رأي الإسلام في حياتنا المعاصرة

العلامة محمود مشّوح

3 / 5 / 1985

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

ربما لم ينتبه أحد في الجمعة الماضية إلى أنني في مقاصد الكلام الذي تحدثت به إليكم في ذلك الوقت كنت أريد أن أفتح نوافذ أمام بعض الإخوة من أبنائنا أبناء الجيل الجديد ، فأنا أسمع بين الحين والآخر همساً يشبه أن يكون مكتوماً ، وأتصور أن الحياء هو الذي يلجم هذا الهمس . إن الكثيرين منهم يرغبون أن يعرفوا وجهات نظر الإسلام في الكثير مما يشغل أذهان الناس في هذه الأيام ، لكن الحياء يمسك بهم أن يطلبوا إلي ذلك مباشرةً ، وأنا في الواقع غير سعيدٍ بهذه الحال ، فأنا لا أرضى أن يشعر أبناؤنا بعد هذه المراحل التي قطعوها من المعرفة والدراسة أنهم ما يزالون صبيةً صغاراً ، ذلك شيء يؤذيني الصميم ، لأنني أعتبرهم جيل الأمانة التي سنسلمها إليهم بعد زمنٍ يطول أو يقصر . وأرغب من صميم قلبي أن يشعر كل واحدٍ منهم أنه أهل لأن يفكر ولأن يحاور ولأن يناقش ولأن يطلب ولأن يرد ، فرجوت في الحديث الماضي أن أفتح نوافذ على معضلةٍ تشغل الإنسانية في عصورها الحديثة ولم يكن الهدف أن أجعل من الكرم ومن الجود ومن الإيثار واحدةً من الخصائص الأساسية في بناء الشخصية الإسلامية ، لأن هذا غلط ، فحين نقول : إننا نبحث عن الخصائص الأساسية فتقييدنا للخصائص بأنها أساسية يعني أنها قواعد وأصول ومرتكزات ودعائم لا تنتج عن غيرها ، بل ينتج غيرها عنها . والجود والكرم والإيثار وما في هذه البابة ليس من الخصائص الأساسية لهذا الاعتبار ، بل من الخصائص الثانوية ، لأن هذه الأخلاق من السماحة والبذل وتقديم الغير على النفس وتقديم الحق على الخلق لا يمكن أن تتحصل إلا بعد أن تكون مسبوقة بالإيمان وباليقين وبالثقة فيما عند الله وعداً ووعيداً ، فهذا هو الأساس ، والأخرى نتيجة له ، وأنا في الواقع لست في سياق البحث عن الخصائص الثانوية ، أنا في سياق البحث عن الخصائص الأساسية .

 هذا الإيضاح دعاني إلى أن أقوله شعوري المؤسف بالرغم من كل المحرضات والمحفزات ، وبالرغم من كل وسائل التشجيع التي أمنحها لهؤلاء الأبناء الأحبة ، أراهم ما يزالون متشبثين بقواعد العصر الذي يعيشون فيه ، لا يريدون أن ينخلعوا عن هذه القواعد بعض الشيء ، ولا يريدون أن يحاولوا أن يسبقوا زمنهم ولو بخطوة أو بخطوتين ، ولكنهم في موقع السـلب ، في موقع التأثر ، في موقع الانفعال ، بعيداً عن الإيجابية والتأثير والفعل . وهذا يوشك أن يدفعني إلى أن أقول إن هذا الجيل جيل التعاسة ، جيل التعاسة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، لأن هذا يجعلنا شديدي الخوف والإشفاق من المستقبل . فليس نحن أنا وأبناء جيلي الذين سنصنع المسـتقبل ، لكن الذين يصنعون المستقبل هم أنتم ، وبهذه الهمم اللاطئة في الأرض لن تكون للمستقبل أية سمة .

 يا أبنائي .. العلم والتعلم والمعرفة والتفقه واكتساب الشمائل العالية لا تأتي عن طريق ما يُقدَم للناس اليوم سواء في المدارس أم في الصحف أم في برامج الإذاعة أو في برامج البث المرئي ليست هذه الأشياء معلبات ولا سندويش ، لا يمكن أن يكون الأمر بهذا الشكل ، هذه أكبر جناية يرتكبها الإنسان بحق نفسه وبحق أمته . إن المعرفة والعلم والوصول إلى مواقع الفعل والتأثير عمل دؤوب ، إسهار لليل وإنصاب للنهار ، ولقد كان الأمر كذلك في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم .

 فنحن نقرأ في أدبيات تلك العصور الزاهرة أن الصحابة رضي الله عنهم ممن آمن بمحمد واتبعه واعتقد النور الذي أُنزل معه كانوا يضطربون في شؤون الحياة ، وكانوا يعملون من أجل تحصيل القوت ، بل كانوا يعملون من أجل أن يتصدقوا في سبيل الله ، فلقد رُوي أن النبي صلى الله الله عليه وآله وسلم كان إذا أمر المسلمين بالصدقة تصدّق من يجد عنده ما ينفق ، والذي لا يجد ما ينفق يذهب في أسواق المدينة يحامل ـ يعني يشتغل حمّالاً عتالاً ـ حتى إذا كان آخر النهار جاء بحصيلة كده فتصدق بها في سبيل الله . كانوا يعملون من أجل حياتهم ومن أجل قوتهم وقوت أولادهم ، بل من أجل الصدقة ، لكن هذا لم يكن يمنعهم من متابعة المعرفة والعلم والتحصيل . وأنتم يا أبنائي تعرفون أن الدين الإسلامي نزل على أمةٍ أمية لا تقرأ ولا تكتب ولا تحسب ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : نحن أمةٌ أمية لا نقرأ ولا نكتب ولا نحسب . حينما سئل عن الشهر كم يكون ؟ قال لهم : هكذا وهكذا وهكذا ، وقبض من العشرة الثالثة إبهامه . يعني يكون تسعةً وعشرين يوماً كما يكون ثلاثين يوماً . حين ينزل دينٌ على غرار الإسلام على أمةٍ أمية لا تقرأ ولا تكتب ويكون أول نداء في هذا الدين ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) فيعلي بذلك من شأن العلم ويعلي بذلك من شأن المعرفة ، فالواجب في هذه الحالة ثقيل ، الواجب أن يتخلص الناس وبأسرع ما يمكن من الأمية وأسباب الأمية ، وكذلك كان المسلمون يفعلون ، كان الذي يذهب ليعمل في الحقل أو في التجارة لا يذهب حتى ينيب عنه رجلاً في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا جاء في المساء من عمله سأل صاحبه عما قال عليه الصلاة والسلام وعما فعل عليه الصلاة والسلام ، فإذا هو قد عرف ما جرى في ذلك اليوم ، وفي اليوم الثاني يقعد هو ويذهب زميله لكي يعمل ويضطرب ثم يأتي في المساء ليأخذ عن نظيره ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم .

 في الاستعراض الذي نلقيه على حياة الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خلال الثلاث والعشرين سنة من عمر الإسلام التي هي عمر الدعوة الإسلامية في زمن محمد عليه السلام .. نجد المجتمع الإسلامي خلية نحل ، لا يهدأون ولا يكلّون ولا يملون ، ما رأيكم أنهم كانوا حتى في حال التحام الحرب يستذكرون القرآن ويقرأون القرآن . ومن أخبارهم أنهم كانوا إذا كانت المسايفة، والمسايفة أن يلتحم الناس ليتقاتلوا بالسيوف ، تسمع للمسلمين بالقرآن دوياً كدوي النحل ، لأنهم جندوا كل الطاقات ، ولأنهم وهبوا كل القوى ، ولأنهم بخلوا بأوقاتهم وبصحتهم وبأحوال فراغهم حققوا المعجزة في أقل من ربع قرن . قارنوا المواعيد الكاذبة التي نسمعها من عام 1948 وحتى الآن ، تقريباً أربعين سنة مضت نحن نسمع المواعيد الكاذبة من كبار كذبة العالم الذين هم زعماء العالم الإسلامي وزعماء العالم العربي ، وكل يومٍ هزيمة جديدة ، لماذا ؟ ليس الحكام فقط هم المسؤولين ، أنتم أيضاً مسؤولون ، كما تكونون يولى عليكم ، لو كنتم أصحاب جد لجاءكم حكام أصحاب جد ، ولو كنتم أصحاب نظافة لجاءكم حكام أصحاب نظافة ، ولو كنتم أصحاب رؤيةٍ مستقبلية لكان حكامكم كذلك ، فأنتم جميعاً عما نحن فيه من تدهور وانحلالٍ وانحطاط وتراجع لا يريد أن ينتهي عند أحد .

 أقل من ربع قرن تُنشئ أمة وتقيم حضارة ، ومئات السنين ونحن نهوي ونهوي نحو القاع ولم نصلها حتى الآن ، السبب في ذلك كله يرجع إلى أننا سفهاء للغاية في أوقاتنا وفي قدراتنا وفي إمكاناتنا ، لا نريد أن نعمل من أجل الغد ، وإنما نعيش اللحظة الراهنة وليس وراءها أي شيء .

 يا أبنائي دعوني أقول لكم : إن هذه الحالة المؤسفة عار علينا ، ولا يجوز أن تستمر بحالٍ من الأحوال ، إنها فوق أنها تنشئ أشباه رجال تسيء إلى الأمة كمجموع وتحكم بالإعدام على المستقبل وتسمح للعدو أن يزيد في التخريب وأن يزيد في التمكين وأن يزيد في التمزيق . أنا في الأسبوع الماضي فتحت نوافذ ، وفيما بيني وبين نفسي قلت إن هذا سيعطي أرجاعاً ، لا سيما وأنني طرقت أهم نقطةٍ في موضوع الخلاف بين الإسلام وغيره من أنظمة الدنيا في الشأن الذي يشغل العصر كله وهو الشـأن الاقتصادي ، ومع ذلك لا شيء ، لماذا ؟ أذلك جائز ؟ لا بأس أنا لكم بمثابة الوالد إذا عنفتكم وإذا قسوت عليكم فتحملوني ، معلش ذلك لمصلحتكم ، أما أنا وجيلي فناس مودعون وسوف نمضي ، ونظن أن الله سبحانه وتعالى لن يطيل حسابنا ، فالله يعلم كم قاسينا وكم تعبنا وكم تعرضنا للمخاطر من أجل أن نغرس البذور في تربة المجتمع والحمد لله على كل حال .

 طالما أنكم بهذا الشكل فأنا أسمح لنفسي الآن أن أقطع السلسلة الماضية هذا اليوم فقط ، لأكمل معالم الصورة التي أعطيت في الجمعة الماضية ملامح منها . بعد الحرب العالمية الثانية ظهر لقوى الاستعمار العالمي أن استمرار النهب والسلب على المنهج القديم غير ممكن ، أي فقد ركائزه الموضوعية ، وأن عملية الاستعمار التقليدي أي أن يدخل جيش أراضي دولةٍ أخرى ويحتل بلادها ويحكمها بنفسه أصبحت عمليةً مكلفة ومرهقة ، مكلّفة على الصعيد البشري ومكلفة على الصعيد السياسي ومكلفة أكثر على الصعيد الاقتصادي . وبعد عام 45 من هذا القرن بدأت الدول المستعمَرة تحصل على الاستقلال ، دعوهم يقولون إننا قاتلنا وناضلنا وحصلنا على الاستعمار بأسنانا وأظفارنا ، فالحقيقة أنه لم يكن من ذلك شيء ، نحن عشنا هذه المرحلة ونحن رجال ونعرف دقائقها ونعرف أحوالها واشتركنا في الأمور التي كانت الأمة تقوم بها قبل الجلاء ، لكن ما كنا نقوم به ليس من شأنه أن يطرد محتلاً من الأرض ، في الحقيقة أن الاحتلال والاستعمار القديم لم يبقَ له مبرر ، فمن أجل ذلك حمل عصاه ورحل . وأُنشئت هيئة الأمم المتحدة وارتفع الصوت على المنابر العالمية ينادي بضرورة إعطاء الشعوب حرية تقرير المصير ، وتكاثرت الدول المستقلة على امتداد الكرة الأرضية .

 الحرب العالمية الثانية نهايتها أفرزت على صعيد العالم معسـكرين رئيسيين ، المعسكر الرأسمالي الذي تتزعمه أمريكا ، والمعسكر الشيوعي والاشتراكي الذي تتزعمه روسيا . وكلا المعسكرين ينادي بضرورة منح الشعوب حق تقرير المصير ، وأُعطيت الشعوب حق تقرير المصير ، ولم يبقَ من المستعمرات حتى الآن إلا النادر .

 ما لم ينتبه إليه الناس في ذلك الوقت تحت ضغط عاملين رئيسـيين ، الأول : القهر الذي طال أزماناً كثيرة ، فحطم معاني التوثب والتطلع نحو المستقبل عند الناس . والثاني : بريق المنتصر الذي يشـد إليه أنظار الناس . هذان العاملان : القهر الطويل وبريق النصر على صدور المنتصرين صرف الدول حديثة الاستقلال عن النظر بجدية إلى المشاكل الناشئة عن عملية الاستقلال . وفي العادة وعلى امتداد عمر الإنسانية أن الاستعمار إذا جلا عن أرض يترك فيها مرضين أساسيين وكبيرين ، الأول : الفقر . والثاني : عدم الثقة بالذات . إضافةً إلى أنه حين يرحل يترك في العادة أذنابه وصنائعه في البلد الذي رحل منه تأميناً للمصالح المنظورة في المستقبل . نحن كعرب وكمسلمين خضعنا لذات القوانين التي أفرزتها نتائج الحرب العالمية الثانية ، كنا أمةً مستضعفة بالتأكيد ، وأنا أتذكر تماماً أنه حين جلا الاستعمار الفرنسي عن سوريا كان قوام الجيش السوري خمسة آلاف ، منهم ألفان تحت السلاح ، والباقي للمكاتب وللمهمات ، فحالة ضعف واضحة . ومما أذكر أن ميزانية الحكومة السورية بعد الجلاء لم تكن تصل إلى مليوني ونصف مليون ليرة سوري ، فقر وضعف . لكن الاستقلال حصل عندنا وعند غيرنا ، وغيرنا من حيث الحالة العامة كما نحن بالضبط ، ولا بد من الاهتمام بالمشاكل الناشئة عن الاستقلال . للأسف بعض الناس أو معظم الناس ينظرون إلى أننا حينما نستقل عن إرادة الأجنبي فنحن قادرون على أن نفعل كل شيء ، والذي يزيد الطين بلة أن الشعوب الضعيفة حالها كحال الطفل بالنسبة لوالده ، الطفل يظن أنه إذا قال لوالده هات القمر وضعه في يميني فوالده قادرٌ على ذلك . كذلك الشعوب المستضعفة حينما تستقل تحسب أن الجهاز الحاكم عندها قادر على تحقيق المعجزات ، فمن أجل ذلك أعفت هذه الشعوب أنفسها من كل مسؤولية وجلست تنتظر من الأنظمة الحاكمة أن تقدم لها حلاوة الاستقلال .

 هذا الوضع الفاشل ولّد إرباكات وعقد ومشاكل ، كان من نتائجها هذا الاضطراب الذي شمل العالم العربي والإسلامي كله من انقلابات وحركات وانقسامات طولانية وعرضية في المجتمع ، كلها نائشة عن هذه الحالة الاجتماعية السيئة . جاء بريق الانتصار ليضع أمامنا نحن العرب والمسلمين أنموذجين ، الأنموذج الرأسـمالي المتمثل في حرية الاقتصاد وفي الأخذ والعطاء وما أشبه ذلك ، والأنموذج الاشتراكي المتمثل في الشعارات المرفوعة بتأمين القوت والحاجة لكل محتاج وتأمين العلم لكل جاهل وتأمين الحرية للمستضعفين . لا أحتاج إلى أن أقول لكم إن هذه كانت وعوداً وكانت حبراً على ورق ، بل كانت كلاماً في الهواء . فالحرية الاقتصادية ولّدت المآسي التي تسمعون عنها كل يوم ، والحرية الاجتماعية التي ينادي بها المعسكر الشيوعي جعلت من الناس أناساً فاقدي الإرادة ، يفكر لهم الحزب الشيوعي ممثلاً في لجنته المركزية ، وهذه اللجنة المركزية ممثلة في المكتب السياسي ، وهذا المكتب السياسي ممثل في مارشال الاتحاد السوفييتي ، أي جوزيف إستالين ، شخص واحد يفكر عن مئات الملايين .

 نحن إزاء هذا البريق صرفنا النظر عن أن نهتم بمشاكلنا ، وصرفنا النظر عما تمليه البديهة ، أنا حينما أقع في مشكلة فمن الطبيعي أن أبحث عن حلٍ للمشكلة ، أما أن أفتح فمي وأنتظر أن يسقط لها الحل من السماء فهذه تنبلة ، أليس كذلك ؟ نحن فعلنا نفس الشيء ، انتظرنا أن يسقط علينا الحل من السماء ، وللأسف سقطت علينا المشاكل . لا بأس سأسلم مبدئياً ومن باب الجدل أن المناهج التي اتُخذت منذ عام 52 تاريخ الثورة المصرية وحتى الآن خُطَى في الطريق الصحيح ، سأسلم مبدئياً . وبناءً على هذا فالمثقفون منكم يعلمون أن الصوت الأعلى في الكتب وفي الصحف وفي الإذاعات على صعيد العالم الثالث أو الدول المتخلفة هو صوت برامج التنمية ، صحيح هناك جهل ومرض وتخلف وفقر والناس بحاجة إلى أن يخرجوا من هذه الحال ، وكان الجواب على ذلك برامج التنمية . وما زلت أتصور وأتخيل حتى الآن بكل مرارة وأسف أواسط الخمسينات حينما استُدعي خبير التنموي المشهور شارل بنتهاي فجيء به إلى مصر بعد أن قضى مدةً طويلةً في الصين ليصف العلاج الاقتصادي لهذه الأمم المنتثرة على أديم الكرة الأرضية .

 برامج التنمية كلها فشلت في تحقيق سعادة الإنسان ، ذلك لأنك تستطيع أن تتعامل مع الجماد وفقاً لقوانين الجماد ، لكنه من المستحيل أن تتعامل مع الأحياء وفقاً لقوانين الجماد ، هذا مستحيل علمياً وواقعياً . وبرامج التنمية تتعامل مع شؤون المجتمع بالرقم وبالواقعة المادية ، أي ضمن القوانين المادية التي تدخل في المعمل ويعامل عليها الجماد ، وحتى مع صرف النظر عن المنافع التي يمكن أن تتحقق من هذا المنهج فأنا أذكر أن الزعيم الصيني الراحل ماوتسيتونغ حذر من هذه الناحية ، حذر من التسابق في ميدان التنمية وله قولة مشهورة في ذلك .

 إن سباق التنمية أخطر على البشرية من سباق التسلح ، لماذا ؟ لأن سباق التنمية يجعل الإنسان بمثابة الحمار ، أو بمثابة البهيمة ، لا هم له إلا أن يأكل ويشرب وينكح وينسل ، فإذا استمر الأمر بهذا الشكل فما هو مصير المجتمعات ؟ ما شكل المجتمعات التي تأتي بعد عشر سنوات أو عشرين أو مائة أو مائتين ؟ هل هؤلاء بشر أم بقر ؟ سيكونون أحط من البقر بالتأكيد . فالحياة ليست كلها طعاماً وليست كلها شراباً وليست كلها سفاداً كما يتسافد الحمر ، لا ، الحياة مُثُل وقيم وأهداف وأمانة مستقبل ، فإذا لم ينظر الناس إلى هذه الأمور باهتمام وبجدية فسوف تفشل الحياة وسوف تتدمر الحياة .

 وأظن أن أي واحدٍ منكم الآن ينظر إلى الساحة العالمية برمتها يشعر بأن الناس يقفون على فوهة بركان ، أو تتلاعب بهم الشياطين ، المستقبل البشري مظلم والحالة تنذر بشرٍ مستطير . من هنا أريد أن أقول لكم : إن الإسلام حين نشأ في الجزيرة العربية وسط الفقر ووسط الجوع ووسط المرض ووسط الجهل لم يفكر وفاقاً لهذه المعطيات التي نتحدث عنها ، كان أثقب نظر وأبعد رؤية وأكثر إنسانية وأقرب إلى الواقعية ، فقد تعامل مع هذه القضايا وفاقاً للقوانين الإنسانية . أنا حينما أكون فقيراً هذا ليس عيباً ، العيب أن أقبل الفقر كضريبة مفروضة إلى آخر الحياة ، هذا هو العيب ، أما أن أقبل أنني فقير ثم أعمل من واقع فقري من النقطة التي أنا فيها لكي أحسن أوضاعي ، هذا هو المنطق الإنساني السليم ، أما أن أبتدع منطقاً هو أكبر من طاقتي فهذا هو الذي سيؤدي إلى الفشل . حين نشأ الإسلام كان محاصراً ، وتعرفون أن الإسلام حوصر قبل الهجرة ، فقبل الهجرة حوصر المسلمون في شعب أبي طالب ، وظلوا هناك ثلاث سنوات لا يُباعون ولا يُشترى منهم ولا يُزوَجون ولا يُتزوَّج منهم ، ومحصورين في الشعب ، عاشوا في أسوء دركات الفقر ، وما ظنكم بالذي يفرح غاية الفرح إذا عثر على جلدٍ يابس لكي يحرقه ويسفه ويعيش به يومين أو ثلاثة أيام .

 كذلك كانت الحال ، وفي المدينة تحسنت الشروط نوعاً ما ، لكن ليس إلى الحد الذي نتصوره ، ما ظنكم بجيشِ يخرج ، لا يسأل عن التوازن الاستراتيجي بينه وبين العدو ، لا يسأل هذا الجيش عن هذه النقطة ، مؤنة الجيش تقل والجيش يسير ، ويصبح على القائد أن يوزع المؤونة بمقادير معينة حفاظاً على حياة الجنود ، والجيش يسير والمؤن تقل ، ويصبح قوت المقاتل في اليوم والليلة نصف تمرة ومع ذلك يستمر الجيش في المسير حتى يفنى كل شيء ولا ينثني الجيش عن وجهته ، ولذلك لما سأل السائل أبا هريرة : يا عم وماذا كانت تغني عنكم نصف ثمرة ؟ قال له : يا ابن أخي والله لقد وجدنا آلام فقدها حين فقدناها ، يا ليتنا بقينا على نصف التمرة ، حتى نصف التمرة لم يبقَ . الشروط كما ترون في المدينة لم تكن أفضل كثيراً من الشروط في مكة ، كانت الحال دون المستوى الإنساني المقبول ، لم يسألوا عن الحريرات اللازمة للجسم ، لم يسألوا عن الدخل العام وماذا يصيب الفرد منه ؟ لا ، وإنما هم في وضع عليهم أن يعالجوه وأن يخرجوا منه إلى حالة الصحة والسلامة . فما هي الخطوات بسرعة ؟ سأقول لكم : أول شيءٍ كما رأيتم لاحظنا بعد الهجرة أن المجتمع الإسلام تكون من فئتين متمايزتين تماماً : أهل البلد والغرباء ، الأنصار والمهاجرون ، وأهل البلد أصحاب زروع وأصحاب بساتين وأصحاب تجارات ، أي أصحاب أموال . والغرباء المهاجرون أنتم تعلمون أنهم تركوا الدور وتركوا التجارة وتركوا الأموال وتركوا الأهل وفروا بدينهم إلى الله سبحانه وتعالى ، حتى ابن عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حينما حج سأله أحد أصحابه : ألا تنزل في دارك يا رسول الله ؟ قال له : وهل أبقى لنا عقيل من ديار ؟ المشركون باعوا واستولوا وصادروا بيوت المسلمين حتى لم يبقَ لهم شيء . مع ذلك فالخطوة التي خطاها النبي صلى الله عليه وسلم وفاقاً لعوامل الإيمان التي نُميت في مكة ، وإيثارةً للشعور الإنساني الذي يجب ألا يُهمَل في مثل هذه الحالات ، آخا بين المهاجرين والأنصار ، عقد الأخوة هذا كان يستلزم الشركة في كل شيء ، الشركة في الدور ، الشركة في الأموال ، الشركة في كل شيء . وقال النبي بصراحة للأنصار : إن شئتم قسمت لكم مما أفاء الله أو يفيء الله عليّ من الغزوات من أسلاب العدو مع المهاجرين ، وشاركوكم في دوركم وفي أموالكم ، وإن شئتم كنتم على دوركم وأموالكم وأعطيتم المهاجرين دونكم ، أي لا أعطيكم أي شيء . قالوا : بل أعطهم يا رسول الله كل شيء ونحن أيضاً نشاركهم في الدور والمزارع والأموال والتجارة . لم تنشأ حساسيات ، لم تنشأ حزازات ، لم تكن هنالك بوادر ثورة ، بل لم تكن هنالك كما يحلو لبعض الكتاب المسلمين المأجورين للدوائر الأجنبية أن يتحدثوا عن بلوتارية في ذلك الوقت ، لم يكن من ذلك شيء .

 أذكر لكم مثلاً يحسن أن تتأملوا فيه كثيراً ، مكة متى فُتحت ؟ في أواخر السنة الثامنة من الهجرة ، أي قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ، أي في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت الأحوال جيدة بالمقايسة إلى العهد المكي وبالمقايسة إلى أوائل وأواسط العهد المدني أيضاً . بعد فتح مكة مباشرةً كانت غزوة أوطاس أو غزوة حنين ، تسمعون بغزوة حنين ، نصر الله المسلمين بعد كسرةٍ حلّت بهم في البداية ، وحصلت بين أيديهم أموال لا تعد ولا تحصى ، وأموال البادية إبل وغنم ، وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يعطي الفقراء ويعطي المؤلفة قلوبهم ، كم ؟ يعطي الخمسين بعيراً للرجل الواحد ويعطي المائة بعير للرجل واحد ويعطي المائتين وثلاثمائة ، بل وخمسمائة بعير للرجل الواحد ، ولا يعطي الأنصار شيئاً من ذلك أبداً . ثم فُتحت مكة ومن الطبيعي أن يتهامس الأنصار بينهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يستوطن مكة بعد أن عاد إلى بلده ولا يعود إليهم ، وأنه قد يغني المهاجرين بعد فقرٍ وعيلة ، وجرى هذا الهمس حتى بلغ مسامع النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعا نقباء الأنصار ، قال لهم : اجمعوا لي الأنصار . فجُمع الأنصار ، وقال : يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم ؟ ما هو الشيء الذي بلغني عنكم ؟ أوجدتم في أنفسكم على لعاعةٍ من الدنيا ـ واللعاعة هي الشيء الخسيس الذي لا قيمة له ـ تألفّت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ، ألا ترضون أن يرجع الناس إلى بيوتهم بالشاة والبعير وترجون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والذي نفس محمدٍ بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً مـن الأنصار . ثم رفع يديه حتى بدت حفرتا إبطيه ، وقال : اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار . فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا بالله حظاً وقسماً .

 المال الكثير الذي أُعطي للناس لم يؤثر على الأنصار بشيء ، وإنما كان تصرفاً طبيعياً . والنبي صلى الله عليه وسلم يتصرف بحكمة ، لا يتصرف تصرف الأهوج ، ليس محتاجاً إلى أن يشتري الأنصار والأعوان ، ليس محتاجاً إلى شيءٍ من ذلك ، هو عزته في الله وليست في البشر ، فلذلك هو في غنى عن المناصرين وعن الأعوان وعن الذين يمجدونه ويمدحونه ، ولكنه كان إذا تصرف تصرف بحكمة . لهذا كان من فرائض الإسلام الأولى أن الناس يتوارثون بينهم ـ الأنصار والمهاجرون ـ لا وفاقاً لقوانين الأرحام ولكن وفاقاً لعقد الأخوة ، فإذا مات الأنصاري ورثه أخـوه المهاجر ، وإذا مات المهاجري ورثه أخوه الأنصاري ، حتى أواخر العصر المدني حين نزلت سورة النساء ونزل فيها قول الله جلّ وعلا ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله ) فاستقرت المواريث على ما هو المعروف عليه الآن ، أما قبل ذلك فكان الميراث خاضعاً لقواعد الأخوة .

 إلى جانب ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهمل التوجيه ولم يهمل الإرشاد ، كان باستمرار ينبه إلى أن الدنيا فانية وإلى أن متاعها ليس مما يصح أن يتهاوش عليه الناس وإلى أن الحساب يخف يوم القيامة على الذين خفّ ما يملكون في الحياة الدنيا ، وإنما يثقل الحساب يوم القيامة على الذين ثقلت ثرواتهم في هذه الحياة الدنيا ، وكان يشجعهم على البذل والعطاء . واستمرت سُنة المسلمين بهذا الشكل ، ليس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقط ، وإنما في حياة الخلفاء الراشدين ، في زمن عمر رضي الله عنه بعث إلى حاجبه فصر صرةً فيها أربعمائة دينار وقال له : اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح وتشاغل في البيت حتى ترى ما يصنع ، فقال ذهب بها وقال هذه أرسل بها إليك عمر يقول لك استعن بها على معاشك ، قال له رحمه الله ووصلته رحمة فأخذ المال ونادى خادمه وقال له : اذهب بها إلى فلان واذهب بهذه إلى أيتام فلان حتى فرق الأربعمائة دينار كلها . فرجع فأخبر عمر . فصرّ صرةً أخرى فيها نفس المبلغ وقال اذهب بها إلى أبي ذر وتلبث في البيت وتشاغل حتى ترى ما يكون ، فلما جاء إلى عمر وأخبره قال : الحمد لله إنهم إخوة بعضهم من بعض . هكذا كان مجتمع المسلمين ، بهذا الشكل .

 ما زلت في سياسة المال ، سياسة المال أيها الإخوة مرتبطة إسلامياً في أذهان الكثرين بموضوع الزكاة ، وهذا غلط ، اليوم أعتقد أنني سأطيل عليكم شيئاً قليلاً لأنني أريد أن أنتهي من هذا الموضوع . الزكاة في الإسلام هي الحد الأدنى الذي يؤخذ من المال سواء كانت بالناس حاجة أو لم تكن بهم حاجة ، لأنها فريضة من قبل الله جلّ وعلا ، لا يجوز أن تعطل بحال من الأحوال ( ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ) ولكن الحقوق المتربة على الثروات كثيرة ، والمراجعة اليسيرة لكتب الفقه تكشـف عن هذه الحقيقة ، ولا أريد أن أتعرض لها ، إنما أريد أن أقول : إنه إلى جانب الزكاة فابتداءً منذ عهد عمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الواردات قليلة وكان ما يأتي يوزع ولا يدخر منه إلا القليل . في زمن عمر رضي الله عنه وُضع الديوان ، والديوان هو السجل العام الذي يحوي المواطنين في الدولة الإسلامية مسلمين ويهوداً ونصارى ومجوس ، ووظيفة الدولة في الإسلام أنها مسؤولة عن إعالة الناس ، مسلمهم ومعاهدهم على سواء ، وعن إيجاد المسكن لهم وعن إيجاد اللباس لهم ، فمن أجل ذلك كان الديوان قد وُظفت فيه الوظائف أي خصصت فيه الرواتب بالنسبة للمسلمين عموماً من أعلاهم إلى أدناهم ، وكانت الرواتب تبدأ من خمسة عشر ألف درهم سنوياً ، وهذا المبلغ هو أعلى رقم كان يأخذه العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم ، إلى اثني عشر ألف درهم لأمهات المؤمنين ، ثم ينحدر المبلغ إلى خمسة ألاف إلى أربعة ألاف إلى ثلاثة آلاف إلى ألفين إلى ألف إلى خمسمائة حتى يصل الطفل الرضيع الذي يولد اليوم ، متى وُلد فرض له في الديوان مائة درهمٍ في السنة ، وجُمع له بحسابٍ خاص حتى يدرك مبلغ الرجال أي يبلغ السنة الثامنة عشر من عمره فيجد المال موفراً ، أي يجد أن له رأسمالٍ موجوداً طبعاً بلا فوائد مش بنك ، موجوداً في بيت المال يأخذه حين يبلغ سن الرشد . هذا القانون يسري على المسلمين ويسري على اليهود وعلى النصارى وعلى المجوس الذين لهم ذمة الله وذمة محمد صلى الله عليه وسـلم وذمة المسلمين .

 قد يقول قائل : وميزانية الدول المعاصرة لا تتحمل هـذا الشيء ، وأنا أقول : نعم ، لكن الخطأ ليس في الإسلام وإنما الخطأ في المناهج الحاضرة . في الإسلام يا إخوة الأمر مختلف ، ومن الخطأ أن نحاسب الإسلام على إفراز المناهج الأرضية التي اعتمدها أصحابها فأفرزت لهم المشكلات . أنتم تعرفون في الموازنات وخاصة الدول الكبرى والدولة المستقلة حديثاً ميزانية دفاع تبلغ ثلثي رقم الميزانية العامة ، ولا تناقش هذه الميزانية ، أريد أن أقول لكم : إن الإسلام لا يدفع للقوات المسلحة فلساً واحداً ، لماذا ؟ لأن القتال في الإسلام عبادة والعبادة لا تؤجر ، العبادة لا راتب لها ، لأن الجهاد في الإسلام فريضة ، والفرائض لا يأخذ الذين يقومون عليها أجراً ولا راتباً ، لأن القتال في سبيل الله تطوع وليس مهنةً ولا احترافاً ، هذا من جهة . ومن جهةٍ أخرى فنحن ندري من حقائق التاريخ ومن حقائق تاريخنا نحن المسلمين بالذات أن المؤسسات العسكرية حيثما وُجدت ومتى وجدت فهي مؤسسات قهر وإذلال للمواطنين ، مؤسسات إفساد للحياة العامة في كل مناحيها ، فلذلك الإسلام لا يتعرّف بتاتاً على الذين يقاتلون مأجورين لأن الذي يأجر نفسه لك يأجر نفسه لغيرك ، وأنت كمسلم أنت في عقد مع الله سبحانه وتعالى ، ماذا قال الله ؟ قال ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) أليس كذلك قال الله ؟ إذاً أنت كمسلم في عقدٍ مع الله سبحانه وتعالى ، دفع لك الله جلّ وعلا بضمانه لك الجنة الجزء الأول من العقد ، وبقي الثاني وهو حياتك أنت مدينٌ بها لله ، أنت قبضت الثمن وليـس لك أن تطلب عليه أجراً ، وحين تقاتل في سبيل الله فليس بينك وبين أن تلج الجنة إلا أن تموت .

 ولهذا السبب ولهذه العلة لا يجوز أن يكون في الإسلام جيشٌ مأجور ، لأن القتال في سبيل الله في سلم العبادة أعلى من الصلاة وأعلى من الصيام ، لا يعلو عليه إلا كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله . فإذا نحن حذفنا ميزانية القوات المسلحة والمؤسسات العسكرية والطفيليات التي تنشأ على جانبيها ورددناها إلى الأمة فإن الأمة سوف تعيش في بحبوحة ، أليس كذلك يا إخوة يا من تعرفون الحساب ؟ أليس كذلك الأمر ؟ إذاً فنحن لا نحاسَب وفاقاً لمعطيات لمجتمع المعاصر ، نحن نحاسَب وفقاً لقوانين الإسلام وقواعد الإسلام ، فأنتم ترون إذاً أن الكفاية حاصلة بالنسبة للمسلمين إذا هم طبقوا قواعد الإسلام ومناهج الإسلام ونظام الإسلام .

 مشكلة الأرض ، المشكلة التي تشغل الناس حتى الآن ، تعرفون أن المصادرات لم تحل شيئاً ، وتعرفون أن التأميمات لم تحل شيئاً ، وتعرفون أن قوانين إصلاح الزراعي عندنا وعند غيرنا دخل عليه ألف تعديل وتعديل ، لأنه مختل ، كيف حل الإسلام المشكلة ؟ حين جاء المهاجرون كان الأنصار أصحاب أرض ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ـ ولاحظوا لا داعي للسجون ولا داعي للتشريعات ولا داعي لمباحث ولا داعي لتعليم ولا داعي لإرهاق الناس ما لا يقدرون على حمله ، توجيه فقط ـ قال : يا معشر المسلمين من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه ولا يأخذ عليها أجراً . من كانت له أرض فليزرعها بنفسه أو ليمنحها لأخيه يزرعها ولا يأخذ عليها أجراً ، واستمر العمل بهذا الشكل إلى آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ما هي العبرة التي نأخذها من كل الذي قلناه ؟ هي عبرة بسـيطة لكنها إنسانية ، أنا في واقع تحكمه قواعد التخلف وقوانينه ، لا بأس ، هل أحل المشكلة عن طريق صندوق النقد الدولي ؟ أم أحل المشكلة عن طريق الاستقراض من البنوك الخاصة ؟ أم أحل المشكلة عن طريق مصادرة الناس ؟ لا هذا ولا ذاك ولا ذلك ، وإنما أحل المشكلة بالتنمية التي تبدأ من الصفر ، من المعطيات الموجودة بالفعل ، وأن أعوّد الناس أن يشعروا أن قيمة الرجل ليست فيما يملك ، لا ، قيمة الرجل في الشمائل العالية ، في الخصائل النبيلة ، قيمة الرجل هنا ، وأن قيمة الأمة ليست في ارتفاع مسـتوى الدخل أبداً ، وإنما في قدرتها على البذل وقدرتها على العطاء وقدرتها على التضحية .

 يا أحبابنا مرّ رجل من أمام النبي صلى الله عليه وسلم ، كان سميناً كاسياً شبعان ، فقال : ماذا تظنون بهذا ؟ قالوا : هذا حري إذا دخل أن يُعطى صدر المجلس وإذا تكلم أن يُسمع لقوله وإذا خطب أن يزوج ، رجل من الوجهاء عليه علائم النعمة ، وسألهم عن رجل من ضعفة المسلمين ، قال : وفلان ؟ قالوا : يا رسول الله هذا رجل إذا دخل لا يُؤبه له وإذا تكلم لا يُسـمع له وإذا خطب لا يزوج ، قال : والذي نفس محمدٍ بيده لهذا خير من طلاع الأرض مثل هذا . يعني هذا الضعيف الفقير خير من ملء الأرض من هذا السمين صاحب النعمة .

 أخرى كانوا في مجلس وهم ضمن شروط الفقر ، قال لهم : يا معشر المسـلمين كيف بكم إذا أصبحتم يُغدى عليكم كل يومٍ بالجفان ويُراح عليكم بالجفان ؟ يعني تأتيكم صيواني اللحم والثرود في الصباح ومثلها في المساء ، أأنتم الآن خير أم في ذلك الوقت ؟ يعني أنتم في هذه الحالة الضعيفة أفضل أم حينما تكونون أغنياء مترفين ؟ قالوا ؟ لا يا رسول الله ، حين ذاك نكون خيراً نُكفى المؤنة ونتفرغ للعبادة . هذا الفهم البشـري صححه النبي صلى الله عليه وسلم فوراً ، قال لهم : لا ، إنكم الآن خير منكم يومئذٍ . ما الذي يشد الإنسان إلى الأرض أيها الإخوة ؟ متاع الحياة الدنيا أليس كذلك ؟ هو الذي يجعل الإنسان يأسف لفراق الحياة ، وهو الذي يجعل الإنسان يذل ويجبن عند الملمات والشدائد ، وهو الذي يجعل الإنسان يبخل ويشح ويقطع رحمه ، متاع الحياة الدنيا ، لكن الإسلام علم الناس أن متاع الحياة الدنيا لا شيء ( قل متاع الحياة الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تُظلمون فتيلاً ) وعلمهم أن الحياة معبر وطريق وممر وأن الحياة الحقيقية هـي عند الله ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ) والحيوان هنا معناها الحياة الحقيقية ، الإسلام علم المسلمين هذا . اسألوني لأي سبب ؟ لأن المسلمين أمة رسالة أمة وظيفة ، لأن المسلمين أمناء الله في أرضه ، لأن المسلمين أمناء المستقبل البشري وأمناء المصير الإنساني ، والأمة المترفة المترهلة لا تستطيع أن تؤدي أمانة ، ولا تستطيع أن تقوم بتكاليف رسالة ، إنما الأمة الخشنة المستوحشة من الدنيا هي التي تستطيع أن تحمل هذه التكاليف الثقال ، فالإسلام إذاً يربي الناس على نهجٍ حينما نتحدث عنه في هذه الأيام يقول بعض الناس : ماذا يتحدث هؤلاء ؟ أهم يهرفون بما لا يعرفون ؟ أم هم يخرّفون ؟ لا يا أحبابنا ، نحن في الواقع لا نهرف بما لا نعرف ، نحن نتكلم بعلم ونحن لا نخرب وإنما نتكلم بعقل ، لأننا نلتمس لأمتنا مكان الشرف ومكان الصدارة . أما هم فهم الذين يتكلمون بألسنة البقر وألسنة الحمر ، هم لذين يتكلمون بهذه الألسنة ، لأنهم يريدون أن يحولوا الناس إلى أشباه رجال ، إلى هياكل ليس فيها رجولة ولا شهامة ولا كرامة ولا شرف لكي يظلوا راكبين على أسلافهم ، هذه هي المأساة وهذا هو الشيء الذي يجب أن ننتهي منه وأن نخرج منه بأسرع ما يمكن ، نحن أمة لا كالأمم ، لا ، نظلم أنفسنا ونظلم قضيتنا إذا قلنا إن قوانين الشرق أو الغرب ينبغي أن تطبق علينا ، طز على قوانين الشرق وعلى قوانين الغرب ، ما قيمة هذا إذا كان الله يقول كذا ويقول كذا ؟ أنصدق هؤلاء السفلة أم نصدق الله ؟ أنصدق هؤلاء المنخوبي الفؤاد أم نصدق محمداً رسول الله ؟ لا يا أحباب ، لا تظلموا أنفسكم ولا تظلموا تاريخكم ولا تظلموا مستقبلكم ولا تظلموا الإنسانية معكم ، أنتم لا تصلح لكم الاشتراكية ، وأنتم لا تصح لكم الرأسمالية ، إنما يصلح لكم الله ويصلح لكم شرع الله ويصلح لكم توجيه محمد رسول الله ، وغير هذا فدمار وفشل ، والأيام بيننا ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .