قضية تحريم الأطعمة عند اليهود

العلامة محمود مشّوح

قضية تحريم الأطعمة عند اليهود

28 / 9 / 1974

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :

 الآيات التي سوف نستعرضها إثارة لقضيتين أثارهما أهل الكتاب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، زاعمين أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بهما على قانون الأنبياء وخالف حكم الله المنزل في كتبه ، أولى هاتين القضيتين قضية الحلال والحرام في الأطعمة ، وثانيتهما قضية استقبال القبلة البيت الحرام .

 يقول الله تعالى ( كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ، فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ، قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ، إن أول بيتٍ وُضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين ، فيه آياتٌ بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حجُ البيت من اسـتطاع إليه سـبيلاً ، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) فيما يتعلق بالقضية الأولى قضية الطعام وما حَرُم منه على اليهود ، والخلاف في ذلك بينهم وبين المسلمين ، أخذت دوراً بارزاً في النقاش بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين يهود المدينة ، فيهود المدينة يزعمون أن الأطعمة التي يأكلها المسلمون ويحرّمها اليهود هي أطعمةٌ محرمةٌ بنص التوراة ، وأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، وتحداهم ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ، فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ) وفي غمرة النقاش حول هذه النقطة سأل النبي صلى الله عليه وسلم أحبار اليهود بالذي أنزل التوراة على موسى : أتعلمون أن يعقوب ـ وهو إسرائيل ـ مرض مرضاً شديداً فنذر لئن شفاه الله تعالى أن يحرّم على نفسه أحب الطعام والشراب إليه ، وكان يعقوب عليه السلام مصاباً بمرضٍ يُقال له عرق النسا ، كان يقاسي منه آلاماً شديدة وخاصةً في الليل ، ثم شُفي من هذا الداء ، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وأحب الشراب ألبانها ، فحرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها .

 واليهود ككل الأمم القديمة تعظم الأسلاف والماضين والآباء والأجداد ، وترى أن سلوكهم يجب أن يكون سنة ، وليس يجوز للأبناء أن يخالفوا الآباء في شيء ، ولما كان إسرائيل ـ أي يعقوب عليه السلام ـ يحتلُ عندهم منزلةً عالية فقد قلدوه في تحريم الطعام والشراب الذي حرّمه على نفسه . واستمرت أجيال اليهود على هذا حتى بعث الله موسى صلى الله عليه وسلم ، وسكتت التوراة فلم تتعرض لهذا الأمر بشيء ، ثم بُعث عيسى صلى الله عليه وسلم وهو نبيٌ من أنبياء بني إسرائيل ورجلٌ من العبرانيين ، وكان من جوهر رسالة عيسى صلى الله عليه وسلم أن يحلّ لبني إسرائيل بعض الذي حُرّم عليهم ، ولكن اليهود تعنّتوا وما زالوا مصريين على التمسك بتحريم لحوم الإبل وألبانها وبعض المطاعم الأخرى ، حتى بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، وادعوا أن تحريم هذه الأطعمة والأشربة جاءت في التوراة .

 في الحقيقة بين يعقوب وبين موسى صلى الله عليه وسلم مسافةٌ زمنية طويلة ، التوراة لم تنزل إلا بعد إسرائيل بزمنٍ طويل ، واليهود كانوا يمتنعون عن هذه الأطعمة وهذه الأشربة قبل نزول التوراة ، وحين نزلت التوراة لم تصدقهم في نصها على تحريم لحم الإبل ولبن الإبل . ولهذا جاء التحدي من النبي صلى الله عليه وسلم ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) لأن التوراة لا توجد فيها آية واحدة تحرّم شيئاً من هذا ، لكن القوم ـ أي اليهود والنصارى ـ كما ذكرنا مراراً حينما هجروا أحكام الله وعيّنوا على آراء الرجال وأنزلوا آراءهم منزلة الأحكام واجبة الرعاية ، تكونت لديهم من اجتهادات أحبارهم وكهّانهم طائفةٌ ضخمة من الأحكام أضافوها إلى الله تعالى زوراً وبهتاناً ، وكانوا يدّعون أنها من كتاب الله المنزل ، وما هي من الكتاب المنزل . ثم ما زالت طريقتهم تلك بالتشديد على أنفسهم حتى أذن الله جلّ وعلا على ألسنة أنبياء بني إسرائيل بعقوبتهم بالتشديد ، كلما أحدثوا بأنفسهم تحريماً جاء رسولٌ من رسلهم ونبيٌ من أنبيائهم يبلغهم أن الله حرّم عليهم هذا .

 حتى جاء عيسى صلى الله عليه وسلم مخففاً عنهم بعض هذه التحريمات ، بعض هذه العقوبات ، فلم يقبلوها . وجاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم ليفكّ عنهم هذه الآصار وليحلّ لهم هذه المحرمات . ومع ذلك ظل القوم يناقشون ويجادلون ويكابرون ويدّعون أن هذا هو حكم الله تعالى . وقبل كل شيء نتساءل : ما سبب هذه التحريمات والتشديدات التي لحقت ببني إسرائيل ؟ سببها أن القوم شددوا على أنفسهم . دين الله على لسانِ كل نبيٍ ورسول طائفة من العقائد والشعائر وقواعد السلوك مما تطيقه الفطرة البشرية ، ويستطيع كل إنسان أن يؤديه وأن يقوم به . وحين يحاول الإنسان أن يشدد على نفسه فإنما يحاول بهذا أن يصحح دين الله ، يعني أن يعتقد بأن دين الله كما نزل ناقص لا يكفي لتهذيب النفس ولا يكفي لتقويم السلوك . لهذا تأتي أوامر الأنبياء مؤكدةً لهذه العقوبات المشددة الزاجرة ، لكن من طبيعة هذه التشديدات أنها موقتة ، تكون حتى يبعث الله نبياً رسولاً فيحل بعضاً منها ، ثم إذا كان ختم الرسالة حُلّت كلها وأعيدت قواعد الدين إلى قواعد الفطرة الأساسية لا تثقل على النفس ولا تؤودها .

 كان عيسـى صلى الله عليه وسـلم مخففاً لبعض هـذه الآصار ، قال لهم ( ولأحل لكم بعض الذي حُرّم عليكم ) وبعد عيسى جاء محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال الله لهم ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) فبرسالة بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أزيل عن كاهل الإنسانية كل التشديدات التي شدد الله بها على بني إسرائيل عقوبةً لهم ، كي تعود قضايا الدين إلى جوهر الفطرة وإلى الحد الذي تطيقه قدرة الإنسان .

 سبب آخر يجب أن يُذكر في هذا المجال لهذه التشديدات ، إن بني إسرائيل قومٌ لجوجون وكثيرو الغلبة وكثيرو الأسئلة وكثيرو العناد ، ولهذا سماهم بعض أنبيائهم بالقوم غلاظ الرقبة . ولكثرة هذه اللجاجة وهذه الأسئلة التي لا تحمل معنى الجد والاحترام لقضية الدين وقعت عليهم هذه التشديدات ، قال الله تعالى ( فبظلمٍ من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أُحلّت لهم ) معظم المحرمات كانت عقوبات أنزلها الله على بني إسرائيل ، عقوبات من أجل سوء سلوكهم مع أنبيائهم ومع أنفسهم .

 ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يؤدّب المسلمين بأدبٍ مغايرٍ للأدب الذي تأدّبت به بنو إسرائيل . بنو إسرائيلٍ قومٌ شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم . والنبي صلى الله عليه وسلم في توجيهاته للأمة يقول : لا تشددوا فيشدد الله عليكم ، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع رهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ، فما رعوها حق رعايتها . في حديث الأعرابي الذي علّمه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام ، قال له : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ثم قال له : خمس صلواتٍ في اليوم والليلة . قال الأعرابي : هل عليّ غيرها ؟ قال : لا إلا أن تتطوع . قال : وتصوم رمضان ، قال : هل عليّ غيره ؟ قال : لا إلا أن تتطوع . قال : وتحجّ البيت في العمر مرة ، قال : هل عليّ غيره ؟ قال : لا إلا أن تتطوع . فأدبر الأعرابي وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دخل الجنة إن صدق أو أفلح وأبيه إن صدق . ترون أن الإسلام تكليفٌ بسيط : خمس صلواتٍ في اليوم والليلة فرائض ، أنت حرٌ بعد ذلك إن شئتَ أن تتنفل أو لا ، صيام هذا الشهر إن شئتَ صمتَ غيره وإن شئتَ فلا تصمه . كذلك في العمر مرة إن استيسر لك أن تحج فحج ، إن أردتَ أن تكرر الحج إلى بيت الله فعلت وإلا فشأنك ، وهكذا ، فمع كل هذه البساطة فالنبي عليه الصلاة والسلام ضمن لفاعل الفرائض فقط الجنة . فالذين يشددون على أنفسهم إذا كانوا لا يطيقون ذلك عليهم أن يقتصروا على أخف التكاليف ويعلموا أن الله يرضى من العبد أن يقوم له بالفريضة على ألا يخلّ بها ولا يضيع منها شيئاً .

 من هنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد ، وكان يوصي : إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، فإن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى . تعرفون المنبتّ ؟ المنبتّ هو راكب الدابة الذي ينخسها ويضربها ويسوقها سوقاً عنيفاً حتى تضعه في بعض الطريق فإذا هي ميتة فلا وصل إلى الغاية ولا أبقى الدابة التي كان يستعين بها على قطع المسافة واجتياز الطريق . فاعل الفرائض ومعها ما يزيد والمشدد على نفسه تشديداً كثيراً مثله كمثل هذا المنبتّ ، فنفس الإنسان هي مطيته التي تبلغه إلى الله جل وعلا ، إن أحسن سياستها وقيادتها أوصلته إلى بر السلام ، وإن هو شدد عليها وعنف بها انقطعت دون ذلك .

 بعض الناس يرى أن إجاعة النفس وحرمانها والتشديد عليها قربة من القربات إلى الله تعالى ، حتى إن بعضهم يبلغ به الأمر أن يقع في الإجهاد ولا يكاد يقوم ، وقد سُئل الإمام الشافعي رضي الله عنه عن رجلٍ صام وصلى حتى ضعف عن القيام في الصلاة فصلى قاعداً أو مضجعاً ، فقال الإمام الذكي العارف : لا خير في ورعٍ يؤدي إلى إسقاط فرائض الله تعالى . الإنسان يستطيع أن يسوس نفسه ضمن المعروف من قواعد الشريعة وأحكامها وآدابها . البله والمجانين وضعاف العقول والمخاليع الذين يعنفون على أنفسهم قومٌ ما شمّوا رائحة الإسلام ، قومٌ عاشوا مع البدع ومع الخرافات ومع المنكرات ، وأما الشريعة في مبناها فهي شريعةٌ سمحة غراء لا تكلّف الإنسان إلا أيسر المجهود ، ومع ذلك يبلغ بها رضى الله سبحانه وتعالى .

 أيضاً يجب أن نلتفت إلى موضوعٍ آخر أو سببٍ آخر للتشديدات هو كثرة الأسئلة أثناء تنزل الوحي ، حينما يكون الوحي نازلاً من السماء على النبي فواجب العباد فتح الآذان والأعين والقلوب للتلقي والتنفيذ ، أما اللجاجة وكثرة الأسئلة فهي أدبٌ لا يتسق مع الجدية في التلقي عن الله سبحانه وتعالى بواسطة النبي المرسل . ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره المسائل ويقول : ذروني ما تركتم ، طالما أنا لا أبدأكم بشيء فلا تبدأوني بشيء ، فإنما أهلك من كان قبلكم من الأمم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم . وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ، وكان يقول : إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرماً مَن سأل عن شيءٍ لم يُحرَّم فحُرّم على المسلمين من أجل مسألته . سأضرب لكم مثلاً تدركون منه كيف تؤدي اللجاجة أو يمكن أن تؤدي اللجاجة في السؤال إلى التحريم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا ، قام رجلٌ فقال : في كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، وكرر مقالته الأولى : إن الله فرض عليكم الحج فحجوا . قام ذلك الرجل إياه فقال : أفي كل عامٍ يا رسول الله ؟ قال : لو قلت نعم لوجبت ولكفرتم ، لأنكم لا تطيقون أن تحجوا كل عام . فالواجب حين تنزّل الوحي وتبليغ الأحكام الكف عن الأسئلة ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لو أُحرج أكثر من هذا لقال : نعم . وحين يقول نعم يصبح الحج فرضاً على كل مسلمٍ في كل عام ، ويكون هذا المتعنت في السؤال اللجوج المهذار سبباً في إنزال التحريم على الأمة إلى يوم القيامة ، لأنه لم يملك نفسه فبادر باللجاجة في السؤال . ولهذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قلما يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا سألوه فيسألونه بأدبٍ ولباقة وبأيسر الكلام .

 وأروي لكم حادثة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب القوم في مسجد المدينة ، وفي ساعةٍ من ساعات التي كُشف فيها للنبي صلى الله عليه وسلم عن الأحداث الرهيبة التي سوف تتعرض لها الأمة قال : يا أيها الناس سألوني فوالله ما تسألوني عن شيءٍ إلا أخبرتكم به ، قام رجلٌ فقال : من أبي يا رسول الله ؟ قال : أبوك حذافة ، فقام آخر قال : أين أبي يا رسـول الله ؟ قال : أبوك في النار ، فبرك عمر رضي الله عنه على ركبتيه وقال : يا رسول عائذين بالله من الفتن رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً . وقام الرجل الذي قال له أبوك في النار كسير النفس يطلب الباب ، قال له : تعال ، فأقبل ، قال : أبي وأبوك في النار ، وجلس طيب الخاطر .

 كان المسلمون إذا سألوا نبيهم صلى الله عليه وسلم يسألونه برفق ، ويسألونه عما يجدي ، وكانت تجول في أنفسـهم الأسئلة فلا يجرأون على السؤال خشـية أن يغضب النبي صلى الله عليه وسـلم ، كيف والله جلّ وعلا أدّبهم بقوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدَ لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدى لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ، قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) فهذا أدبٌ أُدّب به المسلمون ، فكانوا يقولون : كنا ـ يعني الصحابة ـ نُهينا عن المسائل فكان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل اللبيب من أهل البادية فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع ، أما الصحابه فلا يسألون إلا عن القدر الضروري من العلم فقط ، وعلى هذا تأدب الصحابة وعلى هذا أيضاً تأدّب التابعون ومن تبعهم وخيار الأمة . الأئمة الأربعة المتبعون وشيوخهم وتلامذتهم كانوا إذا عرضت لهم المسألة من صاحبها يسألونه : يا فلان أوقع هذا ؟ يأتي السائل فيقول : ما حكم الله في كذا وكذا ، يسألونه : بالله عليك وقع هذا الشيء ؟ فإن قال : نعم ، اجتهدوا له وأجابوه ، وإن قال : لا ، قالوا له : أمهلنا حتى يقع . يعني دعنا نستريح حتى يقع فإذا وقع اجتهدنا لك رأياً .

 لم يكن عندهم حب السـؤال وكثرة الأسئلة ، حينما تقع الحادثة يسألون عنها ، وأما قبل وقوعها فلا يسألون ، اسألوا أنفسكم : ما هو المغزى وراء هذا السلوك ؟ لا شك أن الثرثار الذي يكثر الأسئلة إنسانٌ فارغ بطال ، والذي يُقلّ الأسئلة إنسانُ جاد عاقل ، الإنسان الذي يعمل حين يُشكل الأمر عليه في العمل يسأل عنه ، لكن الثرثار البطال لا عمل له إلا أن يكثر السؤال . الأمة بعد أن تخلت عن هذا الأدب صار همها أن تسأل ، بينما كان همها في السابق أن تعمل . وأذكر لكم أن كثيراً من الناس في هذا البلد لا بد لهم إذا رأوني أن يسألوني ، وأذكر لكم على سبيل المثال ، منذ أيام مررت فكان أحد هؤلاء الزبائن أصحاب الضريبة علي ، ضريبة السؤال ، رآني فجاءني يسألني ، وشاء الله أن ينسيه السؤال ، قلت له : نعم ، قال : نسيت ، قلت : الحمد لله الذي أنساك .

 لماذا هذه اللجاجة في الأسئلة ؟ الأسئلة ماذا وراءها ؟ هي حجةٌ عليك وثقل تضعه على كاهلك ، اشغل نفسك بالعمل ، حين تشغل نفسك بالعمل ستجد أن شهوتك للكلام تقل ، حاجتك للسؤال تقل ، أما إذا فرّغت نفسك من العمل فستكون ثقلاً على نفسك وثقلاً علينا أيضاً ، أعاننا الله عليك . هذه المجازفة بالأسئلة كانت وراء التشديدات التي شدد الله بها على بني إسرائيل ، حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم فكسر الطوق وأعاد المحرمات إلى ما كانت عليه في أساس الفطرة ، وأحل ما وراء ذلك ، وبيّن عليه الصلاة والسلام أن الحلال ما أحل الله ورسوله وأن الحرام ما حرّم الله ورسوله ، وأنه غير جائز لأحدٍ بعد هذا أن يقول عن شيءٍ لم يحرمه الله هو حرام ، وعن شيءٍ حرمه الله هو حلال ، ذلك بأن الحكم في هذا لله ورسوله ، وأن تخرصات بني إسرائيل وتخرصات أهل الكتاب عامةً في هذا كذب وتزوير على الله جلّ وعلا ، وإلحاق لبعض الأحكام في كتاب الله وهي ليست في كتاب الله ، وليّناً للسان ببعض الأحكام إيهاماً للجهلة بأنها من حكم الله وما هي من حكم الله .

 الشيء الثاني الذي تعرضت له الآيات موضوع القبلة ، ففي سورة البقرة سمعتم الله جلّ وعلا يقول في هذا الموضوع أثناء فصلٍ طويل ( سيقول السفهاء من الناس ) والمعني بهم اليهود ( ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراطٍ مسـتقيم ) ثم قال للنبي عليه السلام ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولّينك قبلةً ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) كان النبي عليه السلام حين بدء الهجرة إلى المدينة يصلي مستقبلاً بيت المقدس ، وبقي يستقبل في صلاته بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ، حتى حوّله الله تعالى إلى المسجد الحرام ، فغضبت اليهود : كيف يترك قبلتنا ويرجع إلى الكعبة ، فقالوا : إن محمداً متحيّر لا يدري أين قبلته ، وأضافوا إلى ذلك كلاماً كثيراً حول البيت . وهنا يردّ الله عليهم ( قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ) وهنا النص على ملة إبراهيم يجر إليها كون البيت الحرام من بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ( إن أول بيتٍ وُضع للناس للذي ببكة ) وبكة اسـمٌ من أسماء مكة ( مباركاً وهدى للعالمين ، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من اسـتطاع إليه سبيلاً ، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) أول بيتٍ وُضع للعبادة في الأرض هو البيت الحرام ، طبعاً لا معنى لبعض الروايات التي تقول بإن الملائكة بنت هذا البيت لآدم ثم رفعه الله في الطوفان ، فهذه كلها خرافات وإسرائيليات تسربت إلى الأمة وآن أن تحرر عقولها من هذا السخف .

 أول بيتٍ وضع للعبادة في الأرض ، مَن وضعه ؟ لا ندري ، لأن الصيغة صيغة مجهول ، ولكنا نعرف أن إبراهيم وإسماعيل رفعا القواعد من البيت ، هل كانت القواعد مؤسسة قبل ذلك أم لا ؟ الله أعلم ، نسكت عما سكت الله جلّ وعلا عنه ولا نكلف أنفسنا التكلف الذي لا معنى له .

 أول بيتٍ وضع لعبادة الله البيت الحرام ، ثم بيت المقدس ، في حديث أبي ذرٍ رضي الله عنه : أي بيتٍ وضع في الأرض أول ؟ قال النبي صلى الله عليه وسـلم : البيت الحرام . قال : ثم أيٌ ؟ قال : بيت المقدس . قال أبو ذر : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة ، ثم حيثما أدركتك الصلاة من الأرضِ فصلّ فهي لك مسجد ( إن أول بيتٍ وُضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين ، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ) ومقام إبراهيم هو الصخرة التي كان يقف عليها حين كان يرفع القواعد مع ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، والذين ذهبوا إلى الحج يعرفون مقام إبراهيم فيما أعتقد . مقام إبراهيم كان لاصقاً بجدار الكعبة ، وبقي إلى خلافة عمر رضي الله عنه ثم نقله شيئاً ما كي لا يشوش على الطائفين ، وهو الآن معروف ويتخذه الناس مصلى ، لأن الله جلّ وعلا قال للحجاج ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )

 ( إن أو بيتٍ وُضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين ، فيه آياتٌ بينات مقام إبراهيم ومن دخلهُ كان آمناً ) كان آمناً بأمان الله جلّ وعلا ، حتى كانت العرب فـي الجاهلية إذا قتل القاتل أخذ صوفةً فعلقها في رأسه ثم دخل الحرم ، يراه في الحرم ابن المقتول أو أخوه أو وليه فلا يفعل معه شيئاً طالما هو في الحرم . في الإسلام لو اجترح إنسانٌ جناية ثم دخل في الحرم هل يجوز لنا أن نستخرجه من الحرم ؟ لو ذهب محارب فعاذ بالحرم ، هل يجوز لنا أن نقاتله في الحرم ؟ قال ابن عباس : لا ، وإنما يُمنع منه الطعام والشراب حتى يُضطر إلى الخروج من الحرم ثم يؤخذ بعد ذلك ، وهذا هو أوجه الأقوال في الفقه الإسـلامي ( ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حِج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) حينما فرغ إبراهيم عليه السلام وإسماعيل من بناء البيت قال الله جلّ وعلا لإبراهيم : يا إبراهيم ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر ) قال : يا رب أنا في بيداء من الأرض ، من يسمعني ؟ قال : اصعد هذه الربوة وقل : يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا ، أنت أذّن بهم وعليّ البلاغ ، فصعد فأذن في الناس بالحجّ وبلغت دعوة إبراهيم أقطار الأرض جميعاً بأمر الله سبحانه وتعالى .

 فالحجٌ مكتوب على الناس ( ولله على الناس حج البيت ) لا على المسلمين فقط ، وإنما على من كان قبل المسلمين أيضاً . نوح فمن بعده من الأنبياء كلهم حجوا هذا البيت ، أتباعهم المسلمون حجوا هذا البيت ، لكن الناس غيّرت وبدّلت حتى نسوا أن هذا البيت هو البيت المحجوج وهو البيت الذي يستقبله الناس في الصلاة .

 ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ، ومن كفر فإن الله غنيٌ عن العالمين ) في قول الله جلّ وعلا ( ومن كفر ) دلالة على أن القادر على الحج التارك له كافر ، وإلى هذا ذهب طوائف من فقهاء المسلمين ، وشدوا ذلك بهذه الآية وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه : من ملك زاداً وراحلةً تبلغه بيت الله الحرام ثم لم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً . لا بد للقادر من الحج ، فإن هو أخل بهذه الفريضة فهو على خطرٍ عظيم ، بعض الفقهاء يقولون : لو وجب الحج على إنسان ـ يعني ملك الزاد والراحلة ـ هل يجب عليه فوراً أم له أن يؤخر هذا إلى آخر عمره ؟ قال قائلون منهم بهذا وقال قائلون منهم بهذا ، ولكن ابن عباسٍ رضي الله عنهما كان يأمر بالحج فوراً ويقول : الصحيح يمرض والحي يموت والفارغ يشغل ، وإذا وجبت الفريضة فبادروا إلى أدائها ( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) تسألون أيضاً عن الاستطاعة ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) استطاعة السبيل تتأتى بأن يملك الإنسان نفقةً تكفيه وتكفي عياله وشيئاً آخر يأخذه ويأتي به من مكانه إلى بيت الله ومن بيت الله إلى مكانه . إذا ملك الإنسان نفقةً تكفيه ذهاباً وإياباً ، وملك نفقةً تكفي عياله في مكانهم طيلة غيابه ، فقد وجب عليه الحج . في هذا المجال وفي هذه المناسبة أسمع من بعض العوام كلاماً يقولون إذا كان الرجل عزباً ويجمع لنفسه مهراً فلا يجب عليه الحج لأن الزواج أفرض من الحج ، هكذا يقولون ، ويقولون إذا كان الرجل لا يملك بيتاً ويجمع لنفسه مالاً من أجل أن يبني لنفسه بيتاً فلا يجب عليه الحج حتى يبني لنفسه بيتاً ، أريد أن أقول لكم : هذا سخف وتهجم على الأحكام الشرعية بغير علم ، الإنسان إذا ملك المال وجب عليه الحج سواءٌ كان مزوجاً أم لا ، وإذا ملك النصاب الزاد والراحلة وجب عليه الحج وليسكن بعد ذلك تحت خيمة أو في بيتٍ للأجرة ، أما أن يؤخر الحج بهذه الذرائع السخيفة وبهذه العقلية العامية الغبية فلا ، يجب على الناس أن يبادروا في الحج ..

 ........................ انقطع الشريط .................................

 وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .