تعليق على آية

العلامة محمود مشّوح

تعليق على آية

(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ..)

24 / 5 / 1974

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :

 فقد كنت أظن أنني فرغت من الآية الكريمة التي قضيت في الحديث عنها مجلسين كاملين ، لكن استشكالاتٍ معينة أدّاها بعض الإخوة واستفساراتٍ أخرى ، منها الصريح ومنها الذي يجمجم ، جعلتني أعود الآن مرةً ثالثة إلى الآية نفسها ، أحب أن أقول أولاً : إنني مرتبطٌ أشد الارتباط بهذه الحركة الذهنية التي لمستها لدى بعض أبنائي من الشباب ، ومن حقهم عليّ أن يعرفوا سلفاً أنني لا أحمل أجوبةً جاهزة وكاملة لكل هذا الذي يدور في أذهانهم ، وأنني سأعتبر نفسي موفقاً غاية التوفيق إذا استطعت أن أقف هؤلاء الشباب أمام أسئلةٍ يحسون الحاجة إلى تدبرها والبحث عن جوابٍ لها . فقد ينبغي أن يكون معلوماً لدى كل أخٍ من إخواننا ، وكل واحدٍ من أبناء الشباب الجديد ، أنني لا أحب لهم قطعاً أن ينظروا إلى من هم أكبر سناً وأوسع تجربةً وأكثر علماً باعتبارهم يحيطون بكل شيء ، وأن لا ينظروا إلى هذه الآراء والاجتهادات على أنها قضايا مسلّم بها . فكل ما في الكون ما عدا الحقائق الأزلية الثابتة ما يزال محلاً للسؤال والجواب ، وما تزال الأجوبة تختلف من وقتٍ لآخر تبعاً لمعطيات التجربة وحقائق العلم المتجدد ، هذا من ناحية المبدأ .

 ومن ناحية التربية فأحب لهؤلاء الإخوة والأبناء أن يدركوا بكل وضوح وبكل جلاء أنني أريد لهم أن يكونوا رجالاً ، وأن يحتفظوا على كل حال باستقلال شخصيتهم وبحريتهم في النظر والتقدير والحكم على الأشياء ، ولا أحبُ لهم بصورة باتة أن يلغوا عقولهم ولا أن يذيبوا شخصياتهم في شخصيات الآخرين . نحن بحاجةٍ إلى رجال ، ولسنا بحاجة إلى أغنام ، نحن بحاجةٍ إلى مفكرين ، ولسنا بحاجةٍ إلى قطعان . إفرازات القطعان أوصلت الأمة إلى الهاوية التي تتردى فيها اليوم ، وحين تملك الأمة القدرة على أن تنشئ رجالاً كلٌ منهم يمثل عالَماً فحين ذاك يمكن أن تكون أمة .

 لهذا فأنا سعيد للغاية حين يراجعني أصغر أبنائي في كل القضايا والأفكار التي أطرحها أثناء هذه الدروس ، معترفاً بكل تواضع أنني قد أستفيد من أصغركم سناً ومن أقلكم علماً ومن أقلكم تجربةً أيضاً . وكثيراً ما ذكرت أنني ما مقتُّ في حياتي شيئاً كما مقتُّ قضية أن يكون هناك شيخ وتلميذ ، هذه غير واردةٍ عندي ، أنا أحتقر الإمّعات وأحترم الرجال حتى وإن خالفوني في الرأي ، حتى وإن سلكوا المسلك الذي يغاير مسلكي ، هذا من جانب .

 جانبٌ آخر أحب أن يدركه كل إخواننا ، الذي فهمته أن بعض الإخوة يتحرّج من طرحٍ أسئلةٍ معينة بحجة أن الأحوال والأوضاع لا تساعد على التوسع في الأجوبة . أريد أن أقول لهؤلاء الإخوة أنني قد بلغت الآن السابعة والأربعين من العمر ، ومنذ عقلت وعرفت ما يضر وما ينفع لا أعرف أنني عملت ضد قناعاتي على الإطلاق ، ولست مستطيعاً بحكم تكويني على أن أكون مداوراً ولا مراوغاً ، فكل الذين يتصلون بي يعرفون مني الصراحة والوضوح ، هذا مبدأ شخصي .

 يبقى الأهم الذي يجب أن لا يغيب عن البال ، نحن نتحدث عن الإسلام ، والإسلام قضايا تتعلق بالعقائد ، كما تتعلق بالسلوك والأخلاق ، كما تتعلق بالشرائع والمعاملات ، كما تتعلق بكل شعبةٍ من شعب الحياة ، ما من شاردةٍ ولا واردة في هذه الحياة الدنيا إلا والإسلام له حيالها رأي ، والمسلم الحق له إزاءها موقف ، هل نحن مستعدون للمساومة على أهدافنا وعلى قناعاتنا وعلى مقررات ديننا ؟ لا ، مهما تكن الأسباب ، ومهما يكن حجم المخاطر التي تترتب على إبداء الرأي الإسلامي الواضح الصريح ، فأرجو أن يثق كل أخٍ من إخواننا وكل واحدٍ من أبنائنا أنني سأكون على أقصى درجات الشعور بالأمانة الفكرية ، بحيث أؤدي له الرأي الإسـلامي كائناً ما كانت النتائج ، غضب من غضب ورضي من رضي ، لم يبقَ في العمر مطامع تستحق أن نبيعها بسخط الله جلّ وعلا ، لم تبقَ لنا من المصالح ما يشدنا إلى الدنيا بحيث نعطي ديننا وآخرتنا ثمناً لها . وما دمنا نريد أن نخلق رجالاً وننمي فيهم خصائص الرجولة فأرجو أن يكون واضحاً ومحل ثقة عند الجميع أن أي سؤالٍ يجول في خاطر أي مستمع فليكن على يقينٍ بأنه سيجد جوابه الحق قدر اجتهادنا وقدر إمكاننا ، بقطع النظر عن رضى الآخرين أو سخط الآخرين .

 هذه مقدمة ألحقها بما سبق أن قلته مراراً من أنني أرحب بأسئلة الأخوة باستمرار ، وأرجو أن تكون هذه الأسئلة مستمرة ، لأنها عندي دليل الحيوية ودليل الفائدة ..

 نعود إلى الآية .. في الدرس الماضي تكلمنا على الآية ( قل يا أهل الكتاب تعالو إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم أن لا نعبد إلى الله .. ) إلى آخر الآية الكريمة ، ولا أعتذر لنفسي طبعاً لكني أريد أن أذكركم بحقيقتين : الأولى أننا محكومون بوقت ، ومحكومون بأشرطة ، أربعون دقيقة أو خمس وأربعون دقيقة ، يُفترض أن نصب من نريد أن نقوله خلال هذا الوقت المحدد . هذا يفرض علينا أن تكون في حديثنا فجوات وقفزات ، طريقة تكميلنها استدراكاتكم أنتم وأسئلتكم أنتم ، هذا شيء . الشيء الثاني وهو مهم جداً هو أننا في بعض الأحيان نمرّ على قضايا نقررها ، والحق أننا بحكم الدراسة والمران ربما مرت في كلامنا أمورٌ تتصل بقضايا علميةٍ عالية ، نظن أنها بديهية في أذهان الإخوة ، لأننا نتناسى فارق الزمن وفارق المجهود وفارق الدراسة ، من ذلك مثلاً ما قلناه في الأسبوع الماضي عن الإشكال الذي حصل بين ظاهرتين تتعلقان في الآية الكريمة ، فمعلوم لنا أن الروايات تقول إن هذه الآيات من أول السورة إلى بضعٍ وثمانين آية منها كانت في شأن وفد نصارى نجران في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة . ومعلومٌ عندنا أن حديث بن عباسٍ رضي الله عنهما عند الإمام البخاري في قصة أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم كتاباً ضمّنه هذه الآية الكريمة ، ومعلوم أيضاً أن حديث أبي سفيان كان زمن الحديبية أي كان في السنة السادسة ، وذكرنا لكم الاحتمالات التي أبرزها بعض المفسرين للتوفيق بين هذه الناحية وهذه الناحية .

 بعض الإخوة لم يفهم الموضوع ، وراجعني فيه في ذات اليوم ، وأخونا الأستاذ أبو محمود ظن أنني رجّحت رأياً مغايراً للذي أردت أن أقرره في الدرس على اعتبار أن المسألة كانت محل حديثٍ بيني وبينه قبل أيام ، واليوم قبل أن آتي استمعت إلى أجزاء من الشريط الذي سُجّل عليه حديث الماضي ، فتبين هو وأنا أن العلة جاءت من التعميم لا من خطأ في التقرير ، أي أننا في الحقيقة تجاهلنا ضرورة أن نوّضح الأمور توضيحاً كاملاً على اعتبار أن معظم الإخوة ليست لديهم أفكار سابقة عن هذه القضايا الفنية التي تحتاج إلى شرحٍ وبيان .

 قلنا في الدرس الماضي إن ترتيب السور في القرآن لا يخضع لعامل الزمـن ، معنى ذلك أن السورة من السور القرآنية قد يكون فيها آيات مكية مع آيات مدنية ، وفترة الدعوة ثلاث وعشرون سنة ، قد تجد بين الآيتين في السورة الواحدة فاصلاً زمنياً يتجاوز عشر سنوات ، هذا يعني أن ترتيب السور لم يكن خاضعاً لعامل الزمن ، أي أن القرآن لم يرتّب حين رُتبّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على أساس التسلسل الزمني آيةً بعد آية ، وإنما كان الترتيب يأتي من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم في الآن بعد الآن ويشير هو صلوات الله عليه بوضع الآيات المعينة في السورة المعينة فيضعها الصحابة الكرام كتّاب الوحي رضي الله عنهم في المكان الذي يُشير إليه النبي صلى الله تبارك وتعالى عليه وسلّم ، واستمر هذا حتى اكتمل نزول القرآن ، وعُرض على النبي صلى الله عليه وسلم كل عامٍ مرة ، وعارضه به جبريل في السنة التي قُبض فيها صلى الله عليه وسلم مرتين ، واستقر الترتيب على هذا الشكل . إذاً حين نأتي إلى رواية كالرواية التي نحن بصددها أن سورة آل عمران من أولها إلى بضعٍ وثمانين آيةٍ منها في شأن نصارى نجران فيجب علينا حين يكون معنا نصٌ معينٌ موثق يدل على أن آيةً معينة لا تخضع لهذا الترتيب الزمني علينا أن نبحث عن العلة ، لا في تخريجاتٍ وهمية ، ولكن على ضوء الترتيب القرآني الذي هدف أن يكون لكل سورة شخصية كاملة تؤدي أغراضها بالكامل .

 عندنا الآية الكريمة التي نحن بصددها ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء ) هذه قطعاً نازلة قبل الحديبية ، بدلالة ورودها ضمن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عظيم الروم ، وبالرغم من أن بعض المفسرين يميلون إلى أنها قد تكون موافقة من الوحي لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، فلست أتردد في رفض هذا الرأي ، نحن نعرف الموافقات ، كان في عمر رضي الله عنه موافقات ، في غزوة بدر استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه فيما يفعل بأسرى المشركين ، فأشار أبو بكرٍ رضي الله عنه بأن يستبقيهم ، ولمس جانب الرحمة والشفقة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال له : يا رسول الله أهلك وقومك دعهم لعل الله تعالى أن يهديهم . واستشار آخرين فجنحوا إلى قبول الفدية على اعتبار أن المسلمين في أوضاعهم تلك كانوا في حال ماديٍ صعب بعد أن هجروا الديار والأوطان والبيوت والأموال وجاؤوا فقراء إلى المدينة النبوية ، أرادوا أن يسـتعينوا بمبلغ الفدية الذي يُؤخذ من الأسرى على رفع سوية المعاش بين المسلمين ، وحين استشار عمر رضي الله عنه قال له : يا رسول الله رؤوس الشرك وصناديد قريش وأول معركةٍ في الإسلام ، أرى أن لا تبقيهم ، أرى أن تمكن فلاناً من قريبه فلان فيضرب عنقه ، وفلاناً من أخيه فلان فيضرب عنقه ، مال إلى جانب الشدة . ثم كانت الغداة وجاء عمر فوجد أبا بكرٍ جالساً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهما يبكيان ، فجاء عمر وقال : يا رسول الله ما الذي يبكيك فداك أبي وأمي ؟ قل لي فإن وجدت بكاءً بكيت ، وإن لم أجد بكاءً تباكيت . قال : يا عمر والله لقد عُرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة ، ولو نزل العذاب ما نجى إلا أنت وسـعد بن معاذ . لأن الاثنين رضي الله عنهما أشارا بالشدة والقسوة ، ثم كانت الموافقة ، نزلت الآية الكريمة ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) ثم هددهم وقال ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) فهذه موافقة صحيح ، ولكن النص القرآن يختبر أسبابه عن كلام عمر رضي الله عنه .

 كذلك كانت لعمر موافقات ، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسـول الله إنك يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرتَ أمهات المؤمنين أن يحتجبن . ثم نزلت الآية الكريمة موافقةً لعمر رضي الله عنه ( يا أيها النبي قل لنسائك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ) فهذه موافقة أيضاً ، لكن كلام عمر له صياغة ، والنص القرآني له صياغة ، الموافقات تحدث ، لكنها تحدث الشيء المشترك ، في المعنى العام ، أما أن تحدث في الصياغة كاملة فهذا شيء غير معهود . وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم الآية بنصها ( ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) الآية بالنص وبالحرف وردت في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم متى ؟ في السنة السادسة زمن الحديبية أو في السنة السابعة ، أي قبل وفود نصارى نجران . ما معنى هذا ؟ معنى هذا أننا نقرر قطعاً أن هذه الآية بالذات كانت نازلةً قبل نزول صدر سورة آل عمران ، لكننا كما قلنا ترتيب السور لا يخضع لعامل الزمن ، وإنما يخضع لمنطق الغرض الذي يؤديه ، حين استعرضت السورة كل الكلمات التي ذُكرت من أول آية إلى الآية الثالثة والستين كان منطق السورة يقضي أن يُخاطَب أهل الكتاب بهذه الآية ، فجيء بها من زمنها لتوضع في هذا المكان ، فإذاً ما ذُكر بأن كلام ابن إسحاق بأن السورة إلى بضعٍ وثمانين منها نازلة في شأن نصارى نجران يكون غير محفوظ كما ذكرنا ذلك في الدرس الماضي كلام يحتاج إلى شيء من التأمل وشيء من النظر . ليس صحيحاً أن كل ما بعد هذه الآية غير متعلق بالوفد النجراني ، ولكن هـذه الآية فقط كانت نازلةً قبل ، فوضعت بهذا المكان للاعتبار الذي ذكرناه ، وبقي كلام ابن إسحاق أغلبياً ، يعني أغلب الآيات من أول السورة إلى بضعٍ وثمانين ، بل أقول إلى الآية مائة كان نازلاً في شأن نصارى نجران قد تتخلله آية هنا وآية هناك تكون نازلةً قبل هذا للحكمة التي ذكرناها ، أظن أن الأمر بهذا الشكل يُحَل على وجه يحفظ للسورة شخصيتها ولا يهدر قيمة الروايات التي بين أيدينا ويحول بيننا وبين الآراء المبتكرة والتخيلات التي لا تسندها رواية صحيحة ، ليُبقي على الجو العام الذي مشينا عليه من أول كلامنا على هذه السورة وهو أن الأمر كله يتعلق بالوفد النجراني .

 هذه القضية أظن أنها اتضحت في ذهن الإخوة الذين استشكلوها ، وما دمنا في الآية فدعوني أقل لكم : إنني لا أتوقف في العادة عند كثيرٍ من الأمور ، ليس فراراً من تكاليف الوقوف عندها ، ولكني أنظر في الآيات ، وأحب دائماً أن لا أعطي الآية أكثر مما يجب ، لأن هذا يشكل تضخماً في الفكر حول آية يجرنا في المستقبل إلى ضمور في الفكر حول آياتٍ مشابهة ، وهذا مسلك غير جائز . مع ذلك ففي هذه الآية ما دمنا بصددها نريد أن ننظر نظراً أحب أن أؤجله إلى وقتٍ آخر .

 نقرأ الآية من جديد وأطلب منكم إمعان النظر ، الخطاب طبعاً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ( قل ) يعني قل يا محمد ( يا أهل الكتاب ) قوله ( يا أهل الكتاب ) يُخرج المشركين من الموضوع جملة ، فالخطاب ينصبّ على أهل الكتاب فقط ، على اليهود وعلى النصارى ، ستدركون بعد قليل ما أعنيه ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ) وعلى الهامش ومن إعجاز اللغة وقدرتها على التعبير عن المشاعر العميقة في الإنسان فكلمة ( تعالوا ) لا أظن أن معظمكم يلتفت إلى ما فيها من ترفقٍ وتحبب ، أنتم تفهمون كلمة ( تعالوا ) أي أقدموا ، هذا معنى عامي ، لكن المعنى اللغوي الدقيق أن كلمة ( تعالوا ) جاءت من العلو ، أي أن المخاطِب يريد من المخاطَب أن يرتفع أثناء الخطاب إلى منزلةٍ أعلى من التي هو فيها ، فحين أقول لك : تعال ، أي أنني أريد لك أن ترتفع عن المستوى الذي أنت فيه إلى مستوى إنسانيٍ أرفع ليكون التفاهم في هذه الحالة فوق أشياء الدنيا وفوق اعتباراتها . فالقرآن إذ يلفت هذه اللفتة مستخدماً عبقرية اللغة العربية التي نزل فيها القرآن إنما يعبّر عن لفتةٍ لا توجد على الأرض لغة أخرى قادرة أن تؤدي بالحرف مثل هذه المعاني الدقيقة .

 فالنبي صلى الله عليه وسلم حين يقول لأهل الكتاب وهم خصوم ( تعالوا ) أي تعالوا نرتفع جميعاً إلى المكان السامي والمنزلة العليا ، إنما يكرّم أهل الكتاب ويتحبب إليهم ويلمـس جانب الخير من نفوسهم إن بقي للخير في نفوسهم مستقر ( تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ) وهذا تفسير للكلمة التي يكون الطرفان فيها متساويين متعادلين ( أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون ) عند هذا المقطع يجب أن لا يغيب عن بالنا أن الله جل وعلا طلب من نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يتوجه بالطلب إلى أهل الكتاب حول ثلاثة أمور : أن لا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شـيئاً ، وأن لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً مـن دون الله . ثم قال له بعد ذلك ( إن تولّوا ) إن أعرضوا ولم يقبلوا هــذا النداء الذي وجّهته إليهم ( فقولوا ) أي أنت والذين آمنوا معك ( اشهدوا بأنّا مسلمون ) حول هذه القضية ينبغي الانتباه إلى ما يلي أولاً : قوله جلّ وعلا ( أن لا نعبد إلا الله ) ومعلوم أن كلمة ( إلا ) أداة استثناء ، أي أنها تخرج المستثنى من المستثنى منه لتخصه بحكمٍ يقتصر عليه ، تقول : قام الرجال إلا فلان ، معنى ذلك أن فلاناً الذي هو المستثنى اختُص من دون كل الرجال بحكمٍ اشـترك فيه الرجال جميعاً إلا هو وهو عدم القيام ، فحين يقول الله جلّ وعلا ( تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ) أي أن نلغي العبادة لكل معبود ، لنقصر العبادة على الله تبارك وتعالى ، هل في الإسلام شيء بعد ذلك ؟ هل في الإسلام أكثر من أن تُنفى المعبودات لتقصر العبادة على الله جل وعلا ؟ مع هذا فنحن نسمع الطلب الثاني وهو ( ولا نشرك به شيئاً ) هل هناك اتصال بين عدم الإشراك بالله وبين عدم عبادة أحدٍ إلا الله ؟ نقول : نعم .

 ولكي نفهم هذا الكلام يجب أن نفهمه على ضوء الواقع التاريخي لأهل الكتاب ، فبالنسبة لليهود ، في زمن موسى صلى الله عليه وسلم ، ويوم كان موسى عليه السلام حياً بين أظهرهم ، يخاطبه الله جلّ وعلا شفاهاً وكفاحاً ، وتتنزل عليه الألواح من الله جلّ وعلا ، وتظهر الخوارق والمعجزات أمام أعين بني إسرائيل ، لم يمنع بني إسرائيل إقرارهم بعبوديتهم لله أن يقولوا لموسى بعد خروجه من مصر ( يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) وبعد موسى صلى الله عليه وسلم وحين تعرضوا للتشتيت وللتشريد ، وحين انزاحوا في أقطار الأرض وعلى الأخصِ في المشرق ، مشردين بعد أن أُحرق الهيكل وأُحرقت نسخ التوراة وألحقت بهم مذابح ، اختلطوا مع البابليين ومع الآشوريين ومع الكلدانيين ومع الحثيين ومع عناصر عديدة من الأمم التي كانت تعيش في تلك الأزمان ، تلك الأمم كانت في الواقع أمماً وثنية ، كانت لها معبودات ، وكانت لها آلهة لا إلهاً واحداً ، كانت على نحو يقرب كل القرب مما كانت عليه العرب في الجاهلية حين مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وحين كان بكل بيتٍ من بيوت العرب تقريباً صنم يتقربون إليه بالعبادة ، كذلك كانت هذه الأمم مع اعترافها بالألوهية للصنم الأكبر ، كما كان في العرب تعترف بالألوهية بهبل على اعتباره كبير الآلهة وكبير الأصنام ، كانت هذه الأمم تعترف بإلهٍ كبير يشكل صنماً يعتبر هو الإله الأول وتحته آلهةٌ صغرى وسيطة .

 اليهود حين شُردوا وحين شُتتوا واختلطوا مع هذه الأمم كانوا طبعاً في حالة ضعف وفي حالة انهيار ، معالم الهداية التي كانت بين أيديهم ضاعت ، الهيكل أُحرق ، نسخ التوراة أُتلفت ، خيار علمائهم قُتلوا ُهم شُردوا تحت كل كوكب ، كانوا ضعفاء ، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى المداراة وإلى المجاملة وإلى التغاضي في كثيرٍ من شؤون عقائدهم ، نعم كان هذا في مبدأ الأمر ظاهرةً لا تكاد تستلفت النظر ، لكنها مع الزمن أخذت مداها الواسع ، لأن هذه الظاهرة الخطرة يطلب أولها آخرها دائماً ، يعني أن الانحراف يبدأ صغيراً ولكنه يطلب آخره من حيث الكبر والبشاعة والخطر لا محالة ، فبنو إسرائيل مع الزمن وكما نقرأ في التوراة المحرفة الموجودة الآن ينعى عليهم أنبياؤهم باستمرار أنهم عبدوا مع إلههم آلهة الأمم التي أذلتهم والتي استعبدتهم ، فإذاً هؤلاء الكتابيون الذين ذكر الله من شأنهم ما ذكر حين يخاطبهم القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ( أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ) يريد أن يشير إلى هذه الظاهرة ، أنه في فترات معينة من تدهور العقيدة ومن فساد الأوضاع ومن انحلال عرى الإيمان في النفوس يستطيع الإنسان تحت ضغط الظروف القاهرة كما يتصور أن يخدع نفسه هذه الخدعة الغريبة وهي أنه يعبد الله ولكن لا بأس بالتقرب بهذا الصنم أو هذا الوثن أو ما أشبه ذلك ، إن لم يكن مجاملةً فعلى سبيل رد الأذى ، لكن هذا مع الزمن كما ذكرنا يدخل في صلب العقيدة وهكذا كان .

 قوم إسرائيل دخلهم الإشراك من هذا الباب ، ودخلهم تحت عامل الضعف والقهر الذي وقعوا فيه ، كذلك الأمر بالنسبة للنصارى ، بالنسبة للنصارى ظلت النصرانية مشردةً معذبةً مذلةً مهانةً مطاردةً مائتي سنة بعد رفع المسيح صلى الله عليه وسلم ، ولم يمكّن لها في الأرض إلى بعد أن دخلها الإمبراطور قسطنطين وذلك بعد عصرٍ متطاولٍ من الزمن ، وقسطنطين هذا إمبراطور من أباطرة الرومان ، لهم آلهتهم الوثنية ، وأراد أن يتخذ من المسيحية ذريعة يثبّت بها ملكه ، كما أراد أن يوحّد بين المسيحية وبين وثنية الرومان القديمة ، فوُجدت عبادة التماثيل وعبادة الصور ووُجدت هذه الأقانيم التي دخلت في العقائد المسيحية . المسألة كما ذكرنا وكما ينبغي أن يظل واضحاً تبدأ صغيرة ثم تكبر ، بدأت الأمور بهذا الشكل ، لكن ماذا كان بعد ذلك ؟ كان بعد ذلك أن العقيدة لا تقبل المساومة ، وبمجرد دخول المساومة يكون كل شيءٍ ممكناً ، كان بعد ذلك أن وُجد مفلوكون ووُجد دجالون ووُجدت الأبالسة استطاعت أن تخدع الناس باحتكارها للعلم وبإجبارها الناس على أن يعيشوا في الأمية وببقائها عائشة على أكتاف هؤلاء الناس وبادعائها لأنفسها حقوقاً لا ينبغي لبشر أن يدعيها ، ظهرت عند اليهود ظاهرة الطاعة المطلقة للأحبار والرهبان ، ليس فيما يتعلق بالتوراة ، فنسخ التوراة في الحقيقة لم تُعَد إلى الكتابة إلا بعد العودة من السبي البابلي ، يعني بعد أكثر من خمسمائة عام ، حين أُعيد في الكتابة أعيدت عن ظهر قلب ، قيل إن الذي أملاها أُوحيت إليه إيحاءً ، ونحن في حلٍ من أن نرفض هذا كله .

 كذلك بالنسبة للنصرانية حدث نفس الشيء ، حينما وُجدت هذه السلطة للأحبار والرهبان اكتشفوا من الشعب طاعةً لا تناقش وسلطةً لا تقاوم ، واستطاع الأحبار والرهبان أن يحلوا محل الآلهة فيما يتعلق بالتحليل والتحريم ، من هنا دخل التشريك ، من هنا وجدت هذه الثنائية التي لا تستقيم والتي لا تعقل بين قول الإنسان إنه يعبد الله وقوله إنه لا بأس عليه من المجاملة والمدارة لبعض الأوضاع وبعد الأمور . اليهود والنصارى كلاهما أيها الإخوة أطاعوا سادتهم وكبراءهم وأحبارهم ورهبانهم في الحل وفي الحرمة ، وفيما يجوز وفيما لا يجوز ، علماً بأن القاعدة الإيمانية تحتم بأن هذه هي خصيصية ألوهية ، من هنا كان النص على أن لا نشرك به شيئاً ، لأن الشرك ليس فقط أن تسجد للصنم ، لكن الشرك أن تطيع أحداً في معصية الله جلّ وعلا ، أو أن تسمح لأحدٍ أن يدعي ما هو من خصائص الألوهية من تشريعٍ وتخطيطٍ وتوجيه ، هذا أيضاً شرك ( ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ) هذه الطبقية التي وُجدت أعطت ناساً حق الحكم والتشريع وأعطت ناساً حق الادعاء العريض بأن ما تحله الكنيسة فهو عند الله محلول ، وما تعقله الكنيسـة فهو عند الله معقول ، هذه أوجدت طبقيةً ولّدت عبودية ، ما الذي جاء بهذه العبودية ؟ جاء بها جهل الناس ، الجهل الذي أدى إلى المذلة ، إضراب الناس عن التعرّف على حقائق الدين ، انصرافهم إلى هذه الطاعة العمياء للسادة والكبراء وللأحبار والرهبان ، فتركوا كل هذه التكاليف التي ينبغي أن يكون الإنسان المؤمن قائماً عليها وبها ، ليجعلوا الأحبار والربان هم الذين تستمد منهم هذه الأشياء ، فأطاعوهم في معصية الخالق ، حرّفوا لهم الكتاب ، فقبلوا منهم ذلك ، وأحلوا لهم الحرام ، فقبلوا منهم ذلك ، وشرّعوا لهم ما لم يأذن به الله ، فقبلوا ذلك ، فخرج بذلك من الدين جملةً وتفصيلاً .

 نرجع الآن أو نأتي الآن إلى النقطة النهائية والأساسية ، الدرس فيما أعتقد طال ، لكن لا بأس ، لأنني أريد أن أفرغ من هذه القضية ، حُددت قضايا الإسلام بهذه الأمور الثلاثة : ألا نعبد إلا الله ، ألا نشرك به شيئاً ، أن لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله . ما الذي قال الله لهم بعد ذلك ؟ قال ( فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) إن تولى هؤلاء عن الأخذ بهذه الأمور الثلاثة فليسوا مسلمين ...

 ...............انقطع الشريط .............

 وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .