حال العرب قبل الإسلام

العلامة محمود مشّوح

حال العرب قبل الإسلام

26 / 4 / 1985

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

إن الله مـع الذي آمنوا والذين هـم محسـنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :

******** انقطاع قليل في بداية الشريط *********

ذلك بأن الأعداء الخارجيين بالطبع لا يروق لهم أن يفقدوا موطن الامتياز الذي يحتلونه على الساحة العالمية ، وسيبذلون بالتأكيد كل ما لديهم من قوةٍ ومجهود للحيلولة دون السماح لهذه الأمة أن تتقدم وأن ترقى . وقل كذلك بالنسبة للفاسدين والمفسدين من أبناء هذه الأمة ، فالحياة النظيفة الشريفة العزيزة الكريمة لا تلبي شهواتهم وأطماعهم وغرائزهم الدنيئة المنحطة ، وحين تتقدم الأمة فهذا الغثاء سيكون نكرات لا يلتفت إليه أحد ولا يأبه له مخلوق ، فهم بحكم موقعهم من فساد الخُلُق وسوء الطوية ورداءة الطبع مع الأعداء الخارجيين طبعاً ولا يملكون غير ذلك .

لهذا كله نحن نلحّ على تشريح وتوضيح الخصائص التي صنعت هذه الأمة وجعلتها تقود الركب الإنساني لمئاتٍ من السنين وما تزال حتى الساعة ، بالرغم من الأحوال البشعة المقيتة التي تعيشها هذه الأمة تملك الإمكان لأن تصنع نفس الشيء الذي صنعته من قبل لو أنها التفتت إلى نفسها وأعطت من ذاتها شيئاً من الجهد الذي يقبل المخاطرة ويتحمل المشقة ، من أجل أن يتقدم وأن يرقى .

حديث اليوم منتشر ومتشعب ، لكني سأحاول أن ألملم أطرافه قدر المستطاع لكي لا يطول عليكم الشوط ، وكنت أقدر أن أجزئ الحديث على عدد من الأسابيع ، لكني رأيت أن أصب في وقفةٍ واحدة زبدة هذا الموضوع .

منذ البداية أقول لكم سوف نرى وترون أن أهم مشكلات العصر التي تعاني منها البشرية حُلّت في الإسلام من الزاوية الفردية ، وبأسلوب إنسانيٍ رفيع ، وبعقلانيةٍ منقطعة النظير ، وبأخلاقيةٍ عالية . لو حذفنا من التاريخ الإنساني كله فترة النبوة والخلافة الراشدة وأعصار التابعين وتابعيهم ، ثم وضعنا لوحة التاريخ بعد ذلك أمام أعيننا لوجدنا تاريخ الإنساني يتحرك على محاور الصراع بين الأغنياء والفقراء ، بين الذين يملكون والذين لا يملكون ، بين الذين يجدون وبين الذين لا يجدون . وفي غمرة هذا الصراع المحتدم في أغلب الأوقات والدامي في كثيرٍ من الفترات ، نسي الناس أن هناك حياةً إنسانية مكرّمة ومحترمة ، ونسي الناس أن هذا الكائن الإنساني هو أداتنا الوحيدة لصنع التاريخ ، وحين نقول الكائن الإنساني فإنما نعنيه بكل خصائصه وإمكاناته ، بمعنى أنه يتوجب علينا أن نحافظ عليه كاملاً غير منقوص . وطابع التاريخ البشري كله طابع الحيرة بين الحرية والعدل ، العدل لازم والحرية أيضاً لازمة ، والتوفيق بينهما معادلةٌ صعبة ، بل هي ما تزال حتى الآن لدى كل الأنظمة وعند كل المفكرين الذين فكروا فيها تُعتبر معادلةً مستحيلة . فأنت إذا أردتَ أن تمنح الناس الحرية الكاملة فسوف يؤدي ذلك إلى طبقيةٍ يسحق بعضها بعضاً ، وبالتالي سوف تُهدر الحرية التي كانت أساسك في الانطلاق ، وأنت إذا أردتَ أن تحقق العدل فلا شك أنك سوف تصطدم قطعاً بمصالح أصحاب المصالح وبأطماع أصحاب الأطماع وبالشهوات المستشرية هنا وهناك ، فأنت في طريق محاولتك لتحقيق الحرية مضطر إلى تحقيق العدل مضطر إلى أن تضحي بالشيء الكثير من الحرية .

 حتى الآن على صعيد الفكر وعلى صعيد الممارسة لم توفق الإنسانية إلى صيغةٍ تحقق العدل من غير أن تُهدر الكرامة الإنسانية ومن غير أن تعتدي على الحرية البشرية ، في كل المجتمعات التي أخذت بالنظرية الاجتماعية من وسط اليمين إلى أقصى اليسار فالشكوى عامة وصارخة من عدوان المجتمع ممثلاً في الطبقات الحاكمة المتسلطة على حرية الناس ، وبالمقابل فبالنسبة للمجتمعات التي حاولت أن تطبق النقيض أطلقت العنان للحرية على حساب مقتضيات العدل الاجتماعي ، وفي الطريق بين هؤلاء وهؤلاء ممارسات ، القطاع العام والقطاع المشترك والتسيير الذاتي وكل ما أعطتنا إياه التجارب البشرية المعاصرة على وجه الخصوص ، لكنها لم تشكل حتى الآن مخرجاً ولو نظرياً لمشكلة الحيرة الإنسانية بين العدل والحرية .

 نحن لا نريد أن نضرب في جذر المشكلة ، فقد يكون الكلام في هذا الموضوع أعلى من المستوى المطلوب على المنبر ، وقد يضطرنا ذلك إلى الدخول في تفصيلات معظم الإخوة ليست لديهم فكرة عنها ، لكنا نحب أن نطرح السؤال بصورةٍ مفاجئة : ألم يُواجه الإسلام هذا الواقع البشري ؟ بلى ، كيف حلّه الإسلام ؟ وقبل أن أذهب بكم بعيداً في طريق الإجابة على هذا السؤال أحب أن أحاول معكم رد الاعتبار إلى بعض الخصائص العريية الجاهلية ، فقد ينبغي أن ننبئ إلى أنه في غمرة الحماس للإسلام ظُلمت المرحلة الجاهلية بحسن نية طبعاً ظلماً كان ينبغي أن لا يحدث ، فالإسلام دين ونظام لم يحدثا في فراغ ، وإنما نشأ ضمن مجتمع وفاقاً لقوانين النشوء في المجتمعات البشرية ، ليست هنالك معجزة ، وإنما هنالك عملية حساب مؤسسة على معطيات الواقع البشري الذي تحرك ضمنه الإسلام . وعبقرية الإسلام كانت في المعالجة من أجل التوجيه ومن أجل الحث ومن أجل الإضافة ، لكن بصورةٍ عامة في المجتمعات البدوية أهم شيء الماء والطعام والنار والدفء ، ولأمر ما كان يقال في المدائح فلانٌ كثير الرماد ، هذا الطابع مشترك بين كل المجتمعات البدوية على امتداد الساحة الأرضية ، لكن للعرب امتيازاً في هذا المعنى ، إضافة ، العرب أضافوها وأنا أتكلم عن العرب في الجاهلية قبل أن يظهر الإسلام .

 بطبيعة الحال لا يخفى عليكم أن المجتمعات تؤثر فيها وتلونها مؤثرات بيئية ومناخية واجتماعية واقتصادية وسياسية ، لحسن الحظ المجتمع العربي الجاهلي كانت المؤثرات السلبية فيه قليلة ، فهو لم يعرف السلطة الحاكمة التي تذل الإنسان وتحطم في داخله معاني العزة والكرامة والرجولة والشهامة والشرف ، بقي الإنسان من هذه الزوايا محافظاً على هذه الخصائص التي هي من أهم مشخصات ومكونات المجتمع العربي الجاهلي . والذين يقرأون قصائد الشعراء الجاهليين يجدون أن أهم الزوايا التي يُمدح من أجلها الناس زاوية الكرم والجود والسماحة والبذل ، ففي البادية الطعام قليل والماء قليل والمأوى قليل ، وحين تتخلى عن قُوتك لتطعمه لضيفك فأنت إنسان كريم وشهم ونبيل ، وهذا هو الحد الأدنى المطلوب ، لكن العرب كانوا يحسون إحساساً جماعياً في هذه الناحية ، أنا لا أنفي أن هناك أفراداً في المجتمعات الجاهلية كانوا يمارسون الربا ويمتصون به دماء المحتاجين ، لا أنفي ظاهرةً هي أحط من الربا ، أن هناك أناساً كانوا يتاجرون بأعراض الإيماء وكانت معيشتهم متوقفة وثروتهم مكونة من البغاء من الزنا الذي تمارسه خادماتهم وإيماؤهم ويأخذون هذه الحصيلة الكريهة الوسخة ، لا أنفي هذا ، لكن الشيء الذي لا أقدر أن أنفيه أيضاً أن الحس الجماعي بضرورة إغاثة الملهوف وسد حاجة المحتاج كان حساً واضحاً وبارزاً ، بل هو متغلغل حتى في العادات التي تطورت من بعد لتكوّن محرمات في الإسلام ، نحن نسمع الله جلّ وعلا يقول في القرآن الكريم ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) فنحن في موضعين من هاتين الآيتين نسمع الله جلّ وعلا يخص الميسر الذي هو القمار بالذم ، فما هي أصل نشأة الميسر عند الجاهليين ؟

 الأيسار في لغة العرب هي الأنصباء أي السهام ، نأتي إلى شاة نذبحها ونتقاسمها ، فهذه الأقسام اسمها أيسار ، واسم الميسر مأخوذ من هنا من الأنصباء من الأقسام من الأجزاء ، لماذا نشأت عادة الميسر في البداية ؟ إن ناساً من عرب الجاهلية الضاربة في القدم فكروا بينهم أن الشتاء حينما يطبق على الجزيرة العربية فهو شـتاء صحراوي ، والشتاء الصحراوي شتاء جاف ومر وصعب وقاس ، قسوته هذه تُرد بمَ ؟ تُرد بالغذاء الجيد وبالمأوى الجيد ، ونظروا فإذا هناك فئاتٍ كثيرة من الناس لا تجد القوت أثناء الشتاء ، القوت الذي يعطي للجسم الحريرات التي تسمح له أن يستمر بالبقاء ، ففكروا في أن يخترعوا ويبتدعوا طريقة توفر للفقراء هذا الشيء الذي يحتاجون إليه في فصل الشتاء ، كانوا يجلسون ويأتون إلى ناقة أو عدةٍ نوق يضعونها ويلعبون بينهم بالقداح ، فمن خسر دفع قيمة هذه الناقة أو هذه النياق ووُزعت بالتمام والكمال على الفقراء والمحتاجين في فصل الشتاء ، هذا أصل منشأ الميسر .

 حتى هذه الخليقة المرذولة والتي كما ترون هجاها القرآن وذمها في موطنين في آيتين متتاليتين ، وخصهما بالذكر منشؤها إنساني ، منشؤها الرغبة في إغاثة الملهوف وفي مساعدة المحتاج ، لماذا قلت لكم من الغلط أن نتصور أن الإسلام نشأ في الفراغ ؟ الإسلام دين إنسانيٌ واقع على الشروط التي تقوم وتنشأ وتتقدم عليها المجتمعات البشرية ، والنبي صلى الله عليه وسـلم في تعريضه بما كان في الجاهلية من مفاسـد لم ينكر بتاتًا أن الجاهلية كانت تحوي خصائص ممتازة ، فحين ذكر الوظيفة المطلوبة منه قال ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) لم يقل لأُنشئ مكارم الأخلاق ، لأن مكارم الأخلاق كانت موجودة قبل وجوده ، ولكن ليتممها ، كانت محتاجة إلى تهذيب وتزكية وإكمال ، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ليكمل ويتمم هذه المكارم التي كانت معروفةً في الجاهلية .

 وحين سُئل عن الناس ومعادنهم ، قال : عن معادن العرب تسألونني ؟ ـ يعني عن أصولهم ـ فقالوا : نعم يا رسول الله . قال : فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا . فالخيرية شيء له امتداه الضارب في الماضي ووجوده الماثل في الحاضر وأمله الطامح نحن المستقبل . فالعرب في جاهليتهم كانوا أناساً ـ بالرغم من وجود بعض ظهور بعض الشوائب لا يشكون مما تشكو منه المجتمعات التي انقسمت قسمة رأسية فيها الغني بصورة فاحشة وفيها الفقير الذي يشرف على الموت ، لم يكونوا يعرفون ذلك ، وإنما كانت هذه الخلائق الاجتماعية ، خلائق التعاون وخلائق الجود وخلائق الكرم والرغبة في مساعدة المحتاجين تلطف من هذا الجو . حينما ننظر إلى البواعث ، ونحن في الإسلام لا نقدر العمل كما هو متشخص ومتحيز في الواقع ، وإنما نمنح العمل قيمته من الدافع الذي يدفع إليه ، فالإنسان يصلي وتراه يقيم ركوع الصلاة وسجود الصلاة ويتم الوقوف والقراءة ولا يريد بذلك وجه الله وإنما يريد مراءات الناس ، هذا لا نستطيع أن نمنح صلاته أية قيمة لأن الدافع والباعث نحوها غير كريم . أما إذا توفر الباعث الكريم فإن القيمة حينئذٍ ترتفع ، نحن في الإسلام نقدر العمل وفاقاً لنبل الدافع الذي يدفع إليه .

 فكرم الجاهلية للأسف كان مسخراً وموظفاً للتفاخر وللتباهي ، وكان سباقاً بين الجاهليين لكي يُذكروا ولكي يُشكروا ولكي تُقبِل نحوهم الشعراء فتمدحهم على مكارم الأخلاق هذه . في قصة الصراع بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل فسر أبو جهل هذا المعنى حين سئل أبو جهل : أنت لا تعرف محمداً ؟ قال : بلى . ألا تعرفه الصادق الأمين قبل أن تأتيه الرسالة ؟ قال : بلى . قالوا له : فما بالك بهذه الشراسة من العداء ؟ قال : تسابقنا نحن وبنو هاشم في الجاهلية ، أطعموا وأطعمنا ، وسقوا وسقينا ، وحملوا وحملنا ، حتى إذا كفرَسَيْ رهان ـ يعني الفرسين المتسابقين الذين يتماثلان في الجري فلا تتقدم واحدةٌ على الأخرى ـ وجثونا على الركب قالوا من نبي يأتيه وحي من السماء ، فمن أين نأتي بذلك ؟ إذاً فأعمال الجاهلية الخطأ المستقر فيها هو الدافع الكامن وراءها ، ليس دافعاً صافياً مهذباً مراداً به وجه الله تبارك وتعالى . فمن أجل ذلك سقطت مكارم الجاهلية جميعاً ، وكانت محتاجةً إلى هذه الرسالة العظيمة التي تنميها والتي تزكيها .

 إن الإسلام حين أراد أن يعالج هذه المشكلة لم يرَ أنه محتاج إلى أن يصدر قانوناً للإصلاح الزراعي ، أبداً ، ولم يرَ أنه محتاج إلى أن يصدر قانوناً بتأميم الشركات العامة أو الخاصة ، ولم يرَ أنه مُضطّرٌ إلى مصادرة أي شيءٍ من أي إنسان ، ولم يرَ وهو الأهم أن مُضطّر إلى أن يسرق أو يغتال أو يستلب حرية أو كرامة أي فردٍ من الناس ، لم يرَ إلى ذلك حاجةً مطلقة . الخطأ كان من أين ؟ في الدافع ، طالما أن الخطأ في الدافع فمعنى ذلك أن الداء في الذات الإنسانية وأن العلاج تبعاً لهذا تعيّن وتحدد وهو تصحيح الذات الإنسانية ، ولقد هوّن من أمر هذا أن العرب لم تكن تستنكر في معاملاتها بينها خلائق الجود والكرم ، بل كانت تتمدح بها . فمن أجل ذلك كانت عملية التصحيح وعملية التزكية وعملية التهذيب يسيرةً على المسلمين ويسيرةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن توفر للناس أولاً : إيمانٌ بالله تبارك وتعالى وتخلٍ عن الوثنية وعن سائر ما يُعبد من دون الله ، وتسليم المقادة إليه جلّ وعلا ، هو يوجه وهو يأمر وهو ينهى ، فإن المشكلة حُلّت ، حُلّت نهائياً . والله جلّ وعلا فيما أنزل وفيما أنطق به نبيه الكريم ضَمِن للناس الحياة ، فلا موت قبل الأجل ، وضمن للناس الرزق فلا موت قبل استيفاء الرزق تماماً ، فإذاً لا معنى للتفكير في الغد لأن رزق الغد يأتي مع الغد . حينما وُجدت هذه المهيئات للتزكية وُجدت الذات القادرة على أن تعطي أفضل ما عندها لإخوانها الذين يشاركونها المصير .

 إن الله جلّ وعلا لم ينكر على الناس أن فيهم غريزةً الجمع والمنع ، ولكنه أراد لهم أن يهيأوا هذه الغريزة ( إن الإنسان خلق هلوعاً ) قليل الصبر ( إذا مسه الشر جزوعاً ) لا يتمالك ولا يتماسك ( وإذا مسه الخير منوعاً ) إذا توفر بين يديه المال والرزق يمنع الحقوق ( إلا المصلين ) وأي مصلين ؟ ( الذين هم على صلاتهم دائمون ) فهذه الجبلة ، هذه الغريزة ، حب المال وحب الجمع والميل إلى منع الحقوق شيء موجود في الطبيعة البشرية ، لكن الإيمان حين ينير القلوب إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون تنحل هذه العقد المتولدة عن هذه الغرائز التي تسيء إلى المعنى الإنساني في الإنسان ، فلا إنكار ، والقرآن دائماً يعرض النماذج ، يعرض النموذجين ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فإن الجنة هي المأوى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فإن الجحيم هي المأوى وما يغني عنه ماله إذا تردى ) أي إذا ألقي في جهنم ، ثم يلخص ذلك كله ( إن علينا للهدى ) نحن بما أنزلنا من قرآن وبما أصدرنا من توجيهات ، نحن نهدي الناس إلى الطريق الذي هو أكرم . فبذلك توفر للمسلمين دافع كريم ، أصبح البذل والعطاء والجود والكرم لا يُراد منه أن يُمدَح الإنسان عليه من قبل الناس ، بل كان المسـلمون يهربون من ذلك وتعرفون أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ـ يوم القيامة ـ افتتحهم بالشيء المفقود ، الإمام العادل ، وواشوقاه إلى الإمام العادل ، وواحسرتاه على غياب الإمام العادل ، ثم ذكر منهم : ورجل أنفق حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله . فعمل السر في باب النفقات أفضل من عمل العلانية ، لماذا ؟ لأنه ليس المطلوب أن يُمدَح المنفق ، وليس المطلوب أن يُشاد بذكره ، ولا أن يُقام له نصب تذكاري ولا أن يعطى وسام استحقاق ، قطعاً كل ذلك غير وارد ، إنما المطلوب هو رضوان الله تبارك وتعالى .

 نحن نرى آثار هذه الخليقة أو هذه التربية ، حينما هاجر المسلمون ، في مكة طبعاً كلكم يعلم لم تكن المسألة مسـألة جماعةٍ منظمة لها حقوق وعليها واجبات ، وإنما أناسٌ مطرّدون مشرّدون ، لكن بعد الانتقال إلى المدينة وُجدت الجماعةٌ المسلمةٌ المستقرة التي مسّت الحاجة إلى أن تنظم أمورها . كل شيء يخطر على البال إلا التصرف الذي تصرف محمد صلى الله عليه وسلم في باب الاقتصاد في باب سد حاجة المحتاجين ، معلوم عند الجميع أن المهاجرين رضي الله عنهم تركوا الدور والأموال والأهل وذهبوا إلى المدينة فراراً بدينهم وهجرةً إلى الله ورسوله ، لا يملكون شيئاً ، ومعلوم أن الأنصار رضي الله عنهم هم سكان المدينة الأصليين ، وأن عندهم دوراً ومزارع ولهم تجارات وإن تكن أقل مستوى من تجارات مكة ، فحين هاجر المسـلمون إلى المدينة وُجدت فئتان متمايزتان تماماً ، ونستطيع أن نقول : إن القسمة بالفعل قسمة رأسية ، فئة المهاجرين الذين لا يملكون أي شيء وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وفئة الأنصار الذين يملكون الدور والمرافق والبسـاتين والمزارع والتجارة وكل شيءٍ في المدينة ، طبقتان متمايزتان ، وأنا أحب أن يكون هذا الكلام واضحاً في أذهان الإخوة الذين ما يزالون مخدوعين برواسب الفكر الماركسي الذي رُوّج له من بدايات الأربعينات وحتى الآن ، لو أننا طبقنا الفكر الماركسي لقلنا أن ثورةً حتماً ستنشأ بين الذين يجدون والذين لا يجدون ، بين الأنصار والمهاجرين ، لكن الأمر كان أيسر من ذلك بكثير ، إن الهجرة حين حدثت كانت الأخلاقيات الإسلامية ودوافع الإيمان العالية قد قطعت شوطاً بعيداً في تهذيب النفس البشرية وفي تكميلها وفي تزيينها ، وفي جعلها تقبل التضحية بأي شيء في سبيل الله وفي سبيل مرضاة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك ماذا تتصورون الحل الذي لجأ إليه محمد صلى الله عليه وسلم ؟ جمع الأنصار وجمع المهاجرين ، وآخى بينهم أولاً ، آخى بين المهاجرين والأنصار ، وقال لهم : إن هذه الأخوّة ليست كلاماً يُقال ، وإنما هي حقيقة بشرية واجتماعية تترتب عليها نتائج وآثار ، ومن المعلوم أن الناس يتوارثون بالقربى ، بعد الآن أي بعد المؤاخاة لا توارث بالقربى ولكن التوارث بعد الآن سيكون وفاقاً لموجبات عقد المؤاخاة ، أي أن الأنصاري إذا مات يرثه أخوه المهاجري ، وأن المهاجري إذا مات يرثه أخوه الأنصاري ، واستمرت هذه الحالة موضع التطبيق إلى أن نزلت آيات سورة النساء في أخريات العهد المدني ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) فأُبطل التوارث بالهجرة والنصرة وحل معه التوارث على قاعدة الأبوة والبنوة وأولي الأرحام .

 لكن الأهم من هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام طلب من الأنصار طلباً غريباً على أذهاننا نحن ، أذهاننا الكليلة التي لا تدرك معالي الأمور التي تعودت العيش في الوحل ، قال لهم : إن شئتم أعطيت ما يفيء الله علي من الغنائم لإخوانكم من المهاجرين ، ومنعتكم ذلك ـ أي لا أعطيكم شيئاً من الغنائم للأنصار ـ وإن شئتم قاسمتموهم الدور والمزارع والأموال ونعطيكم الغنائم لكم وللمهاجرين . ماذا كان جواب الأنصار رحمة الله عليهم جميعاً ؟ قالوا : يا رسول الله بل أعطهم الغنيمة بالكامل ونشاركهم في دورنا وأموالنا ومزارعنا . ولذلك سجل الله جلّت قدرته هذه الواقعة في القرآن الكريم كتاباً يُتلى ويتعبد به بالتلاوة والصلاة فقال ( والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ) يعني الأنصار ( تبوأوا الدار ) يعني سكنوا المدينة قبل المهاجرين ( والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ) أي لا يغلى عليهم شيء مما يملكون ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) يعني فقر وجوع وحاجة ، يُفضلون المهاجرين على أنفسهم ( ومن يوقَ شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون ) .

 عند هذه النقطة أيها الإخوة أرى من المفيد أن نصعد السلم درجةً أخرى ، قد تكتفي من المجتمع أن يتشارك بعضهم مع بعض في الخيرات المتاحة ، وترى أن هذه الحالة مثالية ، وهذا غاية ما طمحت إليه المجتمعات البشرية ، فالاشتراكية معناها هذا والشيوعية معناها هذا ، أي أن يكون الناس جميعاً على قدم المساوة في خيرات الدنيا ، أما أن تفضّل غيرك على نفسك ، أما أن تسحب اللقمة من فمك وأنت جائع لتضعها في فم غيرك فهذه فيما أتصور مرحلة أعلى ، هذه المرحلة أعلى ، عندنا في اللغة العربية من مادة ( أثر ) لفظان يستعملان في معنيين متضادين ، سمعتم الآن الله جلّ وعلا يقول ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) فالإيثار هو تفضيل الغير على نفسك فيما بين يديك ، لكن من المادة لفظ مناقض وهو الأثرة ، والأثرة ترادف الشحّ ، الأثرة هي أن تحب أن يكون كل شيءٍ لك وإن كانت الدنيا كلها محتاجةً إلى ما بين يديك ، فالأثرة في الإسلام مذمومة وممنوعة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يحذر منها وفاقاً لتحذير القرآن فسمعتم أنتم أن الله يقول ( ومن يوقَ شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون ) يعني يُحفَظ من شحّ النفس ، شحُ النفس ما هو ؟ هو أن تشعر النفس بأنها بخيلة ولا تستطيع التخلي عما هو لها ، فالذي يُحفظ يحفظه الله من خليقة الشح فقد أفلح وأنجح وفاز في الدنيا والآخرة ( ومن يوقَ شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون ) .

 النبي الكريم تأسيساً على هذا المعنى يحذر من الشح فيقول : إياكم والشح فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن يسفكوا دماءهم ـ وتاريخ الثورات في التاريخ البشري شاهد على ذلك ـ وعلى أن يقطعوا أرحامهم . والفعل الآن هذا موجود ، لعلكم الآن تستغربون أنتم الوالد يزور الولد والولد يزور الوالد باستمرار ، لكن في المجتمع الغربي الآن الوالد يزور ابنه في عيد الميلاد فقط أي مرة في السنة ، فلا رحم ولا صلة أرحام ، وإنما هي قطيعة تامة ، حملهم على أن سفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم . فالنبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام يحذر من خليقة الشح ، وحين سأل بني سلمة قال : من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : فلان على أننا نبخله ، أي نتهمه بالبخل . قال لهم النبي الكريم : وهل داء أدوء من البخل ؟ هل توجد بين الأمراض خليقةً هي أشد فتكاً من البخل ؟ إن البخل إذا استوطن نفس إنسانٍ قضى عليه ، قضى عليه تماماً . فالشح كما ترون محطٌ هجوم من الإسلام ، والجود مطلوب لكن الإسلام ارتقى بالمسألة درجةً أخرى ، الدرجة التي لا تحاسب عليها القوانين ، وإنما الرقيب عليها الله ، وإنما الرقيب عليها الضمير ، وإنما الدافع إليها والسائق نحوها نبل الشعور الإنساني ، وهي درجة الإيثار ، الإيثار أن تتخلى عن كل شيء لغيرك وأن ترضى بالحرمان والمنع .

 الإيثار من الخصائص الإسلامية التي حلّت مشكلة الاقتصاد والصراع البشري دون حاجة إلى مصادرات ودون حاجة إلى تأمينات ودون حاجة إلى عدوانٍ على الحريات ، ما يأتيك من الدولة ممثلاً في خدمات أو مساعدات عينية أو مساعدات نقدية فذلك حقك الذي لا يناقش ، حقك المؤسس على كونك إنساناً عضواً في هذا المجتمع ، لا يعني هذا أن أطلب منك تأييداً في انتخابات ولا يعني هذا أن أنظر إليك شزراً إذا أنت خالفتني في الرأي ، ولا يعني هذا أي شيءٍ من السقطات والسخافات التي يتمرغ فيها الناس اليوم . حقك نابع من كونك إنساناً في مجتمع إنساني تأخذه موفراً عليك ، لم تبذل فيه قطرةً من ماء وجهك ولا قطرةً من عرقك ، يصلك وكرامتك محفوظة . حُلّت هذه المشكلة في زمن النبوة وفي زمن الخلافة الراشدة وفي عصر التابعين وعصر تابع التابعين دون أن يشعر الناس بالحاجة إلى رهق القوانين ، دون أن يشعر الناس بالحاجة إلى أنهم يُستلبون من حيث الحرية ، دون أن يشعر الناس بشيءٍ من هذا ، لماذا ؟ لأن خلق الإيثار كان هو الخلق السائد بين المسلمين .

 هل أعطيكم أمثلة ؟ ما أظن أن هنالك ما يدعو إلى ذلك ، لكني أريد أن ألفت نظركم إلى أن الإيثار خليقةٌ شاملة ، غلط أن نتصور الإيثار أن أوثرك بلقمة خبز ، غلط أن أحصر الإيثار بالجانب الاقتصادي ، لا ، الإيثار خليقةٌ شاملة وسلوك مسيطر على الإنسان ، دافع من وراء سلوك البشري كله . قمة الإيثار ماذا ؟ قمة الإيثار أن تؤثر وتفضل رضوان الله تبارك وتعالى على رضى المخلوقين ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد المؤثرين في هذا الباب ، فهو رفض كل شيء ، رفض الجاه ورفض المال ورفض كل العلائق التي كانت معروفةً في الماضي ، ورفض جميع المغريات ، لأنه أراد أن يرضي الله تبارك وتعالى . قمة الإيثار ورأس الإيثار أن تتعلم كيف تفضل رضى الله جلّ وعلا على رضى المخلوقين كلهم ، لو أن الدنيا أظلمت من حولك ، لو أن الناس تألبوا ضدك بالكامل يريدونك على ما يغضب الله فإنك حين تكون مؤثراً لرضوان الله جلّ وعلا فإن الله سبحانه وتعالى سوف يحفظك ، مصداق ذلك قول الله جلّ وعلا في الكتاب الكريم الذي تقرأونه وتتعبدون بتلاوته وتقيمون صلواتكم به قول الله تبارك وتعالى ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) في الحياة الدنيا ينصرهم ويوم يقوم الأشهاد يظهر حجتهم ويفلج خصومهم . والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم حاول المشـركون كما تعلمون إزهاق روحه فلم يفلحوا ، وحين كان في الغار قال له أبو بكر : يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا . قال له النبي الكريم بلهجة الواثق المطمئن إلى حفظ الله وإلى كلاءة الله وإلى رعاية الله : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما . لو أن الدنيا كلها كانت كحلقة الخاتم على رجل ثم اتقى الله لجعل له منها فرجاً ومخرجاً . سعيد بن المسيب رضي الله عنه سيد التابعين وتعرفونه وتسمعون به ، أراده الأمويون على أن يبايع لهم بالخلافة ، وسعيد بن المسيب رجل وفقيه ومؤمن ولا يهمه إلا أن يرضي الله تبارك وتعالى ، وهو يعلم كيف استلب بنو أمية حكم المسلمين وافتاتوا على إرادة المسلمين وقهروهم وأذلوهم ، جاء ساعي البريد ، وساعي البريد يشكل في ذلك العصر ما يشبه الآن جهاز المخابرات ، لأنه هو الذي ينقل الأخبار من الأطراف إلى مركز الخلافة ، قال له : يا هذا كيف تركتَ بني أمية ؟ قال : تركتهم بخير . قال : لا ، أظنك تركتهم يزيدون الغني غنى والفقير فقراً ، ويذيقون عباد الله أنواع البلاء . فغمزه واحد من تلامذته قال له : يا إمام إنك تشيط بدمك ، أي أنك تعرض نفسك للقتل ، قال له : يا هذا اسكت فما دمت قائماً لله بحقه فلن يضيعني . وبالفعل لم يضيع سعيد ولا أمثال سعيد ولا كل الذين وقفوا وقفة الصدق والأمانة مع الله تبارك وتعالى ، إيثار الحق على الخلق رأس الإيثار كله ، ومتى وُجد هذا اعتدلت موازين المجتمع . نحن نراها مختلة لأننا جميعاً ـ لا تؤاخذوني ـ كالكلاب المسعورة ، كلٌ منا يجري وراء شهواته ونتعامل وفقاً لهذه الموازين ، ونقيس أنفسنا وفقاً لهذه المعايير ، لكن في الموازين السليمة ، في الموازين الإنسانية ، في الموازين الإسلام ، الأمور ليست بهذا الشكل ، حين يوجد الناس الذين يريدون رضى الله ولا يريدون رضى المخلوقين على حساب رضى الله تعتدل الموازين .

 ومن هذه الواقعة أو من هذه القاعدة أو من هذا الأساس تنبثق كل معاني الإيثار ، لا يبقى معنى للحياة والمحافظة عليها ، بأي معنى تستطيعون أن تفسروا إقدام المسلمين على الموت في سبيل الله ؟ بالعشرات والمئات وعشرات الألوف ومئات الألوف ، إن أحدهم كان يُطعَن الطعنة القاتلة المميتة فلا يقول : أخ . لا ، وإنما يقول فزت ورب الكعبة ، ويقول : غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه ، غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه . فإيثار الحق على الخلق يخلق أمةً بغير نظير ، الأمة التي فتحت الدنيا بحفنةٍ من الرجال ، والتي خلفتها أمة تملأ السهل والجبل ومع ذلك تذل وتخنع أمام عصابات ، للأسف .

 إيثار الحق على الخلق يدفعك إلى أن تفضل غيرك ، أحبابنا قلت لكم مرة : كان في الصحابة أغنياء وكانت ثروات تكسر بالفؤوس ، ومع ذلك فالعبرة ليست بكثرة الثروة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : نعم المال الصالح للرجل الصالح . لأن المال الحلال في يد الرجل الصالح يوظف للخدمات العامة ، لكن المال الفاسد في يد الرجل الفاسد يوظف للمباذل والشهوات وما أشبه ذلك مما ترون وتسمعون . فالإسلام ليس ضد الثروة ، لكنه ضد سوء التصرف بالثروة . كبار الصحابة من أغنيائهم كانوا يأكلون الخبز والزيت ، الخبز اليابس والزيت ، ويوسعون على الفقراء ، وكثير من الصحابة قاسموا الله أموالهم عدة مرات في حياتهم ، وخرجوا منها جملة . كان الناس ذات يوم في المدينة فإذا المدينة ترتج من وطأة القافلة ، سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : ما هذا ؟ قالوا لها : هذه عير ـ أي قافلة تجارية ـ لعبد الرحمن بن عوف ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن عبد الرحمن بن عوف لا يدخل الجنة إلا حبواً . لأن المال حساب ، فسمع عبد الرحمن فجاء مهرولاً إلى عائشة ، قال : يا أم المؤمنين أنت سمعت ذلك من رسول الله ؟ قالت : نعم ، قال : فأشهدك أنها بأحمالها صدقة في سبيل الله على فقراء المدينة . وكانت سبعمائة بعير محملةً بالبضائع .

 كذلك كانوا يخرجون من ثرواتهم ولا يؤثر فيهم شيئاً ، لا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا . أبو حنيفة في التابعين كان تاجراً بزازاً ـ يعني تاجر قماش ـ وكان ميسور الحال ، ومع ذلك فأبو حنيفة يختار أشهى المطاعم ويقدمها لعياله ولضيوفه ولتلاميذه ، ويأكل الخبز بالخل أو الخبز بالزيت . لا يرتبطون بالدنيا هذا الارتباط البشع الذي يُنسي الإنسان كل قيمة ، لا يرتبطون بالدنيا أبداً . فالإيثار كما ترون من الخلائق الشاملة العائمة المستمرة التي توجه وتحدد سلوك الإنسان في حياته الخاصة ، في حياته العامة ، في حياته الثقافة ، في حياته السياسية ، في حياته الأخلاقية ، في حياته الاجتماعية ، في جميع أنواع الحياة ومسالك الحياة الإيثار خليقةٌ واضحة مستمرة ، والإيثار مؤسس على الثقة ، الثقة بالله الذي ليس لديه ثقة بالله لا يستطيع أن يكون مُؤْثِراً ، ذات يوم كانت عائشة رضي الله عنها صائمة ، وأمرت خادمتها أن ترفع لها رغيفاً من الخبز اليابس لكي تفطر عليه ، وقبل المغرب جاء سائل فقالت لها : أعطه الرغيف ، قالت : يا أم المؤمنين لا يبقى لديك ما تفطرين عليه ، قالت : أعطها الرغيف ويحك ، فأعطته الرغيف . وعند المساء جيء لعائشة رضي الله عنها على سبيل هدية بشاة بكفنها ، أعتقد أنه لا يوجد منكم أحد يعرف ما معنى الشاة في الكفن ، لا بأس نفسر لكم ولو كانت على سبيل المعرفة بأنواع الطعام في الجاهلية وفي الإسلام العرب ، كانوا يذبحون الشاة ويكفنونها بالعجين ويشوونها بالتنور ، بالحرارة يتحلل الدهن وينضج اللحم بعد أن يكون العجين قد تشرب بدسم الشاة ، فهذه هي الشاة المكفنة وهي من الأكلات الشهيرة عند العرب . جاءتها شاة مكفّنة على سبيل الهدية ، نادت خادمتها وقالت : أهذه خير أم رغيفك اليابس ؟ قالت : أنت أدرى يا أم المؤمنين .

 في جميع الظروف كان المسلمون كذلك ، أُهديت إلى أحد الصحابة رأس شاة ، فقال : جاري فلان أحق بها ، فأرسل بها إلى جاره ، فلما جاءته ، قال : جاري فلان أحق بها ، فأرسل بها إلى جاره ، فدارت على ثلاثة أبيات ثم عادت إلى صاحبها الأول . لم يكن عندهم هذا الشره ، لم يكن عندهم هذا الطمع ، حتى في ظروف الاستشهاد في اللحظة التي يكون الإنسان فيها على شفا القبر وهو محتاج إلى قطرة ماءٍ تبلل شفتيه .. في معركة اليرموك استشهد ناس كثير من المسلمين ، رأى رجلٌ من المقاتلين قريبه وبه رمق فجاءه بشربة ماء ، فلما أراد أن يدنيها من شفتيه سمع قريباً منه صوتاً يقول : آه آه ، قال ، اذهب بالماء إلى هذا ، فذهب به إليه ، فلما أراد أن يشرب الثاني سمع نفس التأوه ، فقال له : أعطها له ، وذهب يدور على سبعةٍ من الجرحى ، فلما جاء إلى السابع وجده قد مات ، فرجع إلى السادس فوجده قد مات ، وهكذا دواليك حتى جاء إلى الأول قريبه ، فوجده قد مات ، خرجوا من الدنيا لم يشربوا الماء ، كل واحدٍ منهم فضّل الآخر على نفسه . هذه هي الخلائق الإسلامية العالية ، هذه هي الخصائص التي غلبنا بها الدنيا ، هذه هي التجربة التي جعلتنا نقرأ في أخبار الدولة الأموية في زمن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله تبارك وتعالى عنه وأرضاه أن أموال الزكاة لم تجد من يأخذها على الإطلاق .

 في وثيقةٍ محفوظة في بطون التاريخ أن عامل عمر على مصر كتب إليه : إنني جمعت أموال الزكاة وكفيت أهل مصر وبقي عندي شيء . قال له : اشترِ رقاباً وأعتقها في سبيل الله ، فاشترى ببقية الزكاة رقاباً أي عبيداً وحررهم في سبيل الله تعالى . هل فكر عمر بن عبد العزيز أن يضغط على حرية أحد ؟ لا ، هل قال لأحدٍ من الناس : أنا أعطيك لكي تنتخبني ؟ لا ، عمر حينما ولي الخلافة رأى أنه جاءته بالتوارث ، وقاعدة الإسلام أن الخلافة شورى ، إرادة من الشعب وإرادة بمنتهى الحرية ، بلا ضغط وبلا إكراه وبلا دعاية ، حتى أن الإنسان الذي يرشح نفسه للانتخابات يسقط حقه في الانتخابات ، هذه هي قاعدة الإسلام . فصعد منبر بني أمية وقال : يا أيها الناس ، إنني قد تقلدت هذا الأمر من غير مشورةٍ منكم ، وها أنا أرد الأمر إليكم فاختاروا لأنفسكم من تشاؤون . قالوا له : رضينا بك . عمر هل أراد أن يُكوّن ثروةً لأولاده ؟ لا . حينما دنت وفاته رحمه الله تعالى كان عنده أحد عشر ولداً ذكراً ، قال : ادعوا بني ، فدعوهم ، وهو على فراش الموت فدمعت عيناه وقال : بنفسي بني ، يا أولادي إن اتقيتم الله فإن الله جاعل لكم فرجاً ومخرجاً ، وإنكم لن تمروا برجلٍ مسلمٍ أو معاهد إلا عرف لكم حقاً ، وإن لم تتقوا الله فإن الله لن يبالي بأي وادٍ هلكتم . قال له حاجبه : يا أمير المؤمنين ألا تقتطع لأولادك شيئاً يتبلغون به بعدك ؟ قال له : ويحك أتريد أن أبيع ديني بدنياهم . لم يترك لأولاده شيئاً . عمر بن عبد العزيز لم يحاول أن يفضل أقاربه بشيء ، وإنما صادر كل ما عند أقاربه وأعاده إلى بيت المال ، لم يحاول أن يسترضي الحزب الأموي ، علماً بأن القاعدة عندنا في العصر الحاضر أن بالرغم من أننا نقول الرجل المناسب في المكان المناسب فنحن نكذب كذباً مفضوحاً ووقحاً في هذه الكلمات ، نحن نفضل الذي يؤيدنا حتى ولو كان بدون كفاءة ، حتى لو كان ساقطاً أخلاقياً ، مهما كان ، المهم أن يؤيد فنحن نفضله ونفتح له أبواب الحياة السعيدة الرغيدة ، مع العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ولى رجلاً على عصابةٍ من المؤمنين وفيهم ـ يعني في هذه العصابة ـ من هو أرضى لله ورسوله منه ـ يعني أفضل من هذا المولّى ـ فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين ولن يشم رائحة الجنة ولن يقبل الله له صرفاً ولا عدلاً وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .

 ****** انقطع الشريط ولكن بقي منه قليل *******

 وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .