وعلا أنبياءه جميعاً من لدن آدم عليه السلام وإلى خاتمهم وسيدهم محمدٍ صلى الله تعالى عليه وسلم . فالله جلّ وعلا يريد أن يوقع في أذهان المسلمين هذه الحقيقة : أن هؤلاء القوم باستمساكهم هذا تزحزحوا عن القاعدة الأولى في الدين ، فالدين من حيث هو علاقة بين الله وبين مخلوقاته دوامها الخضوع والطاعة للخالق تبارك وتعالى هو الإسلام ، وأما أن يكون الدين نسبةً ينتسب إليها ابن القبيلة أو ينتسب إليها ابن محلة أو ابن مدينة كذلك أمر غير حقيقي وأمر غير معقول . ولهذا سوف نرى في الآيات القادمة أن الله جلّ وعلا رفض بصورةٍ صريحة كل هذه التسميات ، وقرر أن الدين عند الله الإسلام ، وقرر أن من يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ، ذلك بأن الإسلام دين الأنبياء قاطبةً من أولهم إلى آخرهم .

ما هو الشيء الذي نستطيع أن نتبين أنه استقر في أذهان المسلمين من وراء هذا الاستعراض ؟ طبعاً أن أقصد المسلمين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، استقر في أذهانهم أن ورثة إبراهيم أي أن ورثة النبوة أي أن ورثة الإسلام ليسوا من اليهود وليسوا هم النصارى ، ولكنهم هذا النبي والذين آمنوا معه ، وأن نسبة هؤلاء إلى إبراهيم أو إلى الأديان نسبة زائفة غير معقولة وغير مقبولة ، فهذا الشيء الذي قيل إنه حاجّ فيه اليهود والنصارى وهم يعلمون من حيث كونه حجاجاً حول محمد صلى الله عليه وسلم لا يستقيم ، لأن جوهر المسألة هوهذا الذي عرضناه . جوهر المسألة هذا كان ينبغي أن يُخلّص ، وسأقول لكم الآن كلاماً ربما يبدو غريباً على الأذهان بكثرة ما ألفنا سماع نقيضه من قبل المسلمين بالذات ، نحن نسمع أن النصرانية دين وأن اليهودية دين وأنهم أصحاب رسالات وأنهم أصحاب نبوات وأنها نبوات مشروعة ومبررة ، لها مبرراتها القائمة حتى الآن ، أحب أن يكون واضحاً أن هذا الفهم بالرغم من شيوعه على الألسنة واستقراره في كثيرٍ من الأذهان ، هذا المفهوم يخالف مفاهيم الإسلام ويخالف مفاهيم محمدٍ صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه ، فحين جاءت اليهودية على يد موسى صلى الله عليه وسلم كانت هي الإسلام ، ثم سُمي بعد ذلك اليهودية ، واستمرت حتى أدركها التحريف وحتى كتم العلم بها على كثيرٍ من الناس ، وحتى زالت معالمها واندرست آثارها وأعلنت إفلاسها ، فجاءت النصرانية تجدد الدين بعد أن فقدت اليهودية كل مبررات وجودها ، ثم جرى على النصرانية كما جرى على اليهودية من تلاعب ومن تحريف ومن تغيير لأحكام الله جلّ وعلا ، حتى بُعث محمد صلى الله عليه وسلم وقد اندرست معالم الهداية من وجه البسيطة قاطبة ، وقد سقطت كل مبررات وجود النصرانية ، وقام الإسلام وارثاً لكلمة الله جلّ وعلا ، وارثاً لهذا الإسلام ، مسقطاً الشرعية عن اليهودية وعن النصرانية ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا أدخله الله النار . بعد محمد لا يهودية ولا نصرانية ولا أي دينٍ من الأديان ، لا شيء إلا هذا الإسلام فقط ، الصراع كان يدور حول هذه القضية ، لا حول محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشخصه ، ولا حول كونه نبياً أو غير نبي .

ما هو إذاً الشيء الذي جادل فيه اليهود والنصارى وأهل الكتاب عموماً وهم لا يعلمونه ووبخهم الله جلّ وعلا وبكّتهم من أجله ؟ حينما نستعرض قصة إبراهيم وهي كثيرة الورود في القرآن ، وردت في أكثر من عشرين سورة ، لكن على أنحاءٍ شتى ، نأخذ أول سورة من سور القرآن سورة البقرة ، فنجد أن الله سبحانه وتعالى يذكر هذه القصة مطولاً يقول الله جلّ اسمه ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ، وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وآمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرها بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود ) إلى آخر الآيات حتى نأتي إلى قول الله جلّ وعلا ( أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل ) وهذا الخطاب لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ( أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادةً عنده من الله ) في قوله جلّ وعلا ( أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادةً عنده من الله ) دلالة على أن هؤلاء القوم يعرفون أن إبراهيم عليه السلام ما كان يهودياً ولا نصرانياً ، وكذلك يعرفون أن إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وموسى ولوطاً وذا الكفل واليسع وسائر أنبياء الله ما كانوا يهوداً ولا كانوا نصارى ، هذه قضية معلومة بالضرورة . يبقى سؤالنا قائماً : ما هو الشيء الذي جادلوا فيه ولم يعلموه ؟ هنا ربما يكون الأمر فيه بعض الغرابة ، لو تتبعنا الآيات التي نحن بصددها من سورة آل عمران لوجدنا حديثاً يتناوب بالدرجة الأولى أمرين : أول الأمرين حديثاً عن البيت الكريم البيت الحرام ، وتعلمون أن عجاجةً كثيفةً أثارها اليهود يوم حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر شهراً من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال السفهاء من الناس ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) فقال لهم الله ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ما علاقة هذا البيت بإبراهيم ؟ وكيف نستطيع أن نوفّق بين كون البيت المقدس قبلةً لليهود وهم أرومة القبائل السامية في زعمهم وتحول العرب إلى الكعبة ادعاءً منهم حسب رأي اليهود أنها البيت الذي كان يتخذه إبراهيم ، حين نرجع إلى الأحاديث الشريفة نجد أن سائلاً سأل النبي صلى الله عليه وسـلم : أي بيتٍ وُضع فـي الأرض أول ؟ يعني للعبادة ، قال : البيت الحرام . قيل : ثم أي ؟ قال : البيت المقدس . قيل : كم بينهما ؟ قال : أربعون عاماً . فأول بيتٍ وُضع لعبادة الله في الأرض هو الكعبة المشرفة ، والله جلّ وعلا يقول ( إن أول بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين ، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ) فالعلاقة إذاً واضحة ( وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهّر بيتي ) فأول بيتٍ وضع للعبادة ووضعه إبراهيم عليه السلام ، الشخصية التي يدور من حولها النقاش هو هذا البيت الذي يستقبله المسلمون في صلاتهم لا بيت المقدي ، وتعالوا إلى بيت المقدس ، أنتم معاشر اليهود تستقبلون في صلاتكم بيت المقدس ، فخبرونا لماذا يستقبل النصارى قِبل المشرق في صلاتهم ؟ لماذا وهم شعبة منكم يا بني إسرائيل لا يستقبلون بيت المقدس ؟ الكعبة لا خلاف عليه ، أما الخلاف فعلى بيت المقدس ، وبالرجوع إلى التاريخ نجد أن استغلال اليهود لبيت المقدس لم يكن في زمن موسى ولا في زمن هارون ولا في زمن عدد من الأنبياء الذين جاؤوا بعدهما صلى الله عليهما وسلم ، وإنما حصل استقبال بيت المقدس بالعبادة في زمن سليمان عليه السلام بعد تشردٍ طويلٍ عانى منه اليهود ما عانوا ، ثم رمزوا بتعلقهم بموطنهم باستقبالهم إلى بيت المقدس ، أما الأنبياء : إبراهيم وموسى وعيسى وكل الأنبياء فقد كانوا يستقبلون الكعبة المكرمة . وفي الحديث الشريف أن الأنبياء جميعاً حجوا بيت الله الحرام ، والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر في الحديث الصحيح : كأني أنظر إلى موسى صلى الله عليه وسلم منحدراً من هذه الثنية حول بيت الله الحرام . فالأنبياء إذا كانوا حجوا بيت الله الحرام فهو قبلتهم قطعاً ، ولهذا سقط المبرر الذي يستند إليه اليهود لاعتبار المكان الذي يستحق استقبال الصلاة هو بيت المقدس ، هذه قضية هي أول القضايا دار حولها النقاش . هل كان اليهود والنصارى يعلمون ذلك أو لا يعلمون ؟ سأجيب بعد قليل .

القضية الثانية : أمور تتعق بالحلال والحرام ، بمتابعة الآيات ، آيات آل عمران ، نجد أن الله تعالى يذكر بعد عدة آيات ( كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) إذاً كان هناك نقاش أيضاً حول بعض الأمور التي تحل وتحرم ، هل كان اليهود والنصارى يعلمون هذا أو لا يعلمون ؟ لعلكم يا إخوتي تندهشون إذا قلت لكم إنهم كانوا لا يعلمون ، لماذا ؟ في الزمن الماضي في القديم وقبل الإسلام كان قانون الديانات أن علم الديانة محتكر على طائفة قليلة من الأحبار والرهبان والرؤساء الدينيين فقط ، عامة الشعب وعامة الناس لا يقرأون ولا يكتبون ، بل أكثر من هذا ، كانوا في الهيكل وفي الكنيسة يقوم الراهب فيلقي الموعظة بلغةٍ غير مفهومة ، فالناس يسمعون دندنةً وكلاماً لا يفهمونها ، لكنهم يرون أنه كلام مقدس باعتباره صادراً عن أناسٍ مقدّسين لهم صفة القدسية وهم الرهبان والأحبار ، ماذا كانت تحمل الكتب التي نزلت على الأنبياء ؟ عامة الناس لا يعرفون . ما هو الذي يحل لهم ويحرم عليهم ؟ عامة الناس لا يعلمون هذا ، ولولا ذلك ما تجرأ أحد على تحريف كلام الله جلّ وعلا ، وأنتم لا يخفى عليكم أن الله أخبرنا أن اليهود والنصارى فرقوا وبدلوا وغيروا في أحكام الله ، لولا هذه الأمية والجهالة ما جرأ ولا كان ممكناً أن يحصل أي تحريف . فإذاً هؤلاء الذين جاؤوا يجادلون في الحلال وفي الحرام وجاؤوا يجادلون في القبلة وغير القبلة ، أحبار ورهبان وكهان ، ولكن بعد متى ؟ بعد عشرات القرون التي جرى فيها على الديانات ما جرى من تغيير وتبديل ، ولكم أن تتصوروا إذا وضعتم في أذهانكم قريةً من القرى أو مضرباً من مضارب البادية فيها إنسانٌ لئيم يعرف شيئاً من الكلام ، كم هو متخلف العقل ، كم هو قاصر النظر ، تصوروا هذا الأمر ثم قيسوا الأحبار والرهبان في ذلك التاريخ عليهم ، ستجدون أن أكبر حبرٍ في النصارى واليهود لا يساوي أي إنسانٍ عاديٍ في هذه الأيام ، كانوا كذلك أميين لا يكادون يقيمون قراءة الكلام وصرخةً في بادية الأرض ، جزيرة العرب أمةٌ أمية لا تقرأ ولا تكتب ولا تحسب كما أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم ، ما ظنكم أنه حتى بعد شيوع التعليم في زمن الإسلام وفي زمن الفتوحات الإسلامية في زمن عمر ، كان المقاتل لا يعرف شيئاً من الحساب ، يُروى في التاريخ أن رجلاً من المسلمين أسر امرأة من أميرات العرب ، فأرادت أن تفتدي نفسها ، فوجدت أن هذا الإنسان لا يقبل الأخذ والعطاء ، أغرته بالمال ، قال لها : أريد شيئاً كبيراً ، قالت له : كم ؟ قال : ألف درهم . فأعطته ألف درهم ، وخلصت نفسـها من الأسر ، وضحك عليه الناس : كيف تتركها ولو أنك طلبتَ أضعاف أضعاف هذا المبلغ لأعطتك ، قال : أنا لا أعرف عدداً . ثم بهذا الشكل كان رهبانهم وكهانهم وأحبارهم ، هؤلاء الذين كانوا يناقشون الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك كانوا على حد الأمية ، لأنهم ورثوا كتاباً محرّفاً وورثوا قواعد مجهولة وورثوا أنواعاً من التقاليد الموروثة عن الآباء وعن الأجداد ، ولهذا فعلاً كانوا لا يعرفون أن القبلة الحقة هي البيت الحرام ، وكانوا لا يعرفون أن لا شيء مما هو محرم على اليهود إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، وكانوا لا يعرفون أن القيود وأن التشديدات التي لحقت اليهود ولحقت النصارى كانت عقوباتٍ أُثبتت عليه بالتأديب وبالترهيب ولكي يتعلموا من تجربتهم ، لكنهم لا يتعلمون . فالشيء الذي حاج فيه النصارى واليهود دون أن يكون لهم به علم هو موضوع القبلة وهو موضوع الحلال والحرام ، أي بكلمةٍ أعم هو موضوع الشرائع ، لأن الشرائع على الجملة طالما قلنا أن معالمها اندرست قبل محمد صلى الله عليه وسلم وأن جميع آياتها قد انطفأت حتى بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فالذي سيبينها على الحقيقة وعلى الوجه الذي نزلت فيه على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وسائر النبيين هو محمد صلى الله عليه وسلم ، سيبينها على الوجه الأكمل ، ولا مجال في هذه الحال بتاتاً لأِنْ يُلتمس علم الشريعة ولا علم العقيدة ولا علم السلوك والأخلاق ولا علم الحركة لا من اليهود ولا من النصارى وإنما من القرآن ومن محمد صلى الله عليه وسلم . وهذه قضية مبدئية ، ولهذا نرى النبي صلى الله عليه وسلم يقف فيها موقفاً متشدداً ، جاءه عمر رضي الله عنه في يده صحف من التوراة ، قال : يا رسول الله هذه صحف من التوراة ، أتريد أن أقرأ لك منها شيئاً ؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى احمرت عيناها ، وقال له : أمتهفون فيها يا ابن الخطاب ؟ يعني متحيرون أنتم ؟ والذي نفسي بيده لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني . فالله جلّ وعلا أغنانا نحن المسلمين عن التماس الهدى من اليهود والتماس الهدى من النصارى ( قل إن الهدى هدى الله ) هذا كلام الله ، وهذا ينفع ، ليس وحال الأمة في هذا الوقت بأن كل الذي تعيش عليه من أراء ومن معتقدات ، وكل الذي تعيش عليه من شرائع ومن سلوك ، وكل الذي تعيش عليه من قواعد في الحركة وبناء المجتمعات ، فصناعة يهود وصناعة نصارى ، الشيوعيون واليساريون عموماً يدينون بالولاء لماركس اليهودي ، والحركات التي نشأت في العالم الإسلامي استعرضوها حركة حركة تجدون أول رأسٍ كان فيها صليبياً لا غير ، إذاً يجب أن نعلم أنه لا مجال للتردد حول هذه النقطة ( قل إن الهدى هدى الله ) ولا يمكن لمسلمٍ أن يأخذ الهدى من يهوديٍ أو نصراني ويظل مسلماً في حال من الأحوال ، لمجرد أن يأخذ رأيك ويأخذ قولك ويتبع منهجك فقد خرج من دينه ........

*********** انقطع الشريط ************

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .